الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            فصل في ذكر شيء من سيرته العادلة وطريقته الفاضلة ومواعظه وقضاياه الفاصلة ، وخطبه الكاملة وحكمه التي هي إلى القلوب واصلة

            قال عبد الوارث عن أبي عمرو بن العلاء ، عن أبيه قال : خطب علي فقال : أيها الناس ، والله الذي لا إله إلا هو ما رزأت من مالكم قليلا ولا كثيرا إلا هذه . وأخرج قارورة من كم قميصه فيها طيب . فقال : أهداها إلى الدهقان . ثم أتى بيت المال فقال : خذوا . وأنشأ يقول :


            أفلح من كانت له قوصره يأكل منها كل يوم تمره

            وفي رواية : مره . وفي رواية :

            طوبى لمن كانت له قوصره

            . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

            وعن عبد الله بن زرير الغافقي قال : دخلنا مع علي يوم الأضحى ، فقرب إلينا خزيرة ، فقلنا : أصلحك الله ، لو قدمت إلينا هذا البط والإوز ، فإن الله قد أكثر الخير . فقال : يا ابن زرير ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان ; قصعة يأكلها هو وأهله ، وقصعة يطعمها الناس " .

            وعن هارون بن عنترة عن أبيه قال : دخلت على علي بن أبي طالب بالخورنق وعليه قطيفة وهو يرعد من البرد ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك نصيبا في هذا المال ، وأنت تفعل بنفسك هذا ؟ ! فقال : إني والله لا أرزأ من مالكم شيئا ، وهذه القطيفة هي التي خرجت بها من بيتي . أو قال : من المدينة .

            وقال أبو نعيم : سمعت سفيان الثوري يقول : ما بنى علي لبنة على لبنة ، ولا قصبة على قصبة ، وإن كان ليؤتى بجبوبه من المدينة في جراب .

            وعن مجمع بن سمعان التيمي قال : خرج علي بن أبي طالب بسيفه إلى السوق فقال : من يشتري مني سيفي هذا ؟ فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إزارا ما بعته .

            وعن جعفر - قال : أظنه عن أبيه - أن عليا كان إذا لبس قميصا مد يده في كمه ، فما فضل من الكم عن الأصابع قطعه ، وقال : ليس للكم فضل عن الأصابع .

            وعن ابن عباس قال : اشترى علي قميصا بثلاثة دراهم وهو خليفة ، وقطع كمه من موضع الرسغين ، وقال : الحمد لله الذي هذا من رياشه .

            وعن مولى لأبي عصيفير قال : رأيت عليا خرج فأتى رجلا من أصحاب الكرابيس ، فقال له : عندك قميص سنبلاني ؟ قال : فأخرج إليه قميصا فلبسه ، فإذا هو إلى نصف ساقيه ، فنظر عن يمينه وعن شماله فقال : ما أرى إلا قدرا حسنا ، بكم هو ؟ قال : بأربعة دراهم يا أمير المؤمنين . قال : فحلها من إزاره فدفعها إليه ، ثم انطلق .

            وقال محمد بن سعد : أنا الفضل بن دكين ، أنا الحسن بن جرموز ، عن أبيه قال : رأيت عليا وهو يخرج من القصر وعليه قطريتان ; إزار إلى نصف الساق ، ورداء مشمر قريب منه ، ومعه درة له يمشي بها في الأسواق ، ويأمر الناس بتقوى الله وحسن البيع ، ويقول : أوفوا الكيل والميزان . ويقول : لا تنفخوا اللحم .

            وقال عبد الله بن المبارك في " الزهد " : أنا رجل ، حدثني صالح بن ميثم ، ثنا زيد بن وهب الجهني قال : خرج علينا علي بن أبي طالب ذات يوم وعليه بردان ، متزر بأحدهما مرتد بالآخر ، قد أرخى جانب إزاره ورفع جانبا ، وقد رفع رداءه بخرقة ، فمر به أعرابي فقال : أيها الإنسان ، البس من هذه الثياب فإنك ميت أو مقتول . فقال : أيها الأعرابي ، إنما ألبس هذين الثوبين ليكونا أبعد لي من الزهو ، وخيرا لي في صلاتي ، وسنة للمؤمن .

            وعن أبي مطر قال : خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي من خلفي : ارفع إزارك ; فإنه أنقى لثوبك وأتقى لك ، وخذ من رأسك إن كنت مسلما . فمشيت خلفه وهو بين يدي مؤتزر بإزار مرتد برداء ومعه الدرة ، كأنه أعرابي بدوي ، فقلت : من هذا ؟ فقال لي رجل : أراك غريبا بهذا البلد . فقلت : أجل ، أنا رجل من أهل البصرة . فقال : هذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين . حتى انتهى إلى دار بنى أبي معيط وهي سوق الإبل ، فقال : بيعوا ولا تحلفوا ; فإن اليمين تنفق السلعة وتمحق البركة . ثم أتى أصحاب التمر ، فإذا خادم تبكي فقال : ما يبكيك ؟ فقالت : باعني هذا الرجل تمرا بدرهم فرده موالي ، فأبى أن يقبله . فقال له علي : خذ تمرك وأعطها درهمها ; فإنها ليس لها أمر . فدفعه ، فقلت : أتدري من هذا ؟ فقال : لا . فقلت : هذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين . فصبت تمره وأعطاها درهمها ، ثم قال الرجل : أحب أن ترضى عني يا أمير المؤمنين . قال : ما أرضاني عنك إذا أوفيت الناس حقوقهم . ثم مر مجتازا بأصحاب التمر فقال : يا أصحاب التمر ، أطعموا المساكين يرب كسبكم . ثم مر مجتازا ومعه المسلمون ، حتى انتهى إلى أصحاب السمك ، فقال : لا يباع في سوقنا طاف . ثم أتى دار فرات وهي سوق الكرابيس ، فأتى شيخا فقال : يا شيخ ، أحسن بيعي في قميص بثلاثة دراهم . فلما عرفه لم يشتر منه شيئا ، ثم آخر ، فلما عرفه لم يشتر منه شيئا ، فأتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم ، وكمه ما بين الرسغين إلى الكفين يقول في لبسه : الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس ، وأواري به عورتي . فقيل له : يا أمير المؤمنين ، هذا شيء ترويه عن نفسك ، أو شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لا ، بل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله عند الكسوة . فجاء أبو الغلام صاحب الثوب فقيل له : يا فلان ، قد باع ابنك اليوم من أمير المؤمنين قميصا بثلاثة دراهم . قال : أفلا أخذت منه درهمين ؟ فأخذ منه أبوه درهما ، ثم جاء به إلى أمير المؤمنين وهو جالس مع المسلمين على باب الرحبة ، فقال : أمسك هذا الدرهم . فقال : ما شأن هذا الدرهم ؟ فقال : كان قميصا ثمن درهمين . فقال : باعني رضاي وأخذ رضاه .

            وعن الشعبي قال : وجد علي بن أبي طالب درعه عند رجل نصراني ، فأقبل به إلى شريح يخاصمه . قال : فجاء علي حتى جلس إلى جنب شريح وقال : يا شريح ، لو كان خصمي مسلما ما جلست إلا معه ، ولكنه نصراني ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كنتم وإياهم في طريق فاضطروهم إلى مضايقه ، وصغروا بهم كما صغر الله بهم من غير أن تطغوا " . ثم قال : هذا الدرع درعي ولم أبع ولم أهب . فقال شريح للنصراني : ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين ؟ فقال النصراني : ما الدرع إلا درعي ، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب . فالتفت شريح إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ، هل من بينة ؟ فضحك علي وقال : أصاب شريح ، ما لي بينة . فقضى بها شريح للنصراني . قال : فأخذها النصراني ، ومشى خطى ثم رجع فقال : أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء ، أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه ، وقاضيه يقضي عليه ! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين ، اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من بعيرك الأورق . فقال : أما إذ أسلمت فهي لك . وحمله على فرس . قال الشعبي : فأخبرني من رآه يقاتل الخوارج مع علي يوم النهروان .

            وقال سعيد بن عبيد ، عن علي بن ربيعة : جاء جعدة بن هبيرة إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ، يأتيك الرجلان أنت أحب إلى أحدهما من أهله وماله ، والآخر لو يستطيع أن يذبحك لذبحك ، فتقضي لهذا على هذا ! قال : فلهزه علي وقال : إن هذا شيء لو كان لي فعلت ، ولكن إنما ذا شيء لله .

            وعن صالح بياع الأكسية ، عن جدته قالت : رأيت عليا اشترى تمرا بدرهم ، فحمله في ملحفته ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين ، ألا نحمله عنك . فقال : أبو العيال أحق بحمله .

            وعن أبي هاشم ، عن زاذان قال : كان علي يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة ، يرشد الضال ويعين الضعيف ، ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ، ويقرأ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا [ القصص : 83 ] . ثم يقول : نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس .

            وعن عبادة بن زياد ، عن صالح بن أبي الأسود ، عمن حدثه ، أنه رأى عليا قد ركب حمارا ودلى رجليه إلى موضع واحد ، ثم قال : أنا الذي أهنت الدنيا .

            وعن الحسن بن صالح قال : تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز ، فقال قائلون : فلان . وقال قائلون : فلان . فقال عمر بن عبد العزيز : أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب

            وقال هشام بن حسان : بينا نحن عند الحسن البصري إذ أقبل رجل من الأزارقة فقال : يا أبا سعيد ، ما تقول في علي بن أبي طالب ؟ قال : فاحمرت وجنتا الحسن ، وقال : رحم الله عليا ، إن عليا كان سهما لله صائبا في أعدائه ، وكان في محلة العلم أشرفها وأقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رباني هذه الأمة ، لم يكن لمال الله بالسروقة ، ولا في أمر الله بالنئومة ، أعطى القرآن عزائمه وعمله وعلمه ، فكان منه في رياض مونقة ، وأعلام بينة ، ذاك علي بن أبي طالب يا لكع .

            وعن أبي مكين قال : مررت أنا وخالي أبو أمية على دار في محل حي من مراد ، فقال : ترى هذه الدار ؟ قلت : نعم . قال : فإن عليا مر عليها وهم يبنونها ، فسقطت عليه قطعة فشجته ، فدعا الله أن لا يكمل بناؤها . قال : فما وضعت عليها لبنة . قال : فكنت أمر عليها لا تشبه الدور .

            وعن أبي بشير الشيباني قال : شهدت الجمل مع مولاي ، فما رأيت يوما قط أكثر ساعدا نادرا وقدما نادرة من يومئذ ، ولا مررت بدار الوليد قط إلا ذكرت يوم الجمل . قال : فحدثني الحكم بن عتيبة أن عليا دعا يوم الجمل فقال : اللهم خذ أيديهم وأقدامهم .

            من كلامه الحسن رضي الله عنه

            ومن كلامه الحسن ، رضي الله عنه : عن أبي أراكة يقول : صليت مع علي صلاة الفجر ، فلما انفتل عن يمينه مكث كأن عليه كآبة ، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح صلى ركعتين ، ثم قلب يده ، فقال : والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئا يشبههم ، لقد كانوا يصبحون صفرا شعثا غبرا ، بين أعينهم كأمثال ركب المعزى ، قد باتوا لله سجدا وقياما ، يتلون كتاب الله ، يراوحون بين جباههم وأقدامهم ، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح ، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم ، والله لكأن القوم باتوا غافلين . ثم نهض ، فما رئي بعد ذلك مفترا يضحك ، حتى قتله ابن ملجم عدو الله الفاسق .

            وقال وكيع ، عن عمرو بن منبه ، عن أوفى بن دلهم ، عن علي بن أبي طالب أنه قال : تعلموا العلم تعرفوا به ، واعملوا به تكونوا من أهله ، فإنه يأتي من بعدكم زمان ينكر فيه من الحق تسعة أعشاره ، وإنه لا ينجو منه إلا كل نومة منبت الداء ، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم ، ليسوا بالعجل المذاييع البذر . ثم قال : إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وإن الآخرة قد أتت مقبلة ، ولكل واحدة منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، ألا وإن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطا ، والتراب فراشا ، والماء طيبا ، ألا من اشتاق إلى الآخرة سلا عن الشهوات ، ومن أشفق من النار رجع عن الحرمات ، ومن طلب الجنة سارع إلى الطاعات ، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات ، ألا إن لله عبادا كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين ، وأهل النار في النار معذبين ، شرورهم مأمونة ، وقلوبهم محزونة ، وأنفسهم عفيفة ، وحوائجهم خفيفة ، صبروا أياما قليلة لعقبى راحة طويلة ، أما الليل فصافون أقدامهم ، تجري دموعهم على خدودهم ، يجأرون إلى ربهم : ربنا ربنا . يطلبون فكاك رقابهم ، وأما النهار فعلماء حلماء ، بررة أتقياء ، كأنهم القداح ، ينظر إليهم الناظر فيقول : مرضى . وما بالقوم من مرض ، وخولطوا . ولقد خالط القوم أمر عظيم .

            وعن الأصبغ بن نباتة قال : صعد علي ذات يوم المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر الموت ، فقال : عباد الله ، الموت ليس منه فوت ، إن أقمتم له أخذكم ، وإن فررتم منه أدرككم ، فالنجاء النجاء ، والوحاء الوحاء ، وراءكم طالب حثيث ; القبر ، فاحذروا ضغطته وظلمته ووحشته ، ألا وإن القبر حفرة من حفر النار ، أو روضة من رياض الجنة ، ألا وإنه يتكلم في كل يوم ثلاث مرات فيقول : أنا بيت الظلمة ، أنا بيت الدود ، أنا بيت الوحشة . ألا وإن وراء ذلك يوما يشيب فيه الصغير ، ويسكر فيه الكبير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ، ألا وإن وراء ذلك ما هو أشد منه ; نار حرها شديد ، وقعرها بعيد ، وحليها حديد ، وماؤها صديد ، وخازنها ملك ليس لله فيه رحمة . قال : ثم بكى وبكى المسلمون حوله ، ثم قال : ألا وإن وراء ذلك جنة ، عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، جعلنا الله وإياكم من المتقين ، وأجارنا وإياكم من العذاب الأليم .

            وعن أوفى بن دلهم قال : خطب علي فقال : أما بعد ، فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع ، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع ، وإن المضمار اليوم ، وغدا السباق ، ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل ، فمن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خيب عمله ، ألا فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون له في الرهبة ، ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها ، ولم أر كالنار نام هاربها ، ألا وإنه من لم ينفعه الحق ضره الباطل ، ومن لم يستقم به الهدى حار به الضلال ، ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن ، ودللتم على الزاد ، ألا أيها الناس ، إنما الدنيا عرض حاضر ، يأكل منها البر والفاجر ، وإن الآخرة وعد صادق ، يحكم فيها ملك قادر ، ألا إن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ، والله واسع عليم ، أيها الناس ، أحسنوا في عمركم تحفظوا في عقبكم ، فإن الله وعد جنته من أطاعه ، وأوعد ناره من عصاه ، إنها نار لا يهدأ زفيرها ، ولا يفك أسيرها ، ولا يجبر كسيرها ، حرها شديد ، وقعرها بعيد ، وماؤها صديد ، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل . وفي رواية : فإن اتباع الهوى يصد عن الحق ، وطول الأمل ينسي الآخرة .

            وعن عاصم بن ضمرة قال : ذم رجل الدنيا عند علي ، فقال علي : الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار نجاة لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود منها ، مهبط وحي الله ، ومصلى ملائكته ، ومسجد أنبيائه ، ومتجر أوليائه ، ربحوا فيها الرحمة ، واكتسبوا فيها الجنة ، فمن ذا يذمها وقد آذنت ببينها ، ونادت بفراقها ، وشبهت بشرورها السرور ، وببلائها إليه ترغيبا وترهيبا ، فيا أيها الذام للدنيا المعلل نفسه ، متى خدعتك الدنيا ، أو متى استذمت إليك ؟ أبمصارع آبائك في البلى ؟ أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى ؟ ! كم مرضت بيديك ، وعللت بكفيك ، تطلب له الشفاء ، وتستوصف له الأطباء ، لا يغني عنك دواؤك ، ولا ينفعك بكاؤك .

            وعن أبي البختري قال : جاء رجل إلى علي فأطراه ، وكان يبغض عليا ، فقال له : لست كما تقول ، وأنا فوق ما في نفسك .

            وروى ابن عساكر أن رجلا قال لعلي : ثبتك الله . قال : على صدرك . وعن يحيى بن يعمر قال : قال علي : إن الأمر ينزل من السماء كقطر المطر ، لكل نفس ما كتب الله لها من زيادة أو نقصان ، في نفس أو أهل أو مال ، فمن رأى نقصا في نفسه أو أهله أو ماله ، ورأى لغيره غفيرة فلا يكونن ذلك له فتنة ، فإن المسلم ما لم يغش دناءة يظهر تخشعا لها إذا ذكرت ، وتغري به لئام الناس ، كالياسر الفالج ينتظر أول فوزة من قداحه توجب له المغنم وتدفع عنه المغرم ، فكذلك المسلم البريء من الخيانة بين إحدى الحسنيين إذا ما دعا الله ، فما عند الله خير له ، وإما أن يرزقه الله مالا فإذا هو ذو أهل ومال ، ومعه حسبه ودينه ، الحرث حرثان ; فحرث الدنيا المال والبنون ، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات ، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام . قال سفيان : ومن يحسن أن يتكلم بهذا الكلام إلا علي ؟ !

            وعن مهاجر العامري قال : كتب علي بن أبي طالب عهدا لبعض أصحابه على بلد ، فيه : أما بعد ، فلا تطولن حجابك على رعيتك ، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة الضيق ، وقلة علم بالأمور ، والاحتجاب يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه ، فيضعف عندهم الكبير ، ويعظم الصغير ، ويقبح الحسن ، ويحسن القبيح ، ويشاب الحق بالباطل ، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور ، وليس على القول سمات يعرف بها ضروب الصدق من الكذب ، فتحصن من الإدخال في الحقوق بلين الحجاب ، فإنما أنت أحد الرجلين ; إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ، ففيم احتجابك من حق واجب أن تعطيه ، أو خلق كريم تسدد به ؟ وإما مبتلى بالمنع والشح ، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا يئسوا من خيرك ، مع أن أكثر حاجات الناس إليك ما لا مؤنة فيه عليك ; من شكاة مظلمة ، أو طلب إنصاف ، فانتفع بما وصفت لك ، واقتصر على حظك ورشدك ، إن شاء الله .

            وقال المدائني : كتب علي إلى بعض عماله : رويدا ، فكأن قد بلغت المدى ، وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي المغتر بالحسرة ، ويتمنى المضيع التوبة ، والظالم الرجعة .

            شعر علي بن أبي طالب

            وعن الشعبي قال : كان أبو بكر يقول الشعر ، وكان عمر يقول الشعر ، وكان علي يقول الشعر ، وكان علي أشعر الثلاثة . وعن أبي عبيدة قال : كتب معاوية إلى علي : يا أبا الحسن ، إن لي فضائل كثيرة ، وكان أبي سيدا في الجاهلية ، وصرت ملكا في الإسلام ، وأنا صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخال المؤمنين ، وكاتب الوحي . فقال علي : أبالفضائل يفخر علي ابن آكلة الأكباد ؟ ! ثم قال : اكتب يا غلام :


            محمد النبي أخي وصهري     وحمزة سيد الشهداء عمي
            وجعفر الذي يمسي ويضحي     يطير مع الملائكة ابن أمي
            وبنت محمد سكني وعرسي     مسوط لحمها بدمي ولحمي
            وسبطا أحمد ولداي منها     فأيكم له سهم كسهمي
            سبقتكم إلى الإسلام طرا     صغيرا ما بلغت أوان حلمي

            قال : فقال معاوية : أخفوا هذا الكتاب لا يقرؤه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالب .

            وعن الأصبغ بن نباتة ، عن علي أنه جاءه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، إن لي إليك حاجة قد رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك ، فإن أنت قضيتها حمدت الله وشكرتك ، وإن أنت لم تقضها حمدت الله وعذرتك . فقال علي : اكتب على الأرض ; فإني أكره أن أرى ذل السؤال في وجهك . فكتب : إني محتاج . فقال علي : علي بحلة . فأتى بها ، فأخذها الرجل فلبسها ، ثم أنشأ يقول :


            كسوتني حلة تبلى محاسنها     فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا
            إن نلت حسن ثنائي نلت مكرمة     ولست تبغي بما قد قلته بدلا
            إن الثناء ليحيي ذكر صاحبه     كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا
            لا تزهد الدهر في خير تواقعه     فكل عبد سيجزى بالذي عملا

            فقال علي : علي بالدنانير . فأتي بمائة دينار ، فدفعها إليه . قال الأصبغ : فقلت : يا أمير المؤمنين ، حلة ومائة دينار ؟ ! قال : نعم . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أنزلوا الناس منازلهم " . وهذه منزلة هذا الرجل عندي .

            ومما أنشده أبو بكر محمد بن يحيى الصولي لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب :


            ألا فاصبر على الحدث الجليل     وداو جواك بالصبر الجميل
            ولا تجزع فإن أعسرت يوما     فقد أيسرت في الدهر الطويل
            ولا تظنن بربك ظن سوء     فإن الله أولى بالجميل
            فإن العسر يتبعه يسار     وقول الله أصدق كل قيل
            فلو أن العقول تجر رزقا     لكان الرزق عند ذوي العقول
            فكم من م?ؤمن قد جاع يوما     سيروى من رحيق السلسبيل

            فمن هوان الدنيا على الله أنه سبحانه يجيع المؤمن من نفاسته ، ويشبع الكلب مع خساسته ، والكافر يأكل ويشرب ، ويلبس ويتمتع ، والمؤمن يجوع ويعرى ، وذلك لحكمة اقتضتها حكمة أحكم الحاكمين .

            ومما أنشده علي بن جعفر الوراق لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب :


            أجد الثياب إذا اكتسيت فإنها     زين الرجال بها تعز وتكرم
            ودع التواضع في الثياب تخوفا     فالله يعلم ما تجن وتكتم
            فرثاث ثوبك لا يزيدك زلفة     عند الإله وأنت عبد مجرم
            وبهاء ثوبك لا يضرك بعد أن     تخشى الإله وتتقي ما يحرم

            وهذا كما جاء في الحديث : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ثيابكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " . وقال الثوري : ليس الزهد في الدنيا بلبس العباء ولا بأكل الخشن ، إنما الزهد في الدنيا قصر الأمل .

            وعن عمرو بن العلاء ، عن أبيه قال : وقف علي على قبر فاطمة ، فأنشأ يقول :


            ذكرت أبا أروى فبت كأنني     برد الهموم الماضيات وكيل
            لكل اجتماع من خليلين فرقة     وكل الذي قبل الممات قليل
            وإن افتقادي واحدا بعد واحد     دليل على أن لا يدوم خليل
            سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي     ويحدث بعدي للخليل خليل
            إذا انقطعت يوما من العيش مدتي     فإن عناء الباكيات قليل

            وأنشد بعضهم لعلي رضي الله عنه :


            حقيق بالتواضع من يموت     ويكفي المرء من دنياه قوت
            فما للمرء يصبح ذا هموم     وحرص ليس تدركه النعوت
            صنيع مليكنا حسن جميل     وما أرزاقه عنا تفوت
            فيا هذا سترحل عن قليل     إلى قوم كلامهم السكوت

            وهذا الفصل يطول استقصاؤه ، وقد ذكرنا منه ما فيه مقنع لمن أراده ، ولله الحمد والمنة .

            وعن أيوب السختياني ، أنه قال : من أحب أبا بكر فقد أقام الدين ، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل ، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله ، ومن أحب عليا فقد استمسك بالعروة الوثقى ، ومن قال الحسنى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق . غريبة من الغرائب وآبدة من الأوابد

            قال : عبد الرزاق قال معمر مرة وأنا مستقبله ، وتبسم وليس معنا أحد فقلت له : ما شأنك ؟ قال : عجبت من أهل الكوفة ، كأن الكوفة إنما بنيت على حب علي ، ما كلمت أحدا منهم إلا وجدت المقتصد منهم الذي يفضل عليا على أبى بكر وعمر ، منهم سفيان الثوري . قال : فقلت لمعمر : ورأيته ؟ - كأني أعظمت ذاك - فقال معمر : وما ذاك ؟ ! لو أن رجلا قال : علي أفضل عندي منهما . ما عنفته إذا ذكر فضلهما إذا قال : عندي . ولو أن رجلا قال : عمر عندي أفضل من علي وأبي بكر . ما عنفته . قال عبد الرزاق : فذكرت ذلك لوكيع بن الجراح ونحن خاليان فاشتهاها أبو سفيان وضحك وقال : لم يكن سفيان يبلغ بنا هذا الحد ، ولكنه أفضى إلى معمر ما لم يفض إلينا ، وكنت أقول لسفيان : يا أبا عبد الله ، أرأيت إن فضلنا عليا على أبى بكر وعمر ، ما تقول في ذلك ؟ فيسكت ساعة ثم يقول : أخشى أن يكون ذلك طعنا على أبي بكر وعمر ، ولكنا نقف .

            عن أبي صالح الحنفي قال : رأيت علي بن أبي طالب أخذ المصحف فوضعه على رأسه ، حتى أني لأرى ورقه يتقعقع . قال : ثم قال : اللهم إنهم منعوني ما فيه فأعطني ما فيه . ثم قال : اللهم إني قد مللتهم وملوني وأبغضتهم وأبغضوني ، وحملوني على غير طبيعتي وخلقي وأخلاق لم تكن تعرف لي ، اللهم فأبدلني بهم خيرا منهم ، وأبدلهم بي شرا مني ، اللهم أمث قلوبهم ميث الملح في الماء . قال إبراهيم : يعني أهل الكوفة .

            وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قال لي الحسن بن علي : قال لي علي : إن رسول الله سنح لي الليلة في منامي ، فقلت : يا رسول الله ، ما لقيت من أمتك من الأود واللدد ؟ قال : " ادع عليهم " . فقلت : اللهم أبدلني بهم من هو خير منهم ، وأبدلهم بي من هو شر مني . فخرج فضربه الرجل . الأود : العوج ، واللدد : الخصومة

            وروى أبو داود في كتاب " القدر " أنه لما كان أيام الخوارج كان أصحاب علي يحرسونه كل ليلة عشرة يبيتون في المسجد بالسلاح ، فرآهم علي فقال : ما يجلسكم ؟ فقالوا : نحرسك . فقال : من أهل السماء ؟ ثم قال : إنه لا يكون في الأرض شيء حتى يقضى في السماء ، وإن علي من الله جنة حصينة . وفي رواية : وإن الأجل جنة حصينة ، وإنه ليس من الناس أحد إلا وقد وكل به ملك ، فلا تريده دابة ولا شيء إلا قال : اتقه اتقه . فإذا جاء القدر خلى عنه - وفي رواية : ملكان يدفعان عنه ، فإذا جاء القدر خليا عنه - وإنه لا يجد عبد حلاوة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه .

            وكان علي يدخل المسجد كل ليلة فيصلي فيه ، فلما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها قلق تلك الليلة ، وجمع أهله ، فلما خرج إلى المسجد صرخ الإوز . في وجهه ، فسكتوهن عنه ، فقال : ذروهن فإنهن نوائح . فلما خرج إلى المسجد ضربه ابن ملجم ، فكان ما ذكرنا قبل . فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، ألا نقتل مرادا كلها ؟ فقال : لا ، ولكن احبسوه وأحسنوا إساره ، فإن مت فاقتلوه ، وإن عشت فالجروح قصاص . وجعلت أم كلثوم بنت علي تقول : ما لي ولصلاة الغداة ، قتل زوجي عمر أمير المؤمنين صلاة الغداة ، وقتل أبي أمير المؤمنين صلاة الغداة . رضي الله عنها .

            وقيل لعلي : ألا تستخلف ؟ فقال : لا ، ولكن أترككم كما ترككم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن يرد الله بكم خيرا يجمعكم على خيركم كما جمعكم على خيركم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهذا اعتراف منه في آخر وقت من الدنيا بفضل الصديق . وقد ثبت عنه بالتواتر أنه خطب بالكوفة في أيام خلافته ودار إمارته ، فقال : أيها الناس ، إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ، ثم عمر ، ولو شئت أن أسمي الثالث لسميت . وعنه أنه قال : وهو نازل من المنبر : ثم عثمان ثم عثمان .

            [قصة الأرغفة الثمانية ودقة قضائه رضي الله عنه

            وأخرج عن زر بن حبيش قال: (جلس رجلان يتغديان: مع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة أرغفة، فلما وضعا الغداء بين أيديهما.. مر بهما رجل فسلم، فقالا: اجلس للغداء، فجلس وأكل معهما، واستووا في أكلهم الأرغفة الثمانية، فقام الرجل، وطرح إليهما ثمانية دراهم، وقال: خذاها عوضا مما أكلت لكما، ونلته من طعامكما، فتنازعا.

            فقال صاحب الخمسة الأرغفة: لي خمسة دراهم، ولك ثلاثة، وقال صاحب الأرغفة الثلاثة: لا أرضى إلا أن تكون الدراهم بيننا نصفين.

            فارتفعا إلى أمير المؤمنين علي، فقصا عليه قصتهما، فقال لصاحب الثلاثة: قد عرض عليك صاحبك ما عرض، وخبزه أكثر من خبزك فارض بالثلاثة.

            فقال: والله؛ لا رضيت عنه إلا بمر الحق، فقال علي رضي الله عنه: ليس لك في مر الحق إلا درهم واحد، وله سبعة دراهم.

            فقال الرجل: سبحان الله!! قال: هو ذلك، قال: فعرفني الوجه في مر الحق حتى أقبله.

            فقال علي: أليس للثمانية أرغفة أربعة وعشرون ثلثا أكلتموها وأنتم ثلاثة أنفس؟ ولا يعلم الأكثر منكم أكلا ولا الأقل؟ فتحملون في أكلكم على السواء، قال: فأكلت أنت ثمانية أثلاث، وإنما لك تسعة أثلاث، وأكل صاحبك ثمانية أثلاث، وله خمسة عشر ثلثا، أكل منها ثمانية وبقي سبعة، وأكل لك واحدة من تسعة، فلك واحد بواحدك، وله سبعة، فقال الرجل: رضيت الآن.

            وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» عن عطاء قال: (أتي علي برجل وشهد عليه رجلان أنه سرق، فأخذ في شيء من أمور الناس وتهدد شهود الزور، وقال: (لا أوتي بشاهد زور... إلا فعلت به كذا وكذا)، ثم طلب الشاهدين، فلم يجدهما، فخلى سبيله. [اضرب ظله]

            وقال عبد الرزاق في «المصنف» : عن علي: أنه أتي برجل، فقيل له: (زعم هذا أنه احتلم بأمي؟ فقال: اذهب فأقمه في الشمس فاضرب ظله). [بعض حكمه ونصحه رضي الله عنه لحملة القرآن

            وأخرج ابن عساكر عن ربيعة بن ناجد قال: قال علي: (كونوا في الناس كالنحلة في الطير؛ إنه ليس في الطير شيء... إلا وهو يستضعفها، ولو يعلم الطير ما في أجوافها من البركة... لم يفعلوا ذلك بها، خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم، وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم، فإن للمرء ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحب).

            وأخرج عن علي قال: (كونوا بقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل؛ فإنه لن يقل عمل مع التقوى، وكيف يقل عمل يتقبل؟!)

            وأخرج عن يحيى بن جعدة قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (يا حملة القرآن؛ اعملوا به، فإنما العالم من علم ثم عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يجلسون حلقا، فيباهي بعضهم بعضا، حتى إن الرجل يغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله).

            وأخرج عن علي قال: (التوفيق خير قائد، وحسن الخلق خير قرين، والعقل خير صاحب، والأدب خير ميراث، ولا وحشة أشد من العجب).

            وأخرج عن الحارث قال: (جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: أخبرني عن القدر، فقال: طريق مظلم لا تسلكه، قال: أخبرني عن القدر؟ قال: بحر عميق لا تلجه، قال: أخبرني عن القدر، قال: سر الله قد خفي عليك فلا تفتشه، قال: أخبرني عن القدر؟ قال: يا أيها السائل، إن الله خلقك لما شاء أو لما شئت؟ قال: بل لما شاء، قال: فيستعملك فيما شاء).

            وأخرج عن علي قال: (إن للنكبات نهايات، ولابد لأحد إذا نكب.. من أن ينتهي إليها، فينبغي للعاقل إذا أصابته نكبة.. أن ينام لها حتى تنقضي مدتها، فإن في دفعها قبل انقضاء مدتها زيادة في مكروهها).

            وأخرج عن علي أنه قيل له: (ما السخاء؟ قال: ما كان منه ابتداء، فأما ما كان عن مسألة... فحياء وتكرم).

            وأخرج عن علي: (أنه أتاه رجل فأثنى عليه فأطراه، وكان قد بلغه عنه قبل ذلك، فقال له علي: إني لست كما تقول، وأنا فوق ما في نفسك).

            وأخرج عن علي قال: (جزاء المعصية الوهن في العبادة، والضيق في المعيشة، والتعس في اللذة، قيل: وما التعس في اللذة؟ قال: لا ينال شهوة حلالا إلا جاءه ما ينغصه إياها).

            [احفظ عني أربعا وأربعا]

            وأخرج عن عقبة بن أبي الصهباء قال: (لما ضرب ابن ملجم عليا .. دخل عليه الحسن وهو باك، فقال له علي: يا بني؛ احفظ عني أربعا وأربعا، قال: وما هن يا أبت؟

            قال: إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب، وأكرم الكرم حسن الخلق.

            قال: فالأربع الأخرى؟ قال: إياك ومصاحبة الأحمق؛ فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، وإياك ومصادقة الكذاب؛ فإنه يقرب عليك البعيد ويبعد عليك القريب، وإياك ومصادقة البخيل؛ فإنه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصادقة الفاجر؛ فإنه يبيعك بالتافه).

            وأخرج ابن عساكر عن علي أنه أتاه يهودي فقال له: (متى كان ربنا؟) فتمعر وجه علي، فقال: (لم يكن فكان، هو كان ولا كينونة، كان بلا كيف، كان ليس له قبل ولا غاية، انقطعت الغايات دونه، فهو غاية كل غاية). فأسلم اليهودي. ذكر بعض سيرته

            كان أبو رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خازنا لعلي على بيت المال ، فدخل علي يوما وقد زينت ابنته ، فرأى عليها لؤلؤة كان عرفها لبيت المال ، فقال : من أين لها هذه ؟ لأقطعن يدها ! فلما رأى أبو رافع جده في ذلك قال : أنا والله يا أمير المؤمنين زينتها بها . فقال علي : لقد تزوجت بفاطمة وما لي فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار وما لي خادم غيرها .

            قال ابن عباس : قسم علم الناس خمسة أجزاء ، فكان لعلي منها أربعة أجزاء ، ولسائر الناس جزء شاركهم علي فيه فكان أعلمهم به .

            وقال أحمد بن حنبل : ما جاء لأحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ما جاء لعلي .

            وقال عمرو بن ميمون : لما ضرب عمر بن الخطاب وجعل الخلافة في الستة من الصحابة ، فلما خرجوا من عنده قال : إن يولوها الأجلح يسلك بهم الطريق ، فقال له ابنه عبد الله : فما يمنعك يا أمير المؤمنين ( من توليته ) ؟ قال : أكره أن أتحملها حيا وميتا .

            وقال عاصم بن كليب عن أبيه : قدم على علي مال من أصبهان ، فقسمه على سبعة أسهم ، فوجد فيه رغيفا فقسمه على سبعة ، ودعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطى أولا .

            وقال هارون بن عنترة عن أبيه : دخلت على علي بالخورنق - وهو فصل شتاء - وعليه خلق قطيفة ، وهو يرعد فيه ، فقلت : يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيبا وأنت تفعل هذا بنفسك ؟ فقال : والله ما أرزأكم شيئا ، وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة .

            وقال يحيى بن سلمة : استعمل علي عمرو بن سلمة على أصبهان ، فقدم ومعه مال وزقاق فيها عسل وسمن ، فأرسلت أم كلثوم بنت علي إلى عمرو تطلب منه سمنا وعسلا ، فأرسل إليها ظرف عسل وظرف سمن . فلما كان الغد خرج علي وأحضر المال والعسل والسمن ليقسم ، فعد الزقاق فنقصت زقين ، فسأله عنهما ، فكتمه وقال : نحن نحضرها ، فعزم عليه إلا ذكرها له ، فأخبره ، فأرسل إلى أم كلثوم فأخذ الزقين منها ، فرآهما قد نقصا ، فأمر التجار بتقويم ما نقص منهما ، فكان ثلاثة دراهم ، فأرسل إليها فأخذها منها ثم قسم الجميع .

            قيل : وخرج من همدان فرأى رجلين يقتتلان ، ففرق بينهما ثم مضى ، فسمع صوتا : يا غوثاه بالله ! فخرج يحضر نحوه وهو يقول : أتاك الغوث . فإذا رجل يلازم رجلا . فقال : يا أمير المؤمنين بعت هذا ثوبا بسبعة دراهم ، وشرطت أن لا يعطيني مغموزا ولا مقطوعا ، وكان شرطهم يومئذ ، فأتاني بهذه الدراهم ، فأتيت ولزمته ، فلطمني . فقال للاطم : ما تقول ؟ فقال : صدق يا أمير المؤمنين . فقال : أعطه شرطه . فأعطاه . وقال للملطوم : اقتص . قال : أو أعفو يا أمير المؤمنين ؟ قال : ذلك إليك . ثم قال : يا معشر المسلمين خذوه ، فأخذوه ، فحمل على ظهر رجل كما يحمل صبيان الكتاب ، ثم ضربه خمس عشرة درة وقال : هذا نكال لما انتهكت من حرمته .

            ولما قتل - عليه السلام - قام ابنه الحسن خطيبا فقال : لقد قتلتم الليلة رجلا في ليلة نزل فيها القرآن ، وفيها رفع عيسى ، وفيها قتل يوشع بن نون ، والله ما سبقه أحد كان قبله ، ولا يدركه أحد يكون بعده ، والله إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعثه في السرية وجبرائيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، والله ما ترك ( صفراء ولا بيضاء ) إلا ثمانمائة أو سبعمائة أرصدها لجارية .

            وقال سفيان : إن عليا لم يبن آجرة على آجرة ، ولا لبنة على لبنة ، ولا قصبة على قصبة ، وإن كان ليؤتى بحبوبه من المدينة في جراب .

            ( وقيل : إنه أخرج سيفا له إلى السوق فباعه وقال : لو كان عندي أربعة دراهم ثمن إزار لم أبعه . وكان لا يشتري ممن يعرفه ، وإذا اشترى قميصا قدر كمه على طول يده وقطع الباقي ) . وكان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير الذي يأكل منه ويقول : لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم .

            وقال الحسن بن صالح : تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز ، فقال عمر : أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب .

            وقال المدائني : نظر علي إلى قوم ببابه ، فقال لقنبر مولاه : من هؤلاء ؟ قال : شيعتك يا أمير المؤمنين . قال : وما لي لا أرى فيهم سيما الشيعة ؟ قال : وما سيماهم ؟ قال : خمص البطون من الطوي ، يبس الشفاه من الظمإ ، عمش العيون من البكاء .

            ( ومناقبه لا تحصى ، قد جمعت قضاياه في كتاب مفرد ) .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية