الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفة اجتماع الحكمين وهما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص ، رضي الله عنهما ، بدومة الجندل

            وكان ذلك في شهر رمضان كما تشارطوا عليه وقت التحكيم بصفين . وقال الواقدي : اجتمعوا في شعبان . وذلك أن عليا ، رضي الله عنه ، لما كان مجيء رمضان ، بعث أربعمائة فارس مع شريح بن هانئ ، ومعهم أبو موسى ، وعبد الله بن عباس ، وإليه الصلاة ، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام ومعه عبد الله بن عمرو ، ابنه فتوافوا بدومة الجندل بأذرح - وهي نصف بين الشام والكوفة ، بينها وبين كل من البلدين تسع مراحل - وشهد ذلك معهم جماعة من رءوس الناس ; كعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن الزبير ، والمغيرة بن شعبة ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي ، وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري ، وأبي جهم بن حذيفة .

            شهود سعد بن أبي وقاص التحكيم

            وزعم بعض الناس أن سعد بن أبي وقاص شهدهم أيضا ، وأنكر حضوره آخرون . وقد ذكر ابن جرير أن عمر بن سعد بن أبي وقاص خرج إلى أبيه وهو بماء لبني سليم معتزل بالبادية ، فقال : يا أبه ، قد بلغك ما كان من الناس بصفين ، وقد حكم الناس أبا موسى الأشعري ، وعمرو بن العاص ، وقد شهدهم نفر من قريش ، فاشهدهم فإنك صاحب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وأحد أصحاب الشورى ، ولم تدخل في شيء كرهته هذه الأمة ، فاحضر إنك أحق الناس بالخلافة . فقال : لا أفعل ، إني سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : إنه ستكون فتنة ، خير الناس فيها الخفي التقي . والله لا أشهد شيئا من هذا الأمر أبدا .

            وعن عامر بن سعد أن أخاه عمر انطلق إلى سعد في غنم له خارجا من المدينة ، فلما رآه سعد قال : أعوذ بالله من شر هذا الراكب ، فلما أتاه قال : يا أبه ، أرضيت أن تكون أعرابيا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة ؟ فضرب سعد صدر عمر وقال : اسكت فإني سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي . وعن المطلب ، عن عمر بن سعد ، عن أبيه أنه جاءه ابنه عامر فقال : يا بني ، أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأسا ؟ لا والله حتى أعطى سيفا إن ضربت به مؤمنا نبا عنه ، وإن ضربت به كافرا قتلته ، سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : إن الله يحب الغني الخفي التقي

            وهذا السياق كأنه عكس الأول ، والظاهر أن عمر بن سعد استعان بأخيه عامر على أبيه ، ليشير عليه أن يحضر أمر التحكيم لعلهم يعدلون عن علي ومعاوية ويولونه ، فامتنع سعد من ذلك وأباه أشد الإباء وقنع بما هو فيه من الكفاية والخفاء ، كما ثبت في " صحيح مسلم " أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قال : قد أفلح من أسلم ورزق كفافا ، وقنعه الله بما آتاه . وكان عمر بن سعد هذا يحب الدنيا والإمارة ، فلم يزل ذلك دأبه حتى كان هو من السرية التي قتلت الحسين بن علي ، رضي الله عنه ، كما سيأتي بيانه في موضعه ولو قنع بما كان عليه أبوه لم يكن شيء من ذلك . والله أعلم .

            والمقصود أن سعدا لم يحضر أمر التحكيم ولا أراد ذلك ولا هم به ، وإنما حضره من ذكرنا.

            اجتماع الحكمين وخلع علي وتثبيت معاوية رضي الله عنهما

            فلما اجتمع الحكمان تراوضا على المصلحة للمسلمين بعلم ونظر في تقدير أمور ، ثم اتفقا على أن يعزلا عليا ومعاوية ، ثم يجعلا الأمر شورى بين الناس ليتفقوا على الأصلح لهم منهما أو من غيرهما ، وقد أشار أبو موسى بتولية عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فقال له عمرو بن العاص : فول ابني عبد الله ، فإنه يقاربه في العلم والعمل والزهد . فقال له أبو موسى : إنك قد غمست ابنك في الفتن والدنيا معك ، وهو مع ذلك رجل صدق .

            قال أبو مخنف : عن ابن عمر قال : قال عمرو بن العاص : إن هذا الأمر لا يصلحه إلا رجل له ضرس يأكل ويطعم . وكان ابن عمر فيه غفلة ، فقال له ابن الزبير : يا عبد الله افطن وانتبه . فقال ابن عمر : لا والله لا أرشو عليها شيئا أبدا . ثم قال : يا ابن العاص ، إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعت بالسيوف وتشاكت بالرماح ، فلا تردنهم في فتنة مثلها أو أشد منها . ثم إن عمرو بن العاص حاول أبا موسى على أن يقر معاوية وحده على الناس فأبى عليه ، ثم حاوله ليكون ابنه عبد الله بن عمرو هو الخليفة ، فأبى أيضا ، وطلب أبو موسى من عمرو أن يوليا عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فأبى عمرو أيضا ، ثم اصطلحا على أن يخلعا معاوية وعليا ويتركا الأمر شورى بين الناس ليتفقوا على من يختاروه لأنفسهم ، ثم جاءا إلى المجمع الذي فيه الناس - وكان عمرو لا يتقدم بين يدي أبي موسى بل يقدمه في كل الأمور أدبا وإجلالا - فقال له : يا أبا موسى قم فأعلم الناس بما اتفقنا عليه .

            فخطب أبو موسى الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم صلى على رسول الله صلى لله عليه وسلم ، ثم قال : أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أمرا أصلح لها ولا ألم لشعثها من رأي قد اتفقت أنا وعمرو عليه ، وهو أنا نخلع عليا ومعاوية ونترك الأمر شورى ، وتستقبل الأمة هذا الأمر فيولوا عليهم من أحبوه واختاروه ، وإني قد خلعت عليا ومعاوية . ثم تنحى وجاء عمرو فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن هذا قال ما قد سمعتم ، وإنه قد خلع صاحبه ، وإني قد خلعته أيضا كما خلعه ، وأثبت صاحبي معاوية ، فإنه ولي عثمان بن عفان ، والطالب بدمه ، وهو أحق الناس بمقامه . وكان عمرو رأى من المصلحة أن ترك الناس بلا إمام - والحالة هذه - يؤدي إلى مفسدة طويلة عريضة أعظم مما الناس فيه من الاختلاف ، فأقر معاوية لما رأى ذلك من المصلحة فاجتهد ، والاجتهاد يخطئ ويصيب . ويقال : إن أبا موسى تكلم مع عمرو بكلام فيه غلظة ، ورد عليه عمرو بن العاص مثله .

            وذكر ابن جرير أن شريح بن هانئ - مقدم جيش علي - وثب على عمرو بن العاص فضربه بالسوط ، وقام إليه ابن لعمرو فضربه بالسوط ، وتفرق الناس في كل وجه إلى بلادهم ، فأما عمرو وأصحابه فدخلوا على معاوية ، فسلموا عليه بتحية الخلافة ، وأما أبو موسى فاستحيى من علي فذهب إلى مكة ، ورجع ابن عباس وشريح بن هانئ إلى علي ، فأخبراه بما فعل أبو موسى وعمرو ، فاستضعفوا رأي أبي موسى ، وعرفوا أنه لا يوازن عمرا .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية