الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفة حصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه

            لما وقع ما وقع يوم الجمعة ، وشج أمير المؤمنين عثمان وهو في رأس المنبر ، وسقط مغشيا عليه ، واحتمل إلى داره ، تفاقم الأمر وطمع فيه أولئك الأجلاف الأخلاط من الناس وألجئوه إلى داره وضيقوا عليه ، وأحاطوا بها محاصرين له ، ولزم كثير من الصحابة بيوتهم ، وسار إليه جماعة من أبناء الصحابة عن أمر آبائهم ; منهم الحسن والحسين ، وعبد الله بن الزبير - وكان أمير الدار - وعبد الله بن عمر ، وصاروا يجاحفون عنه ، ويناضلون دونه أن يصل إليه أحد منهم ، وأسلمه بعض الناس رجاء أن يجيب أولئك إلى واحدة مما سألوا ، فإنهم كانوا قد طلبوا منه إما أن يعزل نفسه أو يسلم إليهم مروان بن الحكم ، ولم يقع في خلد أحد أنه يقتل ، إلا ما كان في نفس أولئك الخارجين عليه . وانقطع عثمان عن المسجد ، فكان لا يخرج إليه إلا قليلا في أوائل الأمر ، ثم انقطع بالكلية في آخره ، وكان يصلي بالناس في هذه الأيام الغافقي بن حرب . وقد استمر الحصر أكثر من شهر . وقيل : أربعين يوما . حتى كان آخر ذلك أن قتل شهيدا ، رضي الله عنه ، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى . والذي ذكره ابن جرير أن الذي كان يصلي بالناس في هذه المدة وعثمان محصور طلحة بن عبيد الله . وروى الواقدي أن عليا صلى أيضا ، وصلى أبو أيوب وصلى بهم سهل بن حنيف ، وكان يجمع بهم علي ، وهو الذي صلى بهم بعد . وقد خاطب الناس في غبون ذلك بأشياء ، وجرت أمور سنورد منها ما تيسر . وبالله المستعان .

            قال الإمام أحمد : بسنده عن : قال الأحنف : انطلقنا حجاجا فمررنا بالمدينة ، فبينما نحن في منزلنا إذ جاءنا آت فقال : الناس في المسجد . فانطلقت أنا وصاحبي فإذا الناس مجتمعون على نفر في المسجد قال : فتخللتهم حتى قمت عليهم ، فإذا علي بن أبي طالب والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص ، قال : فلم يكن ذلك بأسرع من أن جاء عثمان يمشي ، فقال : هاهنا علي ؟ قالوا : نعم . قال : أهاهنا الزبير ؟ قالوا : نعم . قال : أهاهنا سعد ؟ قالوا : نعم . قال : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قال : من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له فابتعته فأتيت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فقلت : إني قد ابتعته . فقال : " اجعله في مسجدنا وأجره لك " ؟ قالوا : نعم . قال : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، أتعلمون أن رسول ، صلى الله عليه وسلم ، قال : من يبتاع بئر رومة ؟ . فابتعتها بكذا وكذا ، فأتيت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فقلت : إني قد ابتعتها - يعني بئر رومة - فقال : اجعلها سقاية للمسلمين ولك أجرها " ؟ قالوا : نعم . قال : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، نظر في وجوه القوم يوم جيش العسرة فقال : من يجهز هؤلاء غفر الله له فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا ؟ قالوا : اللهم نعم . فقال : اللهم اشهد ، اللهم اشهد ، اللهم اشهد . ثم انصرف .

            طريق أخرى : قال عبد الله بن أحمد : بسنده عن زيد بن أسلم ، عن أبيه قال : شهدت عثمان يوم حصر في موضع الجنائز ، ولو ألقي حجر لم يقع إلا على رأس رجل ، فرأيت عثمان أشرف من الخوخة التي تلي مقام جبريل ، فقال : أيها الناس أفيكم طلحة ؟ فسكتوا . ثم قال : أيها الناس أفيكم طلحة ؟ فسكتوا . ثم قال : أيها الناس أفيكم طلحة ؟ فقام طلحة بن عبيد الله ، فقال له عثمان : ألا أراك هاهنا ؟ ما كنت أرى أنك تكون في جماعة قوم تسمع ندائي آخر ثلاث مرات ثم لا تجيبني ، أنشدك الله يا طلحة ، تذكر يوم كنت أنا وأنت مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في موضع كذا وكذا ، ليس معه أحد من أصحابه غيري وغيرك - فقال : نعم - فقال لك رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : يا طلحة إنه ليس من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق من أمته معه في الجنة ، وإن عثمان بن عفان هذا - يعنيني - رفيقي في الجنة ؟ . فقال طلحة : اللهم نعم . ثم انصرف . لم يخرجوه .

            طريق أخرى : قال عبد الله بن أحمد : بسنده عن ثمامة بن حزن القشيري ، قال : شهدت الدار يوم أصيب عثمان ، فاطلع عليهم اطلاعة ، فقال : ادعوا لي صاحبيكم اللذين ألباكم علي ، فدعيا له فقال : أنشدكما الله ، أتعلمان أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، لما قدم المدينة ضاق المسجد بأهله ، فقال : من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين وله خير منها في الجنة ؟ . فاشتريتها من خالص مالي فجعلتها بين المسلمين ، وأنتم تمنعوني أن أصلي فيه ركعتين ! ثم قال : أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

            طريق أخرى : قال الإمام أحمد : بسنده قال : دعا عثمان رجالا من أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فيهم عمار بن ياسر ، فقال : إني سائلكم وإني أحب أن تصدقوني ، نشدتكم الله ، أتعلمون أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، كان يؤثر قريشا على سائر الناس ، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش ؟ فسكت القوم ، فقال عثمان : لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم . فبعث إلى طلحة والزبير ، فقال عثمان : ألا أحدثكما عنه - يعني عمارا - أقبلت مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، آخذا بيدي نتمشى في البطحاء حتى أتى على أبيه وأمه وعليه يعذبون ، فقال أبو عمار : يا رسول الله ، الدهر هكذا ؟ فقال له النبي ، صلى الله عليه وسلم : " اصبر " . ثم قال : " اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت " . تفرد به أحمد ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب .

            طريق أخرى : قال الإمام أحمد : بسنده عن ابن عمر أن عثمان أشرف على أصحابه وهو محصور فقال : علام تقتلوني ؟ فإني سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ؛ رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم ، أو قتل عمدا فعليه القود ، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل . فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ، ولا قتلت أحدا فأقيد نفسي منه ، ولا ارتددت منذ أسلمت ؛ إني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله .

            طريق أخرى : قال الإمام أحمد : بسنده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، قال : أشرف عثمان من القصر وهو محصور ، فقال : أنشد بالله من شهد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يوم حراء ، إذ اهتز الجبل فركله بقدمه ، ثم قال : اسكن حراء ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد ، وأنا معه . فانتشد له رجال . قال : أنشد بالله من شهد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يوم بيعة الرضوان ، إذ بعثني إلى المشركين إلى أهل مكة فقال : " هذه يدي وهذه يد عثمان " فبايع لي ؟ فانتشد له رجال .

            إرسال عثمان رضي الله عنه وإلى معاوية وابن عامر لطرد الخوارج

            وقد ذكر ابن جرير أن عثمان ، رضي الله عنه ، لما رأى ما فعله هؤلاء الخوارج من أهل الأمصار ، من محاصرته في داره ، ومنعه الخروج إلى المسجد ، كتب إلى معاوية بالشام ، وإلى ابن عامر بالبصرة ، وإلى أهل الكوفة ، يستنجدهم في بعث جيش يطردون هؤلاء من المدينة ، فبعث معاوية حبيب بن مسلمة ، وانتدب يزيد بن أسد القسري في جيش ، وبعث أهل الكوفة جيشا ، وأهل البصرة جيشا ، فلما سمع أولئك بخروج الجيوش إليهم صمموا في الحصار ، فما اقترب الجيوش إلى المدينة حتى جاءهم قتل عثمان ، رضي الله عنه ، كما سنذكره .

            وذكر ابن جرير أن عثمان استدعى الأشتر النخعي ، ووضعت لعثمان وسادة في كوة من داره ، فأشرف على الناس فقال له عثمان : يا أشتر ماذا يريدون ؟ فقال : إنهم يريدون منك إما أن تعزل نفسك عن الإمرة ، وإما أن تقيد من نفسك من قد ضربته ، أو جلدته ، أو حبسته ، وإما أن يقتلوك .

            وفي رواية أنهم طلبوا منه أن يعزل نوابه عن الأمصار ويولي عليها من يريدون هم ، وإن لم يعزل نفسه ، أن يسلم لهم مروان بن الحكم فيعاقبوه كما زور على عثمان كتابه إلى مصر . فخشي عثمان إن سلمه إليهم أن يقتلوه ، فيكون سببا في قتل امرئ مسلم ، وما فعل من الأمر ما يستحق بسببه القتل ، واعتذر عن الاقتصاص مما قالوا بأنه رجل ضعيف البدن كبير السن . وأما ما سألوه من خلعه نفسه فإنه لا يفعل ولا ينزع قميصا قمصه الله إياه ، ويترك أمة محمد يعدو بعضها على بعض ، وقال لهم فيما قال : وأي شيء إلي من الأمر إن كنت كلما كرهتم أميرا عزلته ، وكلما رضيتم عنه وليته ؟ وقال لهم فيما قال : والله لئن قتلتموني لا تتحابوا بعدي أبدا ، ولا تصلوا جميعا أبدا ، ولا تقاتلوا بعدي عدوا جميعا أبدا . وقد صدق ، رضي الله عنه فيما قال .

            وعن النعمان بن بشير قال : كتب معي معاوية إلى عائشة كتابا فدفعت إليها كتابه ، فحدثتني أنها سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول لعثمان : إن الله لعله يقمصك قميصا فإن أرادك أحد على خلعه فلا تخلعه ثلاث مرات . قال النعمان : فقلت يا أم المؤمنين ، فأين كنت عن هذا الحديث ؟ فقالت : يا بني ، والله أنسيته .

            وعن أبي سهلة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " ادعوا لي بعض أصحابي " . قلت : أبو بكر ؟ قال : " لا " . قلت : عمر ؟ قال : " لا " . قلت : ابن عمك علي ؟ قال : " لا " . قالت : قلت : عثمان ؟ قال : " نعم " . فلما جاء قال : تنحي . فجعل يساره ولون عثمان يتغير . فلما كان يوم الدار وحصر فيها قلنا : يا أمير المؤمنين ألا تقاتل ؟ قال : لا ؛ إن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عهد إلي عهدا وإني صابر نفسي عليه .

            وعن يزيد بن عمرو أنه سمع أبا ثور الفهمي يقول : قدمت على عثمان فبينا أنا عنده فخرجت فإذا بوفد أهل مصر قد رجعوا فدخلت على عثمان فأعلمته ، فقال : وكيف رأيتهم ؟ فقلت : رأيت في وجوههم الشر ، وعليهم ابن عديس البلوي ، فصعد ابن عديس منبر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فصلى بهم الجمعة وتنقص عثمان في خطبته ، فدخلت على عثمان فأخبرته بما قام فيهم ، فقال : كذب والله ابن عديس ، ولولا ما ذكر ما ذكرت ذلك ، إني لرابع أربعة في الإسلام ، ولقد أنكحني رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ابنته ، ثم توفيت ، فأنكحني ابنته الأخرى ، والله ولا زنيت ولا سرقت في جاهلية ولا إسلام ، ولا تعتيت ولا تمنيت منذ أسلمت ، ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ولا أتت علي جمعة إلا وأنا أعتق فيها رقبة منذ أسلمت ، إلا أن لا أجدها في تلك الجمعة فأجمعها في الجمعة الثانية .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية