الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            تفريق معاوية بن أبي سفيان جيوشا كثيرة في أطراف معاملات علي بن أبي طالب

            ثم دخلت سنة تسع وثلاثين

            فيها فرق معاوية بن أبي سفيان جيوشا كثيرة في أطراف معاملات علي بن أبي طالب ، وذلك أن معاوية رأى بعد أن ولاه عمرو بن العاص الخلافة بعد اتفاقه هو وأبو موسى على خلع علي وعزله عن الأمر - أن ولايته صحيحة ، وقد وقعت الموقع ، فهو الذي تجب طاعته فيما يعتقده ، ولأن أهل العراق قد خالفوا عليا فلا يطيعونه ، ولا يأتمرون بأمره ، فلا يحصل بمباشرته مقصود الولاية والإمارة ، والحالة هذه ، فأنا أولى منه ; إذ كانت كلمة أهل الشام ومصر مجموعة علي ، وهم طائعون لي ، يأتمرون بأمري ، وكلمتي نافذة فيهم . فعند ذلك جهز الجيوش إلى أطراف مملكة علي ، فكان ممن بعثه في هذه السنة النعمان بن بشير في ألفي فارس إلى عين التمر ، وعليها مالك بن كعب في ألف فارس مسلحة لعلي ، فلما سمعوا بقدوم الشاميين ارفضوا عنه فلم يبق مع مالك إلا مائة رجل ، فكتب عند ذلك إلى علي يخبره بأمر النعمان ، فندب علي الناس إلى إغاثة مالك بن كعب ، فتثاقلوا عليه ونكلوا ، ولم يجيبوا إلى الخروج فخطبهم علي عند ذلك ، فقال في خطبته : يا أهل الكوفة ، كلما سمعتم بمنسر من مناسر أهل الشام قد أظلكم ، انجحر كل امرئ منكم في بيته ، وغلق عليه بابه ، انجحار الضب في جحره ، والضبع في وجاره ، المغرور والله من غررتموه ، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب ، لا أحرار عند النداء ، ولا إخوان ثقة عند النجاء ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، ماذا منيت به منكم ؟ عمي لا تبصرون ، وبكم لا تنطقون ، وصم لا تسمعون ، إنا لله وإنا إليه راجعون . ودهمهم النعمان بن بشير في ألفي مقاتل ، وليس مع مالك بن كعب إلا مائة رجل قد كسروا جفون سيوفهم ، واستقتلوا أولئك ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فبينما هم كذلك إذ جاءهم نجدة من جهة مخنف بن سليم مع ابنه عبد الرحمن بن مخنف في خمسين رجلا ، فلما رآهم الشاميون ظنوا أنهم مدد عظيم ، ففروا هرابا على وجوههم ، فاتبعهم مالك بن كعب فقتل منهم ثلاثة أنفس ، وذهب الباقون لا يلوون على أحد حتى قدموا الشام ولم يتم لهم ما رجوا من هذا الوجه .

            بعث معاوية سفيان بن عوف إلى هيت والأنبار

            وفيها : بعث معاوية سفيان بن عوف في ستة آلاف إلى هيت فيغير عليها ، ثم يأتي الأنبار والمدائن . فسار حتى انتهى إلى هيت فلم يجد بها أحدا ، ثم أتى الأنبار وبها مسلحة لعلي نحو من خمسمائة ، فتفرقوا ولم يبق فيها إلا مائة رجل ، فقاتلوا مع قلتهم وصبروا حتى قتل أميرهم - وهو أشرس بن حسان البكري - في ثلاثين رجلا من أصحابه ، واحتمل الشاميون ما كان بالأنبار من الأموال وكروا راجعين إلى الشام ، فلما بلغ عليا ما جرى لأهل الأنبار ، ركب بنفسه فنزل بالنخيلة ، فقال له الناس : نحن نكفيك ذلك يا أمير المؤمنين . فقال : والله ما تكفونني ولا أنفسكم ، وسرح سعيد بن قيس في أثر القوم ، فسار وراءهم حتى بلغ هيت فلم يلحقهم فرجع .

            بعث معاوية عبد الله بن مسعد الفزاري إلى تيماء

            وفيها : بعث معاوية عبد الله بن مسعدة الفزاري في ألف وسبعمائة إلى تيماء وأمره أن يصدق أهل البوادي ، ومن امتنع من إعطائه فليقتله ، ثم يأتي المدينة ومكة والحجاز . فسار إلى تيماء واجتمع عليه بشر كثير ، فلما بلغ عليا خبره بعث المسيب بن نجبة الفزاري في ألفي رجل ، فالتقوا بتيماء فاقتتلوا قتالا شديدا عند زوال الشمس ، وحمل المسيب بن نجبة على ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات وهو لا يريد قتله بل يقول له : النجاء النجاء . فانحاز ابن مسعدة في طائفة من قومه إلى حصن هناك فتحصنوا به ، وهرب بقيتهم إلى الشام ، وانتهبت الأعراب ما كان جمعه ابن مسعدة من إبل الصدقة ، وحاصرهم المسيب ثلاثة أيام ، ثم ألقى الحطب على الباب ، وألهب فيه النار ، فلما أحسوا بالهلاك أشرفوا من الحصن ، ومتوا إليه بأنهم من قومه ، فرق لهم وأطفأ النار ، فلما كان الليل فتح باب الحصن ، وخرجوا منه هرابا إلى الشام ، فقال عبد الرحمن بن شبيب للمسيب بن نجبة : سرحني ألحقهم . فقال : لا . فقال : غششت أمير المؤمنين وداهنت في أمرهم .

            توجيه معاوية الضحاك بن قيس ليغير على أطراف جيش علي

            وفيها : وجه معاوية الضحاك بن قيس في ثلاثة آلاف ، وأمره أن يغير على أطراف جيش علي ، فبعث إليه علي حجر بن عدي في أربعة آلاف ، وأنفق فيهم كل واحد خمسين درهما خمسين درهما ، فالتقوا بتدمر فقتل حجر من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلا ، وقتل من أصحاب حجر رجلان ، وغشيهم الليل ، فتفرقوا وانشمر الضحاك بأصحابه فارا إلى الشام .

            خروج معاوية إلى دجلة ثم رجوعه منها

            وفيها : سار معاوية بنفسه في جيش كثيف حتى بلغ دجلة ، ثم كر راجعا . ذكره محمد بن سعد ، عن الواقدي بإسناده ، وأبو معشر معه أيضا .

            ولى علي بن أبي طالب زياد بن أبيه على أرض فارس

            وفيها ولى علي بن أبي طالب زياد بن أبيه على أرض فارس ، وكانوا قد منعوا الخراج والطاعة ، وسبب ذلك ما تقدم من قتل العلاء بن الحضرمي وأصحابه بالنار حين حرقهم جارية بن قدامة ، ، فلما اشتهر هذا الصنيع في البلاد شوش قلوب كثير من الناس ، وأنكروه جدا ، واختلفوا على علي ، ومنع أكثر أهل تلك النواحي الخراج ، ولا سيما أهل فارس فإنهم تمردوا وأخرجوا عاملهم سهل بن حنيف عنهم ، فاستشار علي الناس في من يوليه عليهم ، فأشار ابن عباس وجارية بن قدامة أن يولي عليهم زياد بن أبيه ، فإنه صليب الرأي ، عالم بالسياسة . فقال علي : هو لها ، فولاه على فارس وكرمان ، فجهزه إليها في أربعة آلاف فارس ، فسار إليها في هذه السنة ، فدوخ أهلها وقهرهم حتى استقاموا وأدوا الخراج ، ورجعوا إلى السمع والطاعة ، وسار فيهم بالمعدلة والأمانة ، حتى كان أهل تلك البلاد يقولون : ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنوشروان من سيرة هذا العربي في اللين والمداراة والعلم بما يأتي وما يذر ، وصفت له تلك البلاد بعدله وعلمه وصرامته ، واتخذ للمال قلعة حصينة ، فكانت تعرف بقلعة زياد ، ثم لما تحصن فيها منصور اليشكري فيما بعد ذلك ، عرفت به فكان يقال لها : قلعة منصور .

            بعث علي بن أبي طالب عبيد الله بن عباس على الموسم

            قال الواقدي : وفي هذه السنة بعث علي بن أبي طالب عبيد الله بن عباس على الموسم ، وبعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي ليقيم للناس الحج ، فلما اجتمعا بمكة تنازعا ، وأبى كل واحد منهما أن يسلم لصاحبه ، فاصطلحا على شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الحجبي ، فحج بالناس ، وصلى بهم في أيام الموسم .

            قال أبو الحسن المدائني : لم يشهد عبد الله بن عباس الموسم في أيام علي حتى قتل ، والذي نازعه يزيد بن شجرة إنما هو قثم بن العباس ، حتى اصطلحا على شيبة بن عثمان .

            عمال علي على الأمصار في هذه السنة

            قال ابن جرير : وأما عمال علي على الأمصار فهم الذين ذكرنا في السنة الماضية ، غير أن ابن عباس كان قد سار من البصرة إلى الكوفة ، واستخلف على البصرة زياد بن أبيه ، ثم سار زياد في هذه السنة إلى فارس وكرمان كما ذكرنا . ذكر غارة أهل الشام على أهل الجزيرة

            وفيها سير معاوية عبد الرحمن بن قباث بن أشيم إلى بلاد الجزيرة ، وفيها شبيب بن عامر جد الكرماني الذي كان بخراسان ، وكان شبيب بنصيبين ، فكتب إلى كميل بن زياد ، وهو بهيت ، يعلمه الخبر ، فسار كميل إليه نجدة له في ستمائة فارس ، فأدركوا عبد الرحمن ومعه معن بن يزيد السلمي ، فقاتلهما كميل وهزمهما ، فغلب على عسكرهما وأكثر القتل في أهل الشام ، وأمر أن لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ، وقتل من أصحاب كميل رجلان ، وكتب إلى علي بالفتح فجزاه خيرا ، وأجابه جوابا حسنا - رضي الله عنه -.

            وأقبل شبيب بن عامر من نصيبين ، فرأى كميلا قد أوقع بالقوم ، فهنأه بالظفر ، واتبع الشاميين ، فلم يلحقهم ، فعبر الفرات ، وبث خيله فأغارت على أهل الشام حتى بلغ بعلبك ، فوجه معاوية إليه حبيب بن مسلمة فلم يدركه ، ورجع شبيب فأغار على نواحي الرقة فلم يدع للعثمانية بها ماشية إلا استاقها ، ولا خيلا ولا سلاحا إلا أخذه ، وعاد إلى نصيبين ، وكتب إلى علي ، فكتب إليه علي ينهاه عن أخذ أموال الناس إلا الخيل والسلاح الذي يقاتلون به ، وقال : رحم الله شبيبا ، لقد أبعد الغارة وعجل الانتصار .

            ذكر غارة الحارث بن نمر التنوخي

            ولما قدم يزيد بن شجرة على معاوية وجه الحارث بن نمر التنوخي إلى الجزيرة ليأتيه بمن كان في طاعة علي ، فأخذ من أهل دارا سبعة نفر من بني تغلب ، وكان جماعة من بني تغلب قد فارقوا عليا إلى معاوية ، فسألوه في إطلاق أصحابهم فلم يفعل ، فاعتزلوه أيضا . وكتب معاوية إلى علي ليفاديه بمن أسر معقل بن قيس من أصحاب يزيد بن شجرة ، فسيرهم علي إلى معاوية ، وأطلق معاوية هؤلاء ، وبعث علي رجلا من خثعم يقال له عبد الرحمن إلى ناحية الموصل ليسكن الناس ، فلقيه أولئك التغلبيون الذين اعتزلوا معاوية ، وعليهم قريع بن الحارث التغلبي ، فتشاتموا ثم اقتتلوا فقتلوه ، فأراد علي أن يوجه إليهم جيشا ، فكلمته ربيعة وقالوا : هم معتزلون لعدوك داخلون في طاعتك ، وإنما قتلوه خطأ . فأمسك عنهم .

            ذكر أمر ابن العشبة

            بعث معاوية زهير بن مكحول العامري - من عامر الأجدار - إلى السماوة وأمره أن يأخذ صدقات الناس ، وبلغ ذلك عليا فبعث ثلاثة نفر : جعفر بن عبد الله الأشجعي ، وعروة بن العشبة ، والجلاس بن عمير الكلبيين ، ليصدقوا من في طاعته من كلب وبكر بن وائل ، فوافوا زهيرا فاقتتلوا ، فانهزم أصحاب علي وقتل جعفر بن عبد الله ، ولحق ابن العشبة بعلي ، فعنفه وعلاه بالدرة ، فغضب ولحق بمعاوية ، وكان زهير قد حمل ابن العشبة على فرس ، فلذلك اتهمه . وأما الجلاس فإنه مر براع ، فأخذ جبته ، وأعطاه جبة خز ، فأدركته الخيل ، فقالوا : أين أخذ هؤلاء الترابيون ؟ فأشار إليهم : أخذوا هاهنا ، ثم أقبل إلى الكوفة

            ذكر أمر مسلم بن عقبة بدومة الجندل

            وبعث معاوية مسلم بن عقبة المري إلى دومة الجندل ، وكان أهلها قد امتنعوا من بيعة علي ومعاوية جميعا ، فدعاهم إلى طاعة معاوية وبيعته ، فامتنعوا ، وبلغ ذلك عليا فسير مالك بن كعب الهمداني في جمع إلى دومة الجندل ، فلم يشعر مسلم إلا وقد وافاه مالك ، فاقتتلوا يوما ثم انصرف مسلم منهزما ، وأقام مالك أياما يدعو أهل دومة الجندل إلى البيعة لعلي فلم يفعلوا ، وقالوا : لا نبايع حتى يجتمع الناس على إمام ، فانصرف وتركهم .

            وفيها توجه الحارث بن مرة العبدي إلى بلاد السند ( غازيا متطوعا بأمر أمير المؤمنين علي ، فغنم وأصاب غنائم وسبيا كثيرا ، وقسم في يوم واحد ألف رأس وبقي غازيا ) إلى أن قتل بأرض القيقان هو ومن معه ، إلا قليلا سنة اثنتين وأربعين أيام معاوية .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية