الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            باب خلافة علي رضوان الله عليه

            أول من بايعه

            قال محمد بن الحنفية رضي الله عنه: كنت مع أبي حين قتل عثمان رضي الله عنه ، فقام فدخل منزله ، فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له: إن هذا الرجل قد قتل ، ولا بد للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الأمر منك ، لا أقدم سابقة ، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: لا تفعلوا ، فإني أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا ، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك ، قال: ففي المسجد ، فإن بيعتي لا تكون إلا عن رضا المسلمين . فدخل المهاجرون والأنصار فبايعوه ، ثم بايعه الناس . وقيل: أول من بايعه طلحة . وعن قيس ، قال: رأى أعرابي طلحة يبايع عليا رضي الله عنه ، قال: يد شلاء وأمر لا يتم .

            وقال الزهري : أرسل إلى طلحة والزبير فدعاهما إلى البيعة فتلكأ طلحة ، فقال الأشتر وسل سيفه: والله لتبايعن أو لأضربن به بين عينيك ، فقال طلحة: وأين المذهب عنه ، فبايعه وبايعه الزبير .

            من لم يبايعه من الصحابة

            وهرب قوم إلى الشام فلم يبايعوه ، ولم يبايعه قدامة بن مظعون ، وعبد الله بن سلام ، والمغيرة بن شعبة .

            قال حبيب بن محمد الهاشمي: تربص سبعة فلم يبايعوه: سعد ، وابن عمر ، وصهيب ، وزيد بن ثابت ، ومحمد بن مسلمة ، وسلمة بن سلام بن وقش ، وأسامة بن زيد .

            أخبرنا محمد بن عبد الله بن سواد ، وطلحة بن الأعلم ، وأبو حارثة ، وأبو عثمان ، قالوا: بقيت المدينة بعد قتل عثمان خمسة أيام وأميرها الغافقي يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه ، يأتي المصريون عليا فيختبئ منهم ويلوذ بحيطان المدينة ، فإذا لقوه باعدهم وتبرأ منهم ومن مقالتهم مرة بعد مرة ، ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه ، فأرسلوا إليه حيث هو رسلا فباعدهم وتبرأ منهم ، ويطلب البصريون طلحة فإذا لقوه باعدهم وتبرأ من مقالتهم مرة بعد مرة ، وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيمن يهوون ، فلما لم يجدوا ممالئا ولا مجيبا جمعهم الشر على أول من أجابهم ، وقالوا: لا نولي أحدا من هؤلاء الثلاثة ، فبعثوا إلى سعد بن أبي وقاص ، فقالوا: إنك من أهل الشورى ، ورأينا فيك مجتمع ، فأقدم نبايعك ، فبعث إليهم: إني وابن عمي خرجنا منها فلا حاجة لي فيها على حال ، وتمثل:


            لا تخلطن خبيثات بطيبة واخلع ثيابك منها وانج عريانا

            ثم وجدوا سعدا والزبير خارجين من المدينة ، وطلحة في حائط له ، وبني أمية قد هربوا إلا من لم يطق الهرب ، وكان الوليد وسعيد ومروان قد لحقوا بمكة . ثم إنهم لقوا عبد الله بن عمر ، فقالوا: أنت ابن عمر فقم بهذا الأمر ، فقال: إن لهذا الأمر انتقاما ، والله لا أتعرض له ، فالتمسوا غيري . فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون .

            وعن محمد وطلحة ، قالا: قالوا: يا أهل المدينة قد أجلناكم يومكم ، فو الله لئن لم تفرغوا لنقتلن غدا عليا وطلحة والزبير وأناسا كثيرا ، فغشي الناس عليا ، فقالوا: نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام ، فقال: دعوني والتمسوا غيري ، فقالوا: ننشدك الله إلا ما فعلت ، فقال: قد أجبتكم لما أرى ، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم ، إلا أني أسمعكم وأطوعكم .

            فلما أصبحوا من يوم الجمعة حضر الناس المسجد ، وجاء علي حتى صعد المنبر ، وجاءوا بطلحة فقالوا: بايع ، فقال: إني إنما أبايع كرها ، فبايع أول الناس ، وكان به شلل ، فقال رجل يعتاف: إنا لله وإنا إليه راجعون ، أول يد بايعت أمير المؤمنين يد شلاء ، لا يتم هذا الأمر . ثم جيء بالزبير فقال مثل ذلك ، ثم بايع . ثم جيء بقوم كانوا قد تخلفوا ، فقالوا: نبايع على إقامة كتاب الله في القريب والبعيد ، والعزيز والذليل ، فبايعهم ، ثم قام العامة فبايعوه .

            وقت مبايعة علي رضي الله عنه

            وبويع علي رضي الله عنه يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة . وعن عياش بن هشام ، عن أبيه ، قال: بويع علي رضي الله عنه بالمدينة يوم الجمعة حين قتل عثمان ، لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة ، فاستقبل المحرم سنة ست وثلاثين [قال غير عياش ]: كانت بيعته في دار عمرو بن محصن الأنصاري ، [ثم أحد بني عمرو بن مبذول ] يوم الجمعة ، ثم بويع بيعته العامة من الغد يوم السبت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . أول خطبة بعد البيعة

            وكان أول خطبة خطبها أنه حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله تعالى أنزل كتابا هاديا بين فيه الخير والشر ، فخذوا بالخير ودعوا الشر ، إن الله حرم حرما مجملة ، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها ، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين ، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق ، لا يحل أذى مسلم إلا بما يجب ، بادروا أمر العامة ، وخاصة أحدكم الموت ، فإن الناس أمامكم وإنما خلفكم الساعة تحدوكم فتخففوا تلحقوا ، فإنما ينتظر الناس أخراهم ، اتقوا الله عباده في عباده وبلاده ، إنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم ، أطيعوا الله ولا تعصوه ، وإذا رأيتم الخير فخذوا به وإذا رأيتم الشر فدعوه : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض [ الأنفال : 26 ] فلما فرغ من خطبته قال المصريون :


            خذها إليك واحذرن أبا الحسن     إنا نمر الأمر إمرار الرسن
            صولة أقوام كأسداد السفن     بمشرفيات كغدران اللبن
            ونطعن الملك بلين كالشطن     حتى يمرن على غير عنن

            فقال علي مجيبا لهم :


            إني عجزت عجزة لا أعتذر     سوف أكيس بعدها وأستمر
            أرفع من ذيلي ما كنت أجر     وأجمع الأمر الشتيت المنتشر
            إن لم يشاغبني العجول المنتصر     أو يتركوني والسلاح يبتدر



            نواب الأمصار الذين مات عنهم عثمان رضي الله عنهم

            وكان على الكوفة أبو موسى الأشعري على الصلاة ، وعلى الحرب القعقاع بن عمرو ، وعلى الخراج جابر بن فلان المزني ، وعلى البصرة عبد الله بن عامر ، وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وقد تغلب عليه محمد بن أبي حذيفة ، وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان ، ونوابه ; على حمص عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وعلى قنسرين حبيب بن مسلمة ، وعلى الأردن أبو الأعور ، وعلى فلسطين علقمة بن حكيم ، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس ، وعلى قرقيسياء جرير بن عبد الله البجلي ، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس ، وعلى ماه مالك بن حبيب ، وعلى همذان النسير . هذا ما ذكره ابن جرير من نواب عثمان الذين توفي وهم نواب الأمصار ، وكان على بيت المال عقبة بن عمرو ، وعلى قضاء المدينة زيد بن ثابت .

            المطالبة بأخذ ثأر عثمان رضي الله عنهم

            ولما قتل عثمان بن عفان خرج النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان مضمخ بدمه ، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين جاحفت عنه بيدها ، فقطعت مع بعض الكف فورد به على معاوية بالشام ، فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس ، وعلق الأصابع في كم القميص ، وندب الناس إلى الأخذ بثأر هذا الدم وصاحبه ، فتباكى الناس حول المنبر ، وجعل القميص يرفع تارة ويوضع تارة ، والناس يتباكون حوله سنة ، وحث بعضهم بعضا على الأخذ بثأره ، واعتزل أكثر الناس النساء في هذا العام ، وقام في الناس معاوية وجماعة من الصحابة معه يحرضون الناس على المطالبة بدم عثمان ممن قتله من أولئك الخوارج ; منهم عبادة بن الصامت ، وأبو الدرداء ، وأبو أمامة ، وعمرو بن عبسة ، وغيرهم من الصحابة ومن التابعين ; شريك بن خباشة ، وأبو مسلم الخولاني ، وعبد الرحمن بن غنم ، وغيرهم من التابعين .

            رفض علي المطالبة بأخذ دم عثمان رضي الله عنهما

            ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورءوس الصحابة ، رضي الله عنهم ، وطلبوا منه إقامة الحدود ، والأخذ بدم عثمان . فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان ، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا ، فطلب منه الزبير أن يوليه إمرة الكوفة ليأتيه بالجنود ، وطلب منه طلحة أن يوليه إمرة البصرة ليأتيه منها بالجنود ، ليتقوى بهم على شوكة هؤلاء الخوارج ، وجهلة الأعراب الذين كانوا معهم في قتل عثمان ، رضي الله عنه ، فقال لهما : حتى أنظر في هذا . ودخل عليه المغيرة بن شعبة على إثر ذلك فقال له : إني أرى أن تقر عمالك على البلاد ، فإذا أتتك طاعتهم استبدلت بعد ذلك بمن شئت وتركت من شئت . ثم جاءه من الغد فقال له : إني أرى أن تعزلهم لتعلم من يطيعك ممن يعصيك . فعرض ذلك علي على ابن عباس فقال : لقد نصحك بالأمس وغشك اليوم . فبلغ ذلك المغيرة فقال : نعم نصحته فلما لم يقبل غششته . ثم خرج المغيرة فلحق بمكة ، ولحق جماعة منهم طلحة والزبير بمكة ، وكانوا قد استأذنوا عليا في الاعتمار فأذن لهم ، ثم إن ابن عباس أشار على علي باستمراره بنوابه في البلاد إلى حين يتمكن الأمر ، وأن يقر معاوية خصوصا على الشام وقال له : إني أخشى إن عزلته عنها أن يطالبك بدم عثمان ، ولا آمن طلحة والزبير أن يكرا عليك بسبب ذلك . فقال علي : إني لا أرى هذا ، ولكن اذهب أنت إلى الشام فقد وليتكها . فقال ابن عباس : إني أخشى من معاوية أن يقتلني بعثمان ، أو يحبسني لقرابتي منك ، ولكن اكتب إلى معاوية فمنه وعده . فقال علي : والله إن هذا ما لا يكون أبدا . فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين إن الحرب خدعة كما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فوالله لئن أطعتني لأوردنهم بعد صدرهم . ونهى ابن عباس عليا فيما أشار عليه أن يقبل من هؤلاء الذين يحسنون له الدخول إلى العراق ، ومفارقة المدينة ، فأبى عليه ذلك كله ، وطاوع أمر أولئك الأمراء من أولئك الخوارج من أهل الأمصار .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية