الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            من توفي في هذه السنة من الأكابر

            أرقم بن أبي الأرقم أرقم بن أبي الأرقم بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، أبو عبد الله :

            وأمه أميمة بنت الحارث من خزاعة ، وخاله نافع بن الحارث بن خزاعة عامل عمر بن الخطاب على مكة .

            عن يحيى بن عمران بن عثمان بن الأرقم ، قال :

            حدثني جدي عثمان بن الأرقم ، قال : أنا ابن سبعة في الإسلام ، أسلم أبي سابع سبعة ، وكانت داره بمكة على الصفا ، وهي الدار التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون فيها في أول الإسلام ، وفيها دعي الناس إلى الإسلام ، وأسلم فيها خلق كثير ، وقال ليلة الاثنين فيها : "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك : عمر بن الخطاب ، أو عمرو بن هشام " . فجاء عمر بن الخطاب من الغد بكرة فأسلم في دار الأرقم وخرجوا منها وكبروا وطافوا بالبيت ظاهرين ، فدعيت دار الأرقم دار الإسلام ، وتصدق بها الأرقم على ولده ، فقرأت نسخة صدقة الأرقم بداره .

            "بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما قضى الأرقم في ربعه ما حاذى الصفا ، إنها محرمة بمكانها من الحرم ، لا تباع ولا تورث ، شهد هشام بن العاص ، وفلان مولى هشام بن العاص " . فلم تزل هذه الدار صدقة قائمة فيها ولده يسكنون ويؤاجرون ويأخذون عليها حتى كان زمن أبي جعفر .

            وعن يحيى بن عمران أن ابن عثمان بن الأرقم قال :

            إني لأعلم اليوم الذي وقعت في نفس أبي جعفر ، إنه ليسعى بين الصفا والمروة في حجة حجها ونحن على ظهر الدار في فسطاط فيمر تحتنا لو أشاء أن آخذ قلنسوة عليه لأخذتها ، وإنه لينظر إلينا من حين يهبط بطن الوادي حتى يصعد إلى الصفا ، فلما خرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة ، كان عبد الله بن عثمان بن الأرقم ممن تابعه ولم يخرج معه ، فتعلق عليه أبو جعفر بذلك ، فكتب إلى عامله بالمدينة أن يحبسه ويطرحه في حديد ، ثم بعث رجلا من أهل الكوفة يقال له شهاب بن عبد رب ، وكتب معه إلى عامل المدينة أن يفعل ما يأمره به ، فدخل شهاب على عبد الله بن عثمان الحبس - وهو شيخ كبير ابن بضع وثمانين سنة ، وقد ضجر بالحديد والحبس - فقال له : هل لك أن أخلصك مما أنت فيه وتبيعني دار الأرقم ؟ فإن أمير المؤمنين يريدها ، وعسى إن بعته إياها أن أكلمه فيك فيعفو عنك قال : إنها صدقة ، ولكن حقي منها له ومعي فيها شركاء إخوتي وغيرهم ، فقال : إنما عليك نفسك ، أعطنا حقك وبرئت . فأشهد له بحقه ، وكتب عليه كتاب شراء على حساب سبعة عشر ألف دينار ، ثم تتبع إخوته ففتنهم بكثرة المال فباعوه ، فصارت لأبي جعفر ولمن أقطعها ، ثم صيرها المهدي للخيزران أم موسى وهارون ، فبنتها وعرفت بها ، ثم صارت لجعفر بن موسى أمير المؤمنين ، [ثم سكنها أصحاب الشطوي والعدني ، ثم اشترى ] عامتها غسان بن عباد من ولد موسى بن جعفر .

            قال علماء السير : شهد الأرقم بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله ، ومات الأرقم بالمدينة في هذه السنة وهو ابن سبع وثمانين سنة ، وصلى عليه سعد بن أبي وقاص .

            سحبان بن زفر بن إياس بن عبد شمس بن الأحب الباهلي سحبان بن زفر بن إياس بن عبد شمس بن الأحب الباهلي :

            كان خطيبا بليغا يضرب المثل بفصاحته ، ودخل على معاوية بن أبي سفيان وعنده خطباء القبائل ، فلما رأوه خرجوا لعلمهم بقصورهم عنه ، فمن قوله :


            لقد علم الحي اليمانيون أنني إذا قلت : أما بعد ، أني خطيبها



            فقال له معاوية : اخطب ، فقال : انظروا لي عصا تقيم من أودي ، قالوا : وما تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين ؟ قال : ما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربه ، فأخذها وتكلم من الظهر إلى أن قارب العصر ما تنحنح ولا سعل ولا توقف ولا ابتدأ في معنى فخرج عنه وقد بقيت عليه بقية فيه ، فقال معاوية : الصلاة ، قال : الصلاة أمامك ألسنا في تحميد وتمجيد وعظة وتنبيه وتذكير ووعد ووعيد ، فقال معاوية : أنت أخطب الجن والإنس ، قال : كذلك أنت .

            فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس :

            كان صبيا يوم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء كنا غلمانا نحتطب ، فأرسلنا إلى أهلنا وقال : قولوا قد جاء صاحبكم الذي تنتظرون ، فخرجنا إلى أهلنا فأخبرناهم ، فأقبل القوم .

            وشهد فضالة أحدا والخندق وما بعدها ، وكان ممن بايع تحت الشجرة ، ثم خرج إلى الشام وصار قاضيا بها في خلافة معاوية .

            قثم بن العباس بن عبد المطلب قثم بن العباس بن عبد المطلب :

            كان [يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومر به ] رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلعب ، فحمله خلفه . واستعمله علي بن أبي طالب على المدينة ، وخرج مع سعيد بن عثمان في زمن معاوية ، فاستشهد بسمرقند .

            كعب بن عمرو بن عباد ، أبو اليسر كعب بن عمرو بن عباد ، أبو اليسر :

            شهد العقبة وبدرا وهو ابن عشرين سنة ، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان قصيرا دحداحا ، أبطن ، وهو الذي أسر العباس بن عبد المطلب يوم بدر .

            وتوفي بالمدينة في هذه السنة .

            سعد بن أبي وقاص

            واسمه مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب ، أبو إسحاق القرشي الزهري ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ، أسلم قديما . قالوا : وكان يوم أسلم عمره سبع عشرة سنة .

            وثبت عنه في " الصحيح " أنه قال : ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه ، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام . وهو الذي كوف الكوفة ونفى عنها الأعاجم ، وكان مجاب الدعوة ، وهاجر وشهد بدرا وما بعدها ، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله ، وكان فارسا شجاعا من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان في أيام الصديق معظما جليل المقدار ، وكذلك في أيام عمر ، وقد استنابه على الكوفة ، وهو الذي فتح المدائن وكانت بين يديه وقعة جلولاء وكان سيدا مطاعا ، وعزله عمر عن الكوفة عن غير عجز ولا خيانة ، ولكن لمصلحة ظهرت لعمر في ذلك ، وقد ذكره في الستة أصحاب الشورى ، ثم ولاه عثمان الكوفة بعدها ، ثم عزله عنها .

            وعن عمرو بن دينار قال : شهد سعد بن أبي وقاص وابن عمر دومة الجندل يوم الحكمين .

            وثبت في " صحيح مسلم " أن ابنه عمر جاء إليه وهو معتزل في إبله فقال : الناس يتنازعون الإمارة وأنت هاهنا ؟ فقال : يا بني ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يحب العبد الغني الخفي التقي " .

            قال ابن عساكر : ذكر بعض أهل العلم أن ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص جاءه ، فقال له : يا عم ، هاهنا مائة ألف سيف يرونك أحق الناس بهذا الأمر . فقال : أريد من مائة ألف سيفا واحدا ; إذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا ، وإذا ضربت به الكافر قطع .

            وعن زكريا بن عمرو ، أن سعد بن أبي وقاص وفد على معاوية ، فأقام عنده شهر رمضان يقصر الصلاة ويفطر . وقال غيره : فبايعه : وما سأله سعد شيئا إلا أعطاه إياه .

            وقال أحمد : بسنده عن سعيد بن المسيب ، عن سعد قال : جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد . وفي بعض الروايات : " فداك أبي وأمي " . وفي رواية : فقال : " ارم وأنت الغلام الحزور " . قال سعيد : وكان سعد جيد الرمي .

            وعن جابر بن سمرة قال : أول الناس رمى بسهم في سبيل الله سعد ، رضي الله عنه .

            وعن عبد الله بن شداد ، سمعت عليا يقول : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحدا بأبويه إلا سعد بن مالك ، وإني سمعته يقول له يوم أحد : " ارم سعد ، فداك أبي وأمي " . وعن أيوب ، أنه سمع عائشة بنت سعد تقول : أنا ابنة المهاجر الذي فداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالأبوين .

            وعن عائشة بنت سعد عن أبيها قال : لقد رأيتني أرمي بالسهم يوم أحد ، فيرده علي رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه ، حتى كان بعد ، فظننت أنه ملك .

            وعن سعد بن أبي وقاص قال : لقد رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ، يقاتلان عنه كأشد القتال ، ما رأيتهما قبل ولا بعد .

            وعن سعد قال : رأيت رجلين يوم بدر يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، وإنى لأراه ينظر إلى ذا مرة وإلى ذا مرة ; سرورا بما ظفره الله ، عز وجل .

            وعن عبد الله بن مسعود قال : اشتركت أنا وسعد وعمار يوم بدر فيما أصبنا من الغنيمة ، فجاء سعد بأسيرين ، ولم أجئ أنا وعمار بشيء .

            وعن ابن مسعود قال : لقد رأيت سعد بن أبي وقاص يوم بدر يقاتل قتال الفارس للراجل .

            وقال مالك ، عن يحيى بن سعيد ، أنه سمع عبد الله بن عامر بن ربيعة يقول : قالت عائشة : بات رسول الله صلى الله عليه وسلم أرقا ذات ليلة ، ثم قال : " ليت رجلا صالحا يحرسني الليلة " . قالت : إذ سمعنا صوت السلاح ، فقال : " من هذا ؟ " قال : أنا سعد بن أبي وقاص ، أنا أحرسك يا رسول الله . قالت : فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه .

            وعن أنس بن مالك قال : بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " . فاطلع سعد بن أبي وقاص حتى إذا كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك . قال : فاطلع سعد بن أبي وقاص على ترتيبه الأول ، حتى إذا كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، فطلع على ترتيبه ، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثار عبد الله بن عمرو بن العاص فقال : إني غاضبت أبي ، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاث ليال ، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تنحل يميني ، فعلت . قال أنس : فزعم عبد الله بن عمرو أنه بات معه ليلة ، حتى إذا كان مع الفجر فلم يقم تلك الليلة شيئا ، غير أنه كان إذا انقلب على فراشه ذكر الله ، وكبره حتى يقوم مع الفجر ، فإذا صلى المكتوبة أسبغ الوضوء وأتمه ، ثم يصبح مفطرا . قال عبد الله بن عمرو : فرمقته ثلاث ليال وأيامهن ، لا يزيد على ذلك ، غير أني لا أسمعه يقول إلا خيرا ، فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله قلت : إنه لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل ثلاث مرات في ثلاثة مجالس : " يطلع عليكم رجل من أهل الجنة " . فاطلعت أنت أولئك المرات الثلاث ، فأردت أن آوي إليك حتى أنظر ما عملك فأقتدي بك ، فلم أرك تعمل كثير عمل ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ما هو إلا الذي رأيت . قال : فلما رأيت ذلك انصرفت عنه ، فدعاني حين وليت ، فقال : ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجد في نفسي سوءا لأحد من المسلمين ، ولا أنوي له شرا ولا أقوله . قال : هذه التي بلغت بك ، وهي التي لا أطيق .

            وثبت في " صحيح مسلم " بسنده عن سعد ، في قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه [ الأنعام : 52 ] . نزلت في ستة ، أنا وابن مسعود منهم . وفي رواية : أنزل الله في وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما [ العنكبوت : 8 ] . وذلك أنه لما أسلم امتنعت أمه من الطعام والشراب أياما ، فقال لها : تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس ، فخرجت نفسا نفسا ، ما تركت ديني هذا لشيء ، إن شئت فكلي ، وإن شئت فلا تأكلي . فنزلت هذه الآية .

            وأما حديث الشهادة للعشرة بالجنة ، فثبت في الصحيح ، من حديث سعيد بن زيد ، وجاء من حديث سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة في قصة حراء ، ذكر سعد بن أبي وقاص منهم .

            وعن جابر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل سعد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا خالي ، فليرني امرؤ خاله " . رواه الترمذي .

            وعن عامر بن سعد ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه يعوده عام حجة الوداع من وجع اشتد به ، فقلت : يا رسول الله ، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : " لا " . قلت : فالشطر يا رسول الله ؟ قال : " لا " . قلت : فالثلث ؟ قال : " الثلث والثلث كثير ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها ، حتى ما تجعل في في امرأتك " - وفي رواية : حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك - قلت : يا رسول الله ، أخلف بعد أصحابي ؟ فقال : " إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله ، إلا ازددت به درجة ورفعة ، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون " . ثم قال : " اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم ، لكن البائس سعد بن خولة " . يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة . وعن عائشة بنت سعد عن أبيها ، فذكر نحوه ، وفيه : قال : فوضع يده على جبهته ، فمسح وجهه وصدره وبطنه ، وقال : " اللهم اشف سعدا وأتم له هجرته " . قال سعد : فما زلت يخيل إلي أني أجد برد يده على كبدي حتى الساعة .

            وعن بكير بن الأشج قال : سألت عامر بن سعد عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : " وعسى أن تبقى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون " . فقال : أمر سعد على العراق ، فقتل قوما على الردة فضرهم ، واستتاب قوما كانوا سجعوا سجع مسيلمة الكذاب ، فتابوا فانتفعوا به .

            وعن أبي أمامة قال : جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ورققنا ، فبكى سعد بن أبي وقاص ، فأكثر البكاء ، وقال : يا ليتني مت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا سعد ، أعندي تتمنى الموت ! " فردد ذلك ثلاث مرات ثم قال : " يا سعد ، إن كنت للجنة خلقت ، فما طال عمرك أو حسن من عملك ، فهو خير لك " .

            وعن مطعم بن المقدام وغيره ، أن سعدا قال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجيب دعوتي . فقال : " إن الله لا يستجيب دعوة عبد حتى يطيب مطعمه " . فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يطيب طعمتي . فدعا له . قالوا : فكان سعد يتورع من السنبلة يجدها في زرعه ، فيردها من حيث أخذت .

            وقد كان كذلك مجاب الدعوة ، لا يكاد يدعو بدعاء إلا استجيب له. شكوى أهل الكوفة من سعد بن أبي وقاص فمن أشهر ذلك ما ثبت في " الصحيحين " من طريق عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سمرة ، أن أهل الكوفة شكوا سعدا إلى عمر في كل شيء حتى قالوا : لا يحسن يصلي . فقال سعد : أما إني لا آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أطيل الأوليين ، وأحذف في الأخريين . فقال : ذاك الظن بك يا أبا إسحاق . وعن سعيد بن المسيب قال : خرجت جارية لسعد يقال لها : زبراء . وعليها قميص جديد ، فكشفتها الريح ، فشد عليها عمر بالدرة ، وجاء سعد ليمنعه ، فتناوله عمر بالدرة ، فذهب سعد يدعو على عمر ، فناوله الدرة وقال : اقتص . فعفا عن عمر .

            وروى أيضا أنه كان بين سعد وابن مسعود كلام ، فهم سعد أن يدعو عليه ، فخاف ابن مسعود ، وجعل يشتد في الهرب .

            وقال سفيان بن عيينة : لما كان يوم القادسية كان سعد على الناس ، وقد أصابته جراح ، فلم يشهد يوم الفتح ، يعني فتح القادسية ، فقال رجل من بجيلة :


            ألم تر أن الله أظهر دينه     وسعد بباب القادسية معصم
            فأبنا وقد آمت نساء كثيرة     ونسوة سعد ليس فيهن أيم

            فقال سعد : اللهم اكفنا يده ولسانه . فجاءه سهم غرب ، فأصابه فخرس ويبست يداه جميعا .

            وعن عامر بن سعد ، أن سعدا رأى جماعة عكوفا على رجل ، فأدخل رأسه من بين اثنين ، فإذا هو يسب عليا وطلحة والزبير ، فنهاه عن ذلك ، فلم ينته ، فقال : أدعو عليك . فقال الرجل : تتهددني كأنك نبي ! فانصرف سعد ، فدخل دار آل فلان ، فتوضأ ، وصلى ركعتين ، ثم رفع يديه ، فقال : اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقواما قد سبق لهم منك سابقة الحسنى ، وأنه قد أسخطك سبه إياهم ، فاجعله اليوم آية وعبرة . قال : فخرجت بختية نادة من دار آل فلان لا يردها شيء حتى دخلت بين أضعاف الناس ، فافترق الناس ، فأخذته بين قوائمها ، فلم تزل تتخبطه حتى مات . قال : فلقد رأيت الناس يشتدون وراء سعد يقولون : استجاب الله دعاءك يا أبا إسحاق . وعن مينا مولى عبد الرحمن بن عوف ، أن امرأة كانت تطلع على سعد ، فنهاها فلم تنته ، فاطلعت يوما وهو يتوضأ ، فقال : شاه وجهك . فعاد وجهها في قفاها .

            وقال كثير النواء عن عبد الله بن مليل قال : دخل سعد على معاوية فقال له : ما لك لم تقاتل معنا ؟ فقال : إني مرت بي ريح مظلمة فقلت : أخ أخ . فأنخت راحلتي حتى انجلت عني ، ثم عرفت الطريق فسرت . فقال معاوية : ليس في كتاب الله أخ أخ ، ولكن قال الله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله [ الحجرات : 9 ] . فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة ، ولا مع العادلة على الباغية . فقال سعد : ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي " . فقال معاوية : من سمع هذا معك ؟ فقال : فلان وفلان وأم سلمة . فقال معاوية : أما إني لو سمعته منه صلى الله عليه وسلم لما قاتلت عليا . وفي رواية من وجه آخر أن هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجة حجها معاوية ، وأنهما قاما إلى أم سلمة فسألاها فحدثتهما بما حدث به سعد ، فقال معاوية : لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادما لعلي حتى يموت أو أموت . وفي إسناد هذا ضعف . والله أعلم .



            وقال محمد بن سيرين : طاف سعد على تسع جوار في ليلة ، فلما انتهى إلى العاشرة أخذه النوم ، فاستحيت أن توقظه .

            ومن كلامه الحسن أنه قال لابنه مصعب : يا بني ، إذا طلبت شيئا فاطلبه بالقناعة ، فإنه من لا قناعة له لم يغنه المال .

            وعن مصعب بن سعد قال : كان رأس أبي في حجري وهو يقضي فبكيت ، فقال : ما يبكيك يا بني ؟ والله إن الله لا يعذبني أبدا ، وإني من أهل الجنة ، إن الله يدين للمؤمنين بحسناتهم فاعملوا لله ، وأما الكفار فيخفف عنهم بحسناتهم ، فإذا نفدت قال : ليطلب كل عامل ثواب عمله ممن عمل له .

            وقال الزهري : لما حضرت سعدا الوفاة دعا بخلق جبة فقال : كفنوني فيها ، فإني لقيت فيها المشركين يوم بدر ، وإنما كنت أخبئها لهذا اليوم .

            وكانت وفاة سعد بالعقيق خارج المدينة ، فحمل إلى المدينة على أعناق الرجال ، فصلى عليه مروان ، وصلى بصلاته أمهات المؤمنين الباقيات الصالحات ، ودفن بالبقيع ، وكان ذلك في هذه السنة - سنة خمس وخمسين - على المشهور الذي عليه الأكثرون ، وقد جاوز الثمانين ، على الصحيح .

            قال علي بن المديني : وهو آخر العشرة وفاة . وقال غيره : كان آخر المهاجرين وفاة . رضي الله عنه وعنهم أجمعين .

            وقال الهيثم بن عدي : سنة خمسين .

            وقال أبو معشر وأبو نعيم وقعنب بن المحرر : توفي سعد سنة ثمان وخمسين .

            وقال قعنب : وفيها توفي الحسن بن علي وعائشة وأم سلمة . والصحيح الأول ; خمس وخمسين .

            قالوا : وكان سعد قصيرا غليظا شثن الأصابع أفطس ، أشعر الجسد ، يخضب بالسواد ، وكان ميراثه مائتي ألف وخمسين ألفا .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية