وولى زيادا ، فقدم زياد الكوفة وعليها المغيرة بن شعبة ، فأقام بها ليأتيه رسول معاوية بولاية البصرة ، فظن المغيرة أنه قد جاء على إمرة الكوفة ، فبعث إليه وائل بن حجر ليعلم له خبره ، فاجتمع به فلم يقدر منه على شيء ، فجاء البريد إلى زياد أن يسير إلى البصرة واستعمله على خراسان وسجستان ، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان . ودخل زياد البصرة في مستهل جمادى الأولى فخطبهم خطبته البتراء ، لم يحمد الله فيها ، وقيل : بل حمد الله فقال : ولاية زياد بن أبيه البصرة
الحمد لله على إفضاله وإحسانه ، ونسأله مزيدا من نعمه ، اللهم كما زدتنا نعما فألهمنا شكرا على نعمك علينا ! أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء ، والفجر الموقد لأهله النار ، الباقي عليهم سعيرها ، ما يأتي سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام ، فينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير ، كأن لم تسمعوا نبي الله ، ولم تقرءوا كتاب الله ، ولم تعلموا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته ، والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمد الذي لا يزول ، أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا ، وسدت مسامعه الشهوات ، واختار الفانية على الباقية ، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه ، هذه المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر ، والعدد غير قليل ، ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار ؟ قربتم القرابة وباعدتم ( الدين تعتذرون ) بغير العذر ، وتعطفون على المختلس ، كل امرئ منكم يذب عن سفيهه ، صنيع من لا يخاف عاقبة ، ولا يخشى معادا ! ما أنتم بالحلماء ، ولقد اتبعتم السفهاء ، فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب ، حرام علي الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا ! إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله ، لين في غير ضعف ، وشدة في غير ( جبرية ) وعنف ، وإني لأقسم بالله لآخذن الولي بالولي ، والمقيم بالظاعن ، والمقبل بالمدبر ، والصحيح منكم بالسقيم ، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول : انج سعد فقد هلك سعيد ، أو تستقيم لي قناتكم ، إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة ، فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي ، من بيت منكم فأنا ضامن لما ذهب له ، إياي ودلج الليل ، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه ، وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم ، وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه .
وقد أحدثتم أحداثا لم تكن ، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة ، فمن غرق قوما غرقناه ، ومن حرق على قوم حرقناه ، ومن نقب بيتا نقبت عن قلبه ، ومن نبش قبرا دفنته فيه حيا ، فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف عنكم لساني ويدي ، وإياي لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه ، وقد كانت بيني وبين أقوام إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي ، فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا ، ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته .
إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا ، ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته ، فإذا فعل لم أناظره ، فاستأنفوا أموركم ، وأعينوا على أنفسكم ، فرب مبتئس بقدومنا سيسر ، ومسرور بقدومنا سيبتئس .
أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة ، وعنكم ذادة ، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا ، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ، ولكم علينا العدل فيما ولينا ، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم ، واعلموا أني مهما قصرت عنه فإني لا أقصر عن ثلاث : لست محتجبا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقا بليل ، ولا حابسا رزقا ولا عطاء عن إبانه ، ولا مجمرا لكم بعثا ، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون ، وكهفكم الذي إليه تأوون ، ومتى تصلحوا يصلحوا ، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم ، ويطول له حزنكم ، ولا تدركوا حاجتكم ، مع أنه لو استجيب لكم لكان شرا لكم ، أسأل الله أن يعين كلا على كل ، فإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على أذلاله ، وإن لي فيكم لصرعى كثيرة ، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي .
فقام إليه عبد الله بن الأهتم فقال : أشهد أيها الأمير أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب . فقال : كذبت ، ذاك نبي الله داود !
فقال الأحنف : قد قلت فأحسنت أيها الأمير ، والثناء بعد البلاء ، والحمد بعد العطاء ، وإنا لن نثني حتى نبتلي . فقال زياد : صدقت . فقام إليه أبو بلال مرداس بن أدية ، وهو من الخوارج ، وقال : أنبأ الله بغير ما قلت ، قال الله تعالى : وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى . فأوعدنا الله خيرا مما أوعدتني يا زياد . فقال زياد : إنا لا نجد إلى ما تريد أنت وأصحابك سبيلا حتى نخوض إليها الدماء .
واستعمل زياد على شرطته عبد الله بن حصن ، وأجل الناس حتى بلغ الخبر الكوفة وعاد إليه وصول الخبر ، فكان يؤخر العشاء الآخرة ثم يصلي فيأمر رجلا أن يقرأ سورة البقرة أو مثلها يرتل القرآن ، فإذا فرغ أمهل بقدر ما يرى أن إنسانا يبلغ أقصى البقرة ، ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج ، فيخرج فلا يرى إنسانا إلا قتله ، فأخذ ذات ليلة أعرابيا فأتى به زيادا فقال : هل سمعت النداء ؟ فقال : لا والله قدمت بحلوبة لي وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع وأقمت لأصبح ولا علم لي بما كان من الأمير . فقال : أظنك والله صادقا ولكن في قتلك صلاح الأمة . ثم أمر به فضربت عنقه .
وكان زياد أول من شدد أمر السلطان ، وأكد الملك لمعاوية ، وجرد سيفه ، وأخذ بالظنة ، وعاقب على الشبهة ، وخافه الناس خوفا شديدا حتى أمن بعضهم بعضا ، وحتى كان الشيء يسقط من يد الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد حتى يأتيه صاحبه فيأخذه ، ولا يغلق أحد بابه .
( وأدر العطاء ) ، وبنى مدينة الرزق ، وجعل الشرط أربعة آلاف ، وقيل له : إن السبيل مخوفة . فقال : لا أعاني شيئا وراء المصر حتى أصلح المصر ، فإن غلبني فغيره أشد غلبة منه . فلما ضبط المصر وأصلحه تكلف ما وراء ذلك فأحكمه . عمال زياد
استعان زياد بعدة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم : عمران بن حصين الخزاعي ولاه قضاء البصرة ، وأنس بن مالك ، وعبد الرحمن بن سمرة ، وسمرة بن جندب . فأما عمران فاستعفى من القضاء فأعفاه . واستقضى عبد الله بن فضالة الليثي ، ثم أخاه عاصما ، ثم زرارة بن أوفى ، وكانت أخته عند زياد .
وقيل إن زيادا أول من سير بين يديه بالحراب والعمد ، واتخذ الحرس رابطة خمسمائة لا يفارقون المسجد .
وجعل خراسان أرباعا ، واستعمل على مرو أمير بن أحمر ، وعلى نيسابور خليد بن عبد الله الحنفي ، وعلى مرو الروذ والفارياب والطالقان قيس بن الهيثم ، وعلى هراة وباذغيس [ وقادس ] وبوشنج نافع بن خالد الطاحي ، ثم عتب عليه فعزله .
وسبب تغيره عليه أن نافعا بعث بخوان باذزهر إلى زياد قوائمه منه ، فأخذ نافع منها قائمة وعمل مكانها قائمة من ذهب وبعث الخوان مع غلام له اسمه زيد ، وكان يلي أمور نافع كلها ، فسعى زيد بنافع إلى زياد وقال : إنه خانك وأخذ قائمة الخوان . فعزله زياد وحبسه وكتب عليه كتابا بمائة ألف ، وقيل : بثمانمائة ألف ، فشفع فيه رجال من وجوه الأزد فأطلقه .
واستعمل الحكم بن عمرو الغفاري ، وكانت له صحبة ، وكان زياد قال لحاجبه : ادع لي الحكم ، يريد الحكم بن أبي العاص الثقفي ، ليوليه خراسان ، فخرج حاجبه فرأى الحكم بن عمرو الغفاري فاستدعاه ، فحين رآه زياد قال له : ما أردتك ولكن الله أرادك ! فولاه خراسان وجعل معه رجالا على جباية الخراج ، منهم : أسلم بن زرعة الكلابي وغيره ، وغزا الحكم طخارستان ، فغنم غنائم كثيرة ، ثم مات ، واستخلف أنس بن أبي أناس بن زنيم ، فعزله زياد وكتب إلى خليد بن عبد الله الحنفي بولاية خراسان ، ثم بعث الربيع بن زياد الحارثي في خمسين ألفا من البصرة والكوفة .