وهو الحطيئة ، لقب بذلك لقصره وقربه من الأرض ، ويكنى أبا مليكة . وهو جاهلي إسلامي ، والظاهر أنه أسلم بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا ذكر له في الصحابة ولا في الوفود .
وكان خبيث اللسان كثير الهجاء ، هجا أباه وأمه وعمه وخاله ونفسه ، فقال [لأمه ] :
تنحي فاقعدي مني بعيدا أراح الله منك العالمينا أغربالا إذا استودعت سرا
وكانونا لدى المتحدثينا جزاك الله شرا من عجوز
ولقاك العقوق من البنينا
وقال لأبيه وعمه وخاله :
لحاك الله ثم لحاك حقا أبا ولحاك من عم وخال
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
وقال لنفسه :
أبت شفتاي اليوم ألا تكلما بشر فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها شوه الله خلقه فقبح من وجه وقبح حامله
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : قدم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الردة الزبرقان ، فساق صدقات عوف والأبناء ، فلما كان ببعض الطريق رأى الحطيئة - وكان الحطيئة أسود اللسان وداخل الفم وملتقي الشفتين - وهو يتبختر في هدم له ، أشعث أغبر ، وقد كان بين الزبرقان وبين بني قريع مقارضة ومهاجاة ، فأراد أن يستظهر بالحطيئة عليهم ، فقال له : ويلك إنك بمضيعة وأراك شاعرا ، فهل لك إلى خير مواساة ؟ قال : وددت ، قال : فالحق ببني سعد حتى آتيك فإنما أؤدي هذه الصدقة إلى أبي بكر ثم ألحق بك ، قال : عمن أسأل ؟ قال : أم مطلع الشمس ثم سل عن الزبرقان بن بدر ثم ائت أم سدرة فقل لها : يقول لك بعلك الزبرقان بن بدر أحسني إلى قومك ، فإنها ستفعل .
ففعل الحطيئة ذلك ، فلما رأته بنو قريع قالوا : داهية ، وإنما يريد أن يستظهر به علينا ، فأتاه نقيض بن شماس فقال : يا أبا مليكة جئت من بلادك ولا أرى في يدك شيئا ، هل لك إلى خصلة هي خير لك مما أنت فيه ، قال : ما هي ؟ قال : مائة بعير وتتحول إلينا ونحن ضامنون لأهلك من عيالك أن يدبروا من حالك أن تخلفه ، فتحول إليهم فقدم الزبرقان ، فقال : أين جاري ؟ قالت امرأته : خبث عليك ، ثم أخذ يهجو الزبرقان بن بدر ، فقال في أبيات :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فاستعدى عليه عمر فقال له : ما أراه هجاك ، أما ترضى أن تكون طاعما كاسيا ؟ قال :
كيف تراني كيسا مكيسا أبيت بعد نافع مخيسا .
قال : إنه لا يكون في الهجاء أشد من هذا ، فبعث عمر إلى حسان بن ثابت فسأله فقال : ما هجاه ولكن سلح عليه فحبسه [في قعر بئر ] ولم تكن السجون مبنية ، وأول من بناها علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، بنى بالكوفة سجنا سماه مخيسا ، فقال عمر للحطيئة : يا خبيث لأشغلنك عن أعراض المسلمين فقال :
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ [زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فارفق عليك سلام الله يا عمر ]
الأبيات .
فرق له عمر رضي الله عنه وأطلقه وأخذ عليه أن لا يهجو مسلما .
فعن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، قال :
أمر عمر بن الخطاب بإخراج الحطيئة من الحبس وقد كلمه فيه عمرو بن العاص ، وغيره ، فأخرج وأنا حاضر فأنشأ يقول :
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
غادرت كاسبهم في قعر مظلمة فارحم هداك مليك الناس يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ألقى إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها لكن لأنفسهم كانت بك الأثر
فامنن على صبية بالرمل مسكنهم بين الأباطح يغشاهم بها القدر
نفسي فداؤك كم بيني وبينهم من عرض داوية تعمى بها الخبر
قال : فلما قال الحطيئة : ماذا تقول لأفراخ ، بكى عمر فقال عمرو بن العاص : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركه الحطيئة . قال عمر : أشيروا علي في الشاعر فإنه يقول الهجو ويشبب بالحرم ويمدح الناس ويذمهم بما ليس فيهم ، ما أراني إلا قاطعا لسانه علي بكرسي ، فجلس عليه ثم قال : علي بالمخصف علي بالسكين لا بل علي بالموسى فإنه أوجى ، فقالوا : لا يعود يا أمير المؤمنين ، وأشاروا إليه قل لا أعود ، فقال : لا أعود ، فقال : النجا ، فلما ولى قال : ارجع يا حطيئة ، فرجع ، فقال له : كأني بك عند شاب من قريش قد كسر لك نمرقة وبسط لك أخرى ، [وقال : يا حطيئة غننا ] فاندفعت تغنيه بأعراض الناس ، قال أسلم : فرأيت الحطيئة بعد ذلك عند عبيد الله بن عمر قد كسر له نمرقة وبسط له أخرى وقال : يا حطيئة غننا ، فاندفع يغنيه ، فقلت له : يا حطيئة أتذكر يوم عمر حين قال لك ما قال ، ففزع وقال : رحم الله ذلك المرء لو كان حيا ما فعلنا هذا ، فقلت لعبيد الله : إني سمعت أباك يقول كذا وكذا ، وكنت أنت ذلك الرجل .
وبالإسناد عن محمد بن الضحاك ، عن أبيه قال : أمر عمر بن الخطاب بإخراج الحطيئة من السجن فأخرج ، فقال له : دع قول الشعر . فقال لا أستطيع . قال : لم ؟ قال هو مأكلة عيالي ، ونملة على لساني . قال : فدع المدحة المجحفة . قال وما المدحة المجحفة ؟ قال : لا تقول بنو فلان أفضل من بني فلان ، امدح ولا تفضل . قال : أنت أشعر مني يا أمير المؤمنين . قال ابن الأنباري : ضرب النملة مثلا لما يتردد من قول الشعر في قلبه ، ويطالب به لسانه .
ومن مدائحه قوله :
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
ولما احتضر الحطيئة قيل له : أوص . فقال المال للذكران دون الإناث . فقيل له :
أوص . فقال أوصيكم بالشعر ، ثم قال :
الشعر صعب وطويل سلمه إذا ارتقى فيه الذي لا يعمله
زلت به إلى الحضيض قدمه والشعر لا يسطيعه من يظلمه
أراد أن يعربه فيعجمه
عبد الله بن عامر عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن خبيب بن عبد شمس بن عبد مناف :
أمه دجاجة بنت أسماء بن الصلت بن خبيب . وله أحد عشر ذكرا وأربع نسوة .
ولد بمكة بعد الهجرة بأربع سنين ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء حمل إليه وهو ابن ثلاث سنين فحنكه ، فتلمظ فتثاءب ، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في فيه .
وكان ابن خال عثمان بن عفان ، ولم يزل شريف القدر ، كريما سخيا ، فلما ولي عثمان الخلافة ولاه البصرة بعد أن أقر أبا موسى أربع سنين كما أوصى عمر ، ثم عزله وولاه ، وكان يوم ولاه ابن خمس وعشرين سنة فقال أبو موسى : قد أتاكم فتى من قريش ، كريم الأمهات والعمات والخالات ، يقول بالمال فيكم هكذا وهكذا .
ففتح بلادا كثيرة من خراسان ، وقتل يزدجرد في ولايته ، فأحرم من نيسابور شكرا لله تعالى ، وعمل السقايات بعرفة ، فلما قتل عثمان لحق بالشام ، فولاه معاوية البصرة ثلاث سنين ، وزوجه ابنته هندا .
عن بعض القرشيين قال : كانت هند بنت معاوية أبر شيء بعبد الله بن عامر ، وأنها جاءته يوما بالمرآة والمشط - وكانت تتولى خدمته بنفسها - فنظر في المرآة ، فالتقى وجهه ووجهها في المرآة ، فرأى شبابها وجمالها ، ورأى الشيب في لحيته قد ألحقه بالشيوخ ، فرفع رأسه إليها ، فقال : الحقي بأبيك . فانطلقت حتى دخلت على أبيها فأخبرته ، فقال : وهل تطلق الحرة . قالت : ما أوتي من قبلي ، وأخبرته خبرها ، فأرسل إليه فقال : أكرمتك بابنتي ثم رددتها علي . قال : إني أخبرك عن ذلك ، إن الله تبارك وتعالى من علي بفضله ، وجعلني كريما لا أحب أن يتفضل علي أحد ، وإن ابنتك أعجزتني مكافأتها لحسن صحبتها ، فنظرت فإذا أنا شيخ وهي شابة ، لا أزيدها مالا إلى مالها ، ولا شرفا إلى شرفها ، فرأيت أن أردها إليك ، فتزوجها فتى من فتيانك كأن وجهه ورقة مصحف .
عن سفيان بن عبدة الحميري وعبيد بن يحيى الهجري قالا : خرج إلى عبد الله بن عامر بن كرز وهو عامل العراق لعثمان بن عفان رجلان من أهل المدينة ، أحدهما : ابن جابر بن عبد الله الأنصاري ، والآخر : من ثقيف ، فكتب إلى ابن عامر فيما يكتب من الأخبار ، فأقبلا يسيران حتى إذا كانا بناحية البصرة قال الأنصاري للثقفي : هل لك في رأي رأيته : قال : اعرضه . قال : رأيت أن أنخ رواحلنا ونتناول مطاهرنا ، فنمس ماء ، ثم نصلي ركعتين ونحمد الله على ما قضى من سفرنا . قال : هذا الذي لا يرد ، فتوضيا ، ثم صليا ركعتين ، فالتفت الأنصاري إلى الثقفي فقال : يا أخا ثقيف ، ما رأيك ؟ قال : وأي موضع رأي هذا ، قضيت سفري ، وأنضيت بدني ، وأنضيت راحلتي ، ولا مؤمل دون ابن عامر ، فهل لك رأي غير هذا ؟ قال : نعم ، إني لما صليت هاتين الركعتين فكرت فاستحييت من ربي تبارك وتعالى أن يراني طالبا رزقا من غيره ، اللهم ارزق ابن عامر وارزقني من فضلك . ثم ولى راجعا إلى المدينة ، ودخل الثقفي البصرة ، فمكث أياما ، فأذن له ابن عامر ، فلما رآه رحب به ، ثم قال : ألم أخبر أن ابن جابر خرج معك ؟ فخبره خبره ، فبكى ابن عامر ثم قال : أما والله ما قال أشرا ولا بطرا ، ولكن رأى مجرى الرزق ومخرج النعمة ، فعلم أن الله تعالى هو الذي فعل ذلك ، فسأله من فضله ، وأمر للثقفي بأربعة آلاف درهم وكسوة ومطرف ، وأضعف ذلك كله الأنصاري ، فخرج الثقفي وهو يقول :
أميمة ما حرص الحريص بزائد فتيلا ولا زهد الضعيف بضائر
خرجنا جميعا من مساقط رأسنا على ثقة منا بخير ابن عامر
ولما أنخنا الناعجات ببابه تأخر عني اليثربي ابن جابر
وقال سيكفيني عطية قادر على ما يشاء اليوم بالخلق قاهر
وإن الذي أعطى العراق ابن عامر لربي الذي أرجو لسد مفاقري
فلما سرى سارت عليه صبابة إليه كما حنت ظراب الأباعر
وأضعف عبد الله إذ غاب حظه على حظ لهفان من الحرص فاغر
فأبت وقد أيقنت أن ليس نافعي ولا ضائري شيء خلاف المقادر
وعن نافع الطاحي قال :
مررت بأبي ذر فقال لي : ممن أنت ؟ قلت : من أهل العراق . قال : أتعرف عبد الله بن عامر ؟ قلت : نعم . قال : فإنه كان يقرأ معي ويلزمني ، ثم طلب الإمارة ، فإذا قدمت البصرة فتراء له ، فإنه سيقول : لك حاجة ؟ فقل : أخلني وقل له : أنا رسول أبي ذر إليك ، وهو يقرئك السلام ويقول لك : إنا نأكل من التمر ، ونشرب من الماء ، ونعيش كما تعيش . فلما قدمت تراءيت له ، فقال : لك حاجة ؟ قلت : أخلني أصلحك الله . ففعل ، فقلت : أنا رسول أبي ذر إليك - فلما قلتها خشع قلبه - وهو يقرأ عليك السلام ويقول : إنا نأكل من التمر ، ونروى من الماء ، ونعيش كما تعيش . قال : فحل إزاره ثم أدخل رأسه في جيبه ثم بكى حتى ملأ جيبه بالبكاء .
وهو ، ولم يزل على البصرة حتى قتل عثمان ، فأخذ أموال بيت المال وتلقى بها طلحة والزبير ، وحضر معهم الجمل ، ثم سار إلى دمشق ، ولم يسمع له بذكر في صفين ، ولكن ولاه معاوية البصرة بعد صلحه مع الحسن ، وتوفي في هذه السنة بأرضه بعرفات ، فقال معاوية : بمن نفاخر ؟ ! بمن نباهي ! ؟ وأوصى إلى عبد الله بن الزبير . له حديث واحد ، وليس له في الكتب شيء . أول من اتخذ الحياض بعرفة وأجرى إليها الماء المعين والعين
فعن عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل دون ماله فهو شهيد " . أبو هريرة الدوسي رضي الله عنه أبو هريرة الدوسي
وقد اختلف في اسمه في الجاهلية والإسلام واسم أبيه على أقوال متعددة قد بسطنا أكثرها في كتابنا " التكميل " ، وقد بسط ذلك الحافظ ابن عساكر في " تاريخه " ، والأشهر أن اسمه عبد الرحمن بن صخر ، وهو من الأزد ، ثم من دوس . ويقال : كان اسمه في الجاهلية عبد شمس . وقيل : عبد نهم . وقيل : عبد غنم . ويكنى بأبي الأسود ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله . وقيل : عبد الرحمن . وكناه بأبي هريرة .
وروي عنه أنه قال : وجدت هريرة وحشية ، فأخذت أولادها ، فقال لي أبي : ما هذه في حجرك ؟ فأخبرته ، فقال : أنت أبو هريرة .
وثبت في " الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " يا أبا هر " . وثبت أنه قال له : " يا أبا هريرة " .
قال محمد بن سعد وابن الكلبي والطبراني : واسم أمه ميمونة بنت صبيح بن الحارث بن أبي صعب بن هنية بن سعد بن ثعلبة . أسلمت وماتت مسلمة .
كثرة مرويات أبي هريرة وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير الطيب ، وكان من حفاظ الصحابة ، وروى عن أبى بكر ، وعمر ، وأبي بن كعب ، وأسامة بن زيد ، وبصرة بن أبي بصرة ، والفضل بن العباس ، وكعب الأحبار ، وعائشة أم المؤمنين . وحدث عنه خلائق من أهل العلم ،
قال البخاري : روى عنه نحو من ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم ، من الصحابة والتابعين وغيرهم . إسلام أبي هريرة وقال عمرو بن علي الفلاس : كان ينزل المدينة ، وكان . قال الواقدي : وكان له بذي الحليفة دار . وقال غيره : كان آدم اللون ، بعيد ما بين المنكبين ، ذا ضفيرتين ، أفرق الثنيتين . إسلامه سنة خيبر
وعن أبي هريرة قال : لما أسلمت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ممن أنت ؟ " فقلت : من دوس . فوضع يده على جبهته وقال : " ما كنت أرى أن في دوس رجلا فيه خير " .
وعن أبي هريرة قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر .
وعن قيس قال : قال أبو هريرة : جئت يوم خيبر بعد ما فرغوا من القتال .
وعن أبي هريرة قال : . قال أبو هريرة : وقدمت المدينة مهاجرا فصليت الصبح وراء سباع ، فقرأ في السجدة الأولى سورة " مريم " ، وفي الثانية " ويل للمطففين " . قال أبو هريرة : فقلت في نفسي : ويل لأبي فلان . لرجل كان بأرض الأزد ، كان له مكيالان ; مكيال يكتال به لنفسه ، ومكيال يبخس به الناس . خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخلف على المدينة سباع بن عرفطة
وقد ثبت في " صحيح البخاري "
يا ليلة من طولها وعنائها على أنها من دارة الكفر نجت
ملازمة أبي هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم وقد ، وكان أحرص شيء على سماع الحديث منه ، وتفقه عنه ، وكان يلزمه على شبع بطنه . لزم أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه ، فلم يفارقه في حضر ولا سفر
وقال أبو هريرة - وقد تمخط يوما في قميص له من كتان - : بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتان ! لقد رأيتني أخر فيما بين المنبر والحجر من الجوع ، فيمر المار فيقول : به جنون . وما بي إلا الجوع ، والله الذي لا إله إلا هو لقد كنت أعتمد بكبدي على الأرض من الجوع ، وأشد الحجر على بطني من الجوع ، ولقد كنت أستقرئ أحدهم الآية وأنا أعلم بها منه ، وما بي إلا أن يستتبعني إلى منزله فيطعمني شيئا .
إسلام أم أبي هريرة وعن أبو كثير ، وهو يزيد بن عبد الرحمن بن أذينة السحيمي الأعمى ، حدثني أبو هريرة وقال لنا : والله ما خلق الله مؤمنا يسمع بي ولا يراني إلا أحبني . قلت : وما علمك بذلك يا أبا هريرة ؟ قال : إن أمي كانت امرأة مشركة ، وإني كنت أدعوها إلى الإسلام وكانت تأبى علي ، فدعوتها يوما ، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي ، فقلت : يا رسول الله ، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فكانت تأبى علي ، وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره ، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اهد أم أبي هريرة " فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أتيت الباب إذا هو مجاف ، وسمعت خضخضة الماء ، وسمعت خشف رجل - يعني وقعها - فقالت : يا أبا هريرة ، كما أنت . ثم فتحت الباب ، وقد لبست درعها ، وعجلت عن خمارها ، فقالت : إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله . فرجعت إلى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن ، فقلت : يا رسول الله ، أبشر ، فقد استجاب الله دعاءك ، وقد هدى أم أبي هريرة . وقلت : يا رسول الله ، ادع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين ، وحببهم إليهما " . قال أبو هريرة فما خلق الله من مؤمن يسمع بي ولا يراني أو يرى أمي إلا وهو يحبني
وهذا الحديث من دلائل النبوة ، فإن أبا هريرة محبب إلى جميع الناس ، وقد شهر الله ذكره بما قدره من إيراد هذا الخبر عنه ، الذي رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنصات يوم الجمعة عند الخطبة ، على رءوس الناس في المحافل الكثيرة المتعددة في سائر الأقاليم ، وهذا قدره الله ويسره من شهر ذكره ، ومحبة الناس له ، رضي الله عنه .
وعن سالم مولى النصريين ، أنه سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما محمد بشر ، أغضب كما يغضب البشر ، وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه ، فأيما رجل من المسلمين آذيته أو شتمته أو جلدته فاجعلها له قربة تقربه بها عندك يوم القيامة " . قال أبو هريرة لقد رفع علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الدرة ليضربني بها ، لأن يكون ضربني بها أحب إلي من حمر النعم ; ذلك بأني أرجو أن أكون مؤمنا ، وأن يستجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته
كثرة رواية أبي هريرة للحديث وعن عبد الرحمن الأعرج قال : سمعت أبا هريرة يقول : إنكم تزعمون أن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله الموعد ، إني كنت امرأ مسكينا ، أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني ، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق ، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم ، فحضرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا ، فقال : " من بسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه إليه ، فلن ينسى شيئا سمعه مني " . فبسطت بردة علي حتى قضى حديثه ، ثم قبضتها إلي ، فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئا سمعته منه . أبا هريرة يكثر الحديث وقد قيل : إن هذا كان خاصا بتلك المقالة المعينة لم ينس منها شيئا ، بدليل أنه نسي بعض الأحاديث كما هو مصرح به في " الصحيح " ، حيث نسي حديث : " لا عدوى ولا طيرة " . مع حديثه " لا يورد ممرض على مصح " . وقيل : إن هذا كان عاما في تلك المقالة وغيرها . والله أعلم .
وعن أبي هريرة أنه قال يا رسول الله ، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ فقال : " لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك ; لما رأيت من حرصك على الحديث ، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة " . من قال : لا إله إلا الله ، خالصا من قبل نفسه وعن أبي هريرة ، أنه قال : . حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، فأما أحدهما فبثثته في الناس ، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم
وهذا الوعاء الذي كان لا يتظاهر به هو ، التي لو أخبر بها قبل كونها لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه ، وردوا ما أخبر به من الحق ، كما قال : لو أخبرتكم أنكم تقتلون إمامكم وتقتتلون فيما بينكم بالسيوف لما صدقتموني . وقد يتمسك بهذا الحديث طوائف من أهل الأهواء والبدع الباطلة ، والأعمال الفاسدة ، ويسندون ذلك إلى هذا الجراب الذي لم يقله أبو هريرة ، ويعتقدون أن ما هم عليه كان في هذا الجراب الذي لم يخبر به أبو هريرة ، وما من مبطل - مع تضاد أقوالهم وأعمالهم - إلا ويدعي شيئا من هذا ، وكلهم يكذبون ، فإذا لم يكن أبو هريرة قد أخبر به فمن علمه من بعده ؟ ! وإنما كان الذي فيه شيء من الفتن والملاحم قد أخبر بها هو وغيره من الصحابة ، . الفتن والملاحم ، وما وقع بين الناس من الحروب والقتال وما سيقع
وعن أبو الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم أن مروان دعا أبا هريرة - وأقعده خلف السرير - وجعل مروان يسأل وجعلت أكتب ، حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به - وأقعده من وراء الحجاب - فجعل يسأله عن ذلك الكتاب ، فما زاد ولا نقص ، ولا قدم ولا أخر .
عن أبي صالح قال : كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن بأفضلهم . وقال الربيع : قال الشافعي : أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره .
عن مكحول قال : تواعد الناس ليلة من الليالي إلى قبة من قباب معاوية ، فاجتمعوا فيها ، فقام أبو هريرة فحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح .
عن همام بن منبه قال : سمعت أبا هريرة يقول : ما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني ، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو ; فإنه كان يكتب ولا أكتب .
وعن السائب بن يزيد قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة : لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض دوس . وقال لكعب الأحبار : لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة . وقال أبو زرعة وقد سمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحوا منه ، ولم يسنده . وهذا محمول من عمر على أنه خشي من الأحاديث التي يضعها الناس على غير مواضعها ، وأنهم يتكلون على ما فيها من أحاديث الرخص ، أو أن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ فيحملها الناس عنه ، أو نحو ذلك .
وقد جاء أن عمر أذن له بعد ذلك في الحديث ، فعن أبي هريرة قال " . قال : إما لى فاذهب فحدث . من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار بلغ عمر حديثي ، فأرسل إلي فقال : كنت معنا يوم كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت فلان ؟ قال : قلت : نعم ، وقد علمت لم سألتني عن ذلك . قال : ولم سألتك ؟ قلت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ : "
وعن محمد بن عجلان ، أن أبا هريرة كان يقول : إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر - أو عند عمر - لشج رأسي .
وعن أبي سلمة ، سمعت أبا هريرة يقول : ما كنا نستطيع أن نقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . حتى قبض عمر .
وعن الزهري قال : قال عمر : أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما يعمل به . قال : ثم يقول أبو هريرة : أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي ؟ ! أما والله إذا لأيقنت أن المخففة ستباشر ظهري .
فإن عمر كان يقول : اشتغلوا بالقرآن ، فإن . ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له : إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل ، فدعهم على ما هم عليه ، ولا تشغلهم بالأحاديث ، وأنا شريكك في ذلك . وهذا معروف عن عمر ، رضي الله عنه . القرآن كلام الله
وعن ابن عمر ، أنه مر بأبي هريرة وهو يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من فله قيراط ، فإن شهد دفنها فله قيراطان ، القيراط أعظم من أحد " . تبع جنازة فصلى عليها فقال له ابن عمر : أبا هر ، انظر ما تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق به إلى عائشة ، فقال لها : يا أم المؤمنين ، أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط ، فإن شهد دفنها فله قيراطان " ؟ ؟ فقالت : اللهم نعم . فقال أبو هريرة : إنه لم يكن يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الودي ولا صفق بالأسواق ، إني إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها ، أو أكلة يطعمنيها . فقال له ابن عمر : أنت يا أبا هر كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه .
وقال الواقدي : حدثني عبد الله بن نافع ، عن أبيه قال : كنت مع ابن عمر في جنازة أبي هريرة وهو يمشي أمامها ويكثر الترحم عليه ، ويقول : كان ممن يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين .
وقد روى أن عائشة تأولت أحاديث كثيرة من أبي هريرة ، ووهمته في بعضها . وفي " الصحيح " أنها عابت عليه سرد الحديث . أي الإكثار منه في الساعة الواحدة .
وعن سعيد ، أن عائشة قالت لأبي هريرة : أكثرت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة . قال : إني والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب ، ولكني أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي . قالت : لعله .
وعن أبي رافع ، أن رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة يتبختر فيها ، فقال : يا أبا هريرة ، إنك تكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئا ؟ قال : والله إنكم لتؤذوننا ، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه ما حدثتكم بشيء ، سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : " إن رجلا ممن كان قبلكم بينما هو يتبختر في حلة إذ خسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة " . فوالله ما أدري لعله كان من قومك . أو : من رهطك . شك أبو يعلى .
وعن الوليد بن رباح قال : سمعت أبا هريرة يقول لمروان : والله ما أنت وال ، وإن الوالي لغيرك فدعه - يعني حين أرادوا أن يدفنوا الحسن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولكنك تدخل فيما لا يعنيك ، إنما تريد بهذا إرضاء من هو غائب عنك . يعني معاوية . قال : فأقبل عليه مروان مغضبا ، فقال : يا أبا هريرة ، إن الناس قد قالوا : إنك أكثرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث . وإنما قدمت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيسير . فقال أبو هريرة : نعم ، قدمت والله ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر سنة سبع ، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات ، وأقمت معه حتى توفي ، أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه ، وأنا والله يومئذ مقل ، وأصلي خلفه وأغزو وأحج معه ، فكنت والله أعلم الناس بحديثه ، قد والله سبقني قوم - بصحبته والهجرة - من قريش والأنصار ، فكانوا يعرفون لزومي له ، فيسألوني عن حديثه ، منهم عمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير ، فلا والله ما يخفى علي كل حدث كان بالمدينة ، وكل من أحب الله ورسوله ، وكل من كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة ، وكل صاحب له ، فكان أبو بكر صاحبه في الغار ، وغيره قد أخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة أن يساكنه . يعرض بأبي مروان الحكم بن أبي العاص . ثم قال أبو هريرة : ليسألني أبو عبد الملك عن هذا وأشباهه ، فإنه يجد عندي منه علما جما ومقالا . قال : فوالله ما زال مروان يقصر عن أبي هريرة ويتقيه بعد ذلك ويخافه ويخاف جوابه .
وفي رواية أن أبا هريرة قال لمروان : إني أسلمت وهاجرت اختيارا وطوعا ، وأحببت رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا شديدا ، وأنتم أهل الدار وموضع الدعوة ، أخرجتم الداعي من أرضه ، وآذيتموه وأصحابه ، وتأخر إسلامكم عن إسلامي إلى الوقت المكروه إليكم . فندم مروان على كلامه له واتقاه .
وعن عثمان بن عروة ، عن أبيه - يعني عروة بن الزبير بن العوام - قال : قال لي أبي الزبير : أدنني من هذا اليماني - يعني أبا هريرة - فإنه يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأدنيته منه ، فجعل أبو هريرة يحدث ، وجعل الزبير يقول : صدق ، كذب ، صدق ، كذب . قال : قلت : يا أبه ، ما قولك : صدق ، كذب ؟ قال : يا بني ، أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أشك ، ولكن منها ما وضعه على مواضعه ، ومنها ما وضعه على غير مواضعه .
وعن أبي أنس بن أبي عامر قال : كنت عند طلحة بن عبيد الله إذ دخل رجل فقال : يا أبا محمد ، والله ما ندري هذا اليماني أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم ، أم يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل ؟ فقال طلحة : والله ما نشك أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع ، وعلم ما لم نعلم ، إنا كنا قوما أغنياء ، لنا بيوتات وأهلون ، وكنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار ، ثم نرجع ، وكان مسكينا لا مال له ولا أهل ، وإنما ، فما نشك أنه قد علم ما لم نعلم ، وسمع ما لم نسمع . وعن أشعث بن سليم ، عن أبيه قال : سمعت أبا أيوب يحدث عن أبي هريرة ، فقيل له : أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدث عن أبي هريرة ؟ ! فقال : إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع ، وإني أن أحدث عنه أحب إلي من أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . يعني : ما لم أسمعه منه . كانت يده مع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يدور معه حيثما دار
وعن بكير بن الأشج قال : قال لنا بسر بن سعيد : اتقوا الله وتحفظوا من الحديث ، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة ، فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثنا عن كعب الأحبار ، ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب ، وحديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي رواية : يجعل ما قاله كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب ، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث .
عبادة أبو هريرة وقد كان أبو هريرة ، رضي الله عنه ، من الصدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم .
فعن أبي عثمان النهدي قال : كان أبو هريرة يقوم ثلث الليل ، وامرأته ثلثه ، وابنته ثلثه ، يقوم هذا ، ثم يوقظ هذا ، ثم يوقظ هذا وهذا .
وفي " الصحيحين " عنه أنه قال : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أنام .
وقال ابن جريج عمن حدثه قال : قال أبو هريرة : إني أجزئ الليل ثلاثة أجزاء ، فجزء لقراءة القرآن ، وجزء أنام فيه ، وجزء أتذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن أبو أيوب قال : كان لأبي هريرة مسجد في مخدعه ، ومسجد في بيته ، ومسجد في حجرته ، ومسجد على باب داره ، إذا خرج صلى فيها جميعها ، وإذا دخل صلى فيها جميعها .
وقال عكرمة : كان أبو هريرة يسبح كل يوم ثنتي عشرة ألف تسبيحة ، ويقول : أسبح على قدر ديتي .
وعن ميمون بن أبي ميسرة قال : كانت لأبي هريرة صيحتان في كل يوم ، أول النهار يقول : ذهب الليل وجاء النهار ، وعرض آل فرعون على النار . وإذا كان العشي يقول : ذهب النهار وجاء الليل ، وعرض آل فرعون على النار . فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله من النار .
وعن أبي هريرة قال : لا تغبطن فاجرا بنعمة ، فإن من ورائه طالبا حثيثا طلبه ; جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا [ الإسراء : 97 ] .
وعن سليم بن حيان ، قال : سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة قال : نشأت يتيما ، وهاجرت مسكينا ، وكنت أجيرا لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي ، أحدو بهم إذا ركبوا ، وأحتطب إذا نزلوا ، فالحمد لله الذي جعل الدين قواما وجعل أبا هريرة إماما .
وعن أبي سلمة قال : قال أبو هريرة وأبو ذر : باب من نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعا ، وباب نعلمه - عملنا به أو لم نعمل به - أحب إلينا من مائة ركعة تطوعا . وقالا : سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : العلم " . وهذا حديث غريب من هذا الوجه . " إذا جاء طالب العلم الموت وهو على هذه الحال ، مات وهو شهيد
وروى غير واحد عن أبي هريرة ، أنه كان يتعوذ في سجوده أن يزني أو يسرق أو يكفر أو يعمل بكبيرة . فقيل له : أتخاف ذلك ؟ فقال : ما يؤمنني وإبليس حي ، يصرفها كيف يشاء ؟ ومصرف القلوب
وقالت له ابنته : يا أبت ، إن البنات يعيرنني يقلن : لم لا يحليك أبوك بالذهب ؟ فقال : يا بنية ، قولي لهن : إن أبي يخشى علي حر اللهب .
وقال أبو هريرة : أتيت عمر بن الخطاب ، فقمت له وهو يسبح بعد الصلاة ، فانتظرته ، فلما انصرف دنوت منه ، فقلت : أقرئني آيات من كتاب الله - قال : وما أريد إلا الطعام - قال : فأقرأني آيات من سورة " آل عمران " ، فلما بلغ أهله دخل وتركني على الباب فأبطأ ، فقلت : ينزع ثيابه ثم يأمر لي بطعام . فلم أر شيئا ، فلما طال علي قمت فمشيت ، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمني فقال : " يا أبا هريرة ، إن خلوف فمك الليلة لشديد " . فقلت : أجل يا رسول الله ، لقد ظللت صائما وما أفطرت بعد ، وما أجد ما أفطر عليه . قال : " فانطلق " . فانطلقت معه حتى أتى بيته ، فدعا جارية له سوداء ، فقال : " ائتينا بتلك القصعة " . فأتتنا بقصعة فيها وضر من طعام ، أراه شعيرا قد أكل وبقي في جوانبها بعضه وهو يسير ، فسميت وجعلت أتتبعه ، فأكلت حتى شبعت .
وعن أبي هريرة ، أنه قال : إن هذه الكناسة مهلكة دنياكم وآخرتكم . يعني الشهوات وما يأكلونه .
وقال سعيد بن أبي هند ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " . فأصبحت لا أسقط حرفا مما حدثني ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك ؟ " فقلت : أسألك أن تعلمني مما علمك الله . قال : فنزعت نمرة على ظهري ، فبسطتها بيني وبينه حتى كأني أنظر إلى القمل يدب عليها ، فحدثني حتى إذا استوعب حديثه قال : " اجمعها إليك فصرها " .
وقال أبو عثمان النهدي : قلت لأبي هريرة : كيف تصوم ؟ قال : أصوم أول الشهر ثلاثا ، فإن حدث بي حدث كان لي أجر شهري .
وعن أبي عثمان النهدي ، أن أبا هريرة كان في سفر ومعه قوم ، فلما نزلوا وضعوا السفرة وبعثوا إليه ليأكل معهم فقال : إني صائم . فلما كادوا أن يفرغوا من أكلهم جاء فجعل يأكل ، فجعل القوم ينظرون إلى رسولهم الذي أرسلوه إليه ، فقال لهم : أراكم تنظرون إلي ، قد والله أخبرني أنه صائم . فقال أبو هريرة : صدق ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " صوم شهر الصبر صوم الدهر وصوم ثلاثة أيام من كل شهر " . وقد صمت ثلاثة أيام من أول الشهر ، فأنا مفطر في تخفيف الله ، صائم في تضعيف الله عز وجل .
وعن أبي هريرة ، أنه كان هو وأصحاب له إذا صاموا يجلسون في المسجد ، وقالوا : نظهر صيامنا .
وعن فرقد السبخي قال : كان أبو هريرة يطوف بالبيت ، وهو يقول : ويل لي من بطني ، إن أشبعته كظني ، وإن أجعته أضعفني .
وروى عبد الله بن أحمد ، عن أبي هريرة ، أنه كان له خيط فيه اثنا عشر ألف عقدة يسبح به قبل أن ينام . وفي رواية : ألفا عقدة ، فلا ينام حتى يسبح به . وهو أصح من الذي قبله .
ولما حضره الموت بكى فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : ما أبكي على دنياكم هذه ، ولكن أبكي على بعد سفري وقلة زادي ، وإني أصبحت في صعود مهبط على جنة ونار ، لا أدري إلى أيهما يؤخذ بي .
وعن أبي هريرة قال : . إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم
وروى الطبراني عن معمر قال : بلغني عن أبي هريرة ، أنه كان إذا مر بجنازة قال : روحوا فإنا غادون ، أو اغدوا فإنا رائحون ، موعظة بليغة ، وغفلة سريعة ، يذهب الأول ويبقى الآخر لا عقل له .
وعن عبد المؤمن بن عبد الله السدوسي قال : سمعت أبا يزيد المديني يقول : قام أبو هريرة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم دون مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعتبة ، فقال : ويل للعرب من شر قد اقترب ، ويل لهم من ; يحكمون فيهم بالهوى ويقتلون بالغضب . إمارة الصبيان
وعن أبي هريرة قال : كانت لي خمس عشرة ثمرة ، فأفطرت على خمس ، وتسحرت بخمس ، وأبقيت خمسا لفطري .
وعن أبي المتوكل ، أن أبا هريرة كانت لهم زنجية قد غمتهم بعملها ، فرفع عليها يوما السوط ، ثم قال : لولا القصاص يوم القيامة لأغشيتك به ، ولكن سأبيعك ممن يوفيني ثمنك أحوج ما أكون إليه ، اذهبي فأنت حرة لله عز وجل .
وعن أبي سلمة ، أن أبا هريرة مرض ، فدخلت عليه أعوده ، فقلت : اللهم اشف أبا هريرة . فقال : اللهم لا ترجعها . ثم قال : يا أبا سلمة ، يوشك أن . يأتي على الناس زمان يكون الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر
وروى عطاء عن أبي هريرة قال : إذا رأيتم ستا ، فإن كانت نفس أحدكم في يده فليرسلها ، فلذلك أتمنى الموت أخاف أن تدركني ; إذا أمرت السفهاء ، وبيع الحكم ، وتهون بالدم ، وقطعت الأرحام ، وكثرت الجلاوزة ، ونشأ نشء يتخذون القرآن مزامير .
وعن يزيد بن زياد القرظي ، أن ثعلبة بن أبي مالك القرظي ، حدثه أن أبا هريرة أقبل في السوق يحمل حزمة حطب - وهو يومئذ أمير لمروان بن الحكم - فقال : أوسع الطريق للأمير يا ابن أبي مالك . فقلت : يرحمك الله يكفي هذا . فقال : أوسع الطريق للأمير والحزمة عليه .
وله فضائل ومناقب ومآثر وكلام حسن ومواعظ جمة ، أسلم كما قدمنا عام خيبر ، إرسال أبو هريرة إلى البحرين فلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يفارقه إلا حين بعثه مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين ، ووصاه به ، فجعله العلاء مؤذنا بين يديه ، وقال له أبو هريرة : لا تسبقني بآمين أيها الأمير . وقد استعمله عمر بن الخطاب عليها في أيام إمارته ، وقاسمه مع جملة العمال .
وعن ابن سيرين ، أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين ، فقدم بعشرة آلاف ، فقال له عمر : استأثرت بهذه الأموال أي عدو الله وعدو كتابه ؟ فقال أبو هريرة : لست بعدو الله ولا عدو كتابه ، ولكني عدو من عاداهما . فقال : فمن أين هي لك ؟ قال : خيل نتجت ، وغلة ورقيق لي ، وأعطية تتابعت علي . فنظروا فوجدوه كما قال . فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله ، فأبى أن يعمل له ، فقال له : تكره العمل ، وقد طلبه من كان خيرا منك ؟ طلبه يوسف عليه السلام . فقال : إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي ، وأنا أبو هريرة بن أميمة وأخشى ثلاثا واثنتين . قال عمر : فهلا قلت خمسة ؟ قال : أخشى أن أقول بغير علم ، وأقضي بغير حكم ، أو يضرب ظهري ، وينتزع مالي ، ويشتم عرضي .
وذكر غيره أن عمر أغرمه في العمالة الأولى اثني عشر ألفا ، فلهذا امتنع في الثانية .
تولية أبي هريرة المدينة من قبل معاوية وعن محمد بن زياد قال : كان معاوية يبعث أبا هريرة على المدينة ، فإذا غضب عليه عزله وولى مروان بن الحكم فإذا جاء أبو هريرة إلى مروان حجبه عنه ، فعزل مروان ورجع أبو هريرة ، فقال لمولاه : من جاءك فلا ترده ، واحجب مروان . فلما جاء مروان دفع الغلام في صدره ، فما دخل إلا بعد جهد ، فلما دخل قال : إن الغلام حجبنا عنك . فقال له أبو هريرة : إنك أحق الناس أن لا تغضب من ذلك . والمعروف أن مروان هو الذي كان يستنيب أبا هريرة في إمرة المدينة ، ولكن كان يكون عن إذن معاوية في ذلك . والله أعلم .
وعن أبي رافع : كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة ، فيركب الحمار ويلقى الرجل فيقول : الطريق ، قد جاء الأمير . يعني نفسه ، وكان يمر بالصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الأعراب ، فلا يشعرون به حتى يلقي نفسه بينهم ويضرب برجليه كأنه مجنون ، فيفزع الصبيان منه ويفرون . قال أبو رافع : وربما دعاني أبو هريرة إلى عشائه بالليل ، فيقول : دع العراق للأمير - يعني قطع اللحم - قال : فأنظر فإذا هو ثريد بزيت .
وقال أبو الزعيزعة كاتب مروان : بعث مروان إلى أبي هريرة بمائة دينار ، فلما كان الغد بعث إليه : إني غلطت ولم أردك بها ، وإني إنما أردت غيرك . فقال أبو هريرة : قد أخرجتها ، فإذا خرج عطائي فخذها منه . وكان قد تصدق بها . وإنما أراد مروان اختباره .
وعن سعيد بن المسيب ، قال : كان معاوية إذا أعطى أبا هريرة سكت ، وإذا أمسك عنه تكلم .
وروى غير واحد عن أبي هريرة ، أنه جاءه شاب فقال : يا أبا هريرة ، إني أصبحت صائما ، فدخلت على أبي ، فجاءني بخبز ولحم ، فأكلت ناسيا . فقال : ، لا عليك . قال : ثم دخلت دارا لأهلي فجيء بلبن لقحة ، فشربته ناسيا . قال : لا عليك . قال : ثم نمت ، فاستيقظت ، فشربت ماء - وفي رواية : وجامعت ناسيا - فقال أبو هريرة : إنك يا ابن أخي لم تعود الصيام . طعمة أطعمكها الله
وفاة أبي هريرة وروى غير واحد ، أنه لما حضرته الوفاة بكى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : على قلة الزاد وشدة المفازة ، وأنا على عقبة هبوط ; إما إلى الجنة أو إلى نار ، فما أدري إلى أيهما أصير .
وعن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال : دخل مروان على أبي هريرة في شكواه الذي مات فيه فقال : شفاك الله يا أبا هريرة . فقال أبو هريرة : فأحب لقائي . قال : فما بلغ مروان أصحاب القطا حتى مات أبو هريرة . اللهم إني أحب لقاءك
وعن عمير بن هانئ قال : قال أبو هريرة : اللهم لا تدركني سنة ستين . قال : فتوفي فيها أو قبلها بسنة . وهكذا قال الواقدي أنه توفي سنة تسع وخمسين عن ثمان وسبعين سنة .
قال الواقدي : وهو الذي صلى على عائشة في رمضان ، وعلى أم سلمة في شوال سنة تسع وخمسين ، ثم توفي أبو هريرة بعدهما فيها . كذا قال ، والصواب أن أم سلمة تأخرت بعد أبي هريرة . وقد قال غير واحد : إنه توفي سنة تسع وخمسين . وقيل : ثمان - وقيل : سبع - وخمسين . والمشهور تسع وخمسين . قالوا : وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان نائب المدينة وفي القوم ابن عمر وأبو سعيد وخلق ، وكان ذلك عند صلاة العصر ، وكانت وفاته في داره بالعقيق ، فحمل إلى المدينة ، فصلى عليه ، ثم دفن بالبقيع ، رحمه الله ورضي عنه . وكتب الوليد بن عتبة إلى معاوية بوفاة أبي هريرة ، فكتب إليه معاوية أن انظر ورثته فأحسن إليهم ، واصرف إليهم عشرة آلاف درهم ، وأحسن جوارهم ، واعمل إليهم معروفا ; فإنه كان ممن نصر عثمان ، وكان معه في الدار ، رحمه الله تعالى . عبد الله بن بحينة عبد الله بن مالك بن القشب
واسمه جندب بن نضلة بن عبد الله بن رافع الأزدي ، أبو محمد ، حليف بني المطلب ، المعروف بابن بحينة ، وهي أمه بحينة بنت الأرت ، واسمه الحارث بن المطلب بن عبد مناف ، أسلم قديما ، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ناسكا صواما قواما ، وكان ممن يسرد صوم الدهر كله .
قال ابن سعد : كان ينزل بطن ريم على ثلاثين ميلا من المدينة . ومات في عمل مروان في المرة الثانية ، ما بين سنة أربع وخمسين إلى ثمان وخمسين ، والعجب أن ابن الجوزي نقل من كلام محمد بن سعد ، ثم إنه ذكر وفاته في هذه السنة ، يعني سنة تسع وخمسين . فالله أعلم . قيس بن سعد بن عبادة قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي
صحابي جليل كأبيه ، له في " الصحيحين " حديث ، وهو القيام للجنازة ، وله في " المسند " حديث في صوم عاشوراء ، وحديث غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارهم ، وغير ذلك ، وخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين .
وثبت في " صحيح البخاري " عن أنس قال : كان قيس بن سعد من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير . وحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات ، واستعمله على الصدقة . ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح ، ومعه ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار ، فأصابهم ذلك الجهد الكثير ، فنحر لهم قيس بن سعد تسع جزائر ، حتى وجدوا تلك الدابة على سيف البحر ، فأكلوا منها ، وأقاموا عليها شهرا حتى سمنوا .
وكان قيس سيدا مطاعا كريما ممدحا شجاعا ، ولاه علي نيابة مصر ، وكان يقاوم بدهائه وخديعته وسياسته لمعاوية وعمرو بن العاص ، ولم يزل معاوية يعمل عليه حتى عزله علي عن مصر ، وولى عليها محمد بن أبي بكر الصديق ، فاستخفه معاوية ، ولم يزل به حتى أخذ منه مصر كما قدمنا ذكره . وأقام قيس عند علي ، فشهد معه صفين والنهروان ، ولزمه حتى قتل ، ثم صار إلى المدينة ، فلما اجتمعت الكلمة على معاوية جاءه ليبايعه ، كما بايعه أصحابه .
قال عبد الرزاق ، عن ابن عيينة قال : قدم قيس بن سعد على معاوية ; ليبايعه كما بايع أصحابه ، فقال له معاوية : وأنت يا قيس تلجم علي مع من ألجم ؟ أما والله لقد كنت أحب أن لا تأتي هذا اليوم إلا وقد ظفر بك ظفر من أظافري موجع . فقال له قيس : وأنا والله قد كنت كارها أن أقوم في هذا المقام فأحييك بهذه التحية . فقال له معاوية : ولم ؟ وهل أنت إلا حبر من أحبار يهود ؟ فقال له قيس : وأنت يا معاوية كنت صنما من أصنام الجاهلية ، دخلت في الإسلام كارها ، وخرجت منه طائعا . فقال معاوية : اللهم غفرا ، مد يدك . فقال له قيس بن سعد : إن شئت زدت وزدت .
وقال موسى بن عقبة : قالت عجوز لقيس : أشكو إليك قلة الجرذان . فقال قيس : ما أحسن هذه الكناية ! املئوا بيتها خبزا ولحما وسمنا وتمرا .
وقال غيره : وكانت له صحفة يدار بها حيث دار ، وكان ينادي له مناد : هلموا إلى اللحم والثريد . وكان أبوه وجده من قبله يفعلان كفعله .
وقال عروة بن الزبير : باع قيس بن سعد من معاوية أرضا بتسعين ألفا ، فقدم المدينة ، فنادى مناديه : من أراد القرض فليأت . فأقرض منها خمسين ألفا وأطلق الباقي ، ثم مرض بعد ذلك فقل عواده ، فقال لزوجته قريبة بنت أبي عتيق أخت أبي بكر الصديق : إني أرى قلة عوادي في مرضي هذا ، وإني لأرى ذلك من أجل ما لي على الناس من القرض . فبعث إلى كل رجل ممن كان له عليه دين بصكه المكتوب عليه ، فوهبهم ما له عليهم ، وقيل : إنه أمر مناديه فنادى : من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو منه في حل . فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه من كثرة العواد ، وكان يقول : اللهم ارزقني مالا وفعالا ، فإنه لا يصلح الفعال إلا بالمال .
وقال سفيان الثوري : اقترض رجل من قيس بن سعد ثلاثين ألفا ، فلما جاء ليوفيه إياها قال له قيس : إنا قوم إذا أعطينا أحدا شيئا لا نرجع فيه .
وقال الهيثم بن عدي : اختلف ثلاثة عند الكعبة في أكرم أهل زمانهم ، فقال أحدهم : عبد الله بن جعفر . وقال الآخر : قيس بن سعد . وقال الآخر : عرابة الأوسي . فتماروا في ذلك حتى ارتفع ضجيجهم عند الكعبة ، فقال لهم رجل : فليذهب كل رجل منكم إلى صاحبه الذي يزعم أنه أكرم من غيره ، فلينظر ما يعطيه وليحكم على العيان . فذهب صاحب عبد الله بن جعفر إليه ، فوجده قد وضع رجله في الغرز ليذهب إلى ضيعة له ، فقال له : يا ابن عم رسول الله ، ابن سبيل ومنقطع به . قال : فأخرج رجله من الغرز وقال : ضع رجلك واستو عليها ، فهي لك بما عليها ، وخذ ما في الحقيبة ولا تخدعن عن السيف ، فإنه من سيوف علي . فرجع إلى أصحابه بناقة عظيمة ، وإذا في الحقيبة أربعة آلاف دينار ، ومطارف من خز وغير ذلك ، وأجل ذلك سيف علي بن أبي طالب رضي الله عنه . ومضى صاحب قيس بن سعد إليه ، فوجده نائما ، فقالت له الجارية : ما حاجتك إليه ؟ قال : ابن سبيل ومنقطع به . قالت : فحاجتك أيسر من إيقاظه ، هذا كيس فيه سبعمائة دينار ما في دار قيس مال غيره اليوم ، واذهب إلى مولانا في معاطن الإبل ، فخذ لك ناقة وعبدا ، واذهب راشدا . فلما استيقظ قيس من رقدته أخبرته الجارية بما صنعت ، فأعتقها شكرا على صنيعها ذلك ، وقال : هلا أيقظتني حتى أعطيه ما يكفيه ، فلعل الذي أعطيته لا يقع منه موقع حاجته . وذهب صاحب عرابة الأوسي إليه ، فوجده وقد خرج من منزله يريد الصلاة ، وهو يتوكأ على عبدين ، وقد كف بصره ، فقال له : يا عرابة . فقال : قل . فقال : ابن سبيل ومنقطع به . قال : فخلى عن العبدين ثم صفق بيده اليمنى على اليسرى ، ثم قال : أوه أوه ، والله ما أصبحت ولا أمسيت وقد تركت الحقوق من مال عرابة شيئا ، ولكن خذهما . يعني العبدين . فقال : ما كنت لأفعل . فقال : إن لم تأخذهما فهما حران فإن شئت فأعتق ، وإن شئت فخذ . وأقبل يلتمس الحائط بيده ، قال : فأخذهما وجاء بهما . قال : فحكم الناس على أن ابن جعفر قد جاد بمال عظيم ، وأن ذلك ليس بمستنكر له ، إلا أن السيف أجلها ، وأن قيسا أحد الأجواد ; حكم مملوكته في ماله بغير علمه ، واستحسانه ما فعلته ، وعتقه لها وما تكلم به وأجمعوا على أن أسخى الثلاثة عرابة الأوسي ; لأنه جهد من مقل .
وقال سفيان الثوري ، عن أبي صالح قال : قسم سعد بن عبادة ماله بين أولاده ، وخرج إلى الشام فمات بها ، فولد له ولد بعد وفاته ، فجاء أبو بكر وعمر إلى قيس بن سعد فقالا : إن أباك قسم ماله ، ولم يعلم بحال هذا الولد إذ كان حملا ، فاقسموا له معكم . فقال قيس : إني لا أغير ما فعله سعد ، ولكن نصيبي له . وعن معبد بن خالد قال : كان قيس بن سعد لا يزال هكذا رافعا أصبعه المسبحة . يعني يدعو .
وعن قيس بن سعد قال : لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " في النار " . المكر والخديعة لكنت من أمكر هذه الأمة .
وقال الزهري : دهاة العرب حين ثارت الفتنة خمسة ; معاوية وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، وقيس بن سعد وعبد الله بن بديل ، وكانا مع علي ، وكان المغيرة معتزلا بالطائف حتى حكم الحكمان ، فصار إلى معاوية .
وقد تقدم أن محمد بن أبي حذيفة كان قد تغلب على مصر ، وأخرج منها عبد الله بن سعد بن أبي سرح نائب عثمان بعد عمرو بن العاص ، فأقره عليها على مدة يسيرة ، ثم عزله بقيس بن سعد ، فلما دخلها سار فيها سيرة حسنة وضبطها ، وذلك في سنة ست وثلاثين ، فثقل أمره على معاوية وعمرو بن العاص ، فكاتباه ليكون معهما على علي فامتنع ، وأظهر للناس مناصحته لهما ، فشاع الخبر حتى بلغ عليا فعزله ، وبعث إلى مصر الأشتر النخعي ، فمات الأشتر في الرملة قبل أن يصل إليها ، فبعث علي محمد بن أبي بكر ، فخف أمره على معاوية وعمرو ، فلم يزالا حتى أخذا منه الديار المصرية ، وقتل محمد بن أبي بكر وأحرق في جيفة حمار ، وسار قيس إلى المدينة ثم سار إلى علي بالكوفة ، فكان معه في حروبه حتى قتل علي ، ثم على مقدمة الحسن ، فلما بايع الحسن معاوية ساء قيسا ذلك ، وامتنع من طاعة معاوية ، ثم ارتحل إلى المدينة ثم قدم على معاوية في وفد من الأنصار ، فبايع معاوية بعد معاتبة ، وكلام فيه غلظة ، ثم أكرمه معاوية وقدمه وحظي عنده ، فبينما هو مع الوفود عند معاوية إذ قدم كتاب ملك الروم على معاوية ، وفيه أن ابعث إلي بسراويل أطول رجل من العرب . فقال معاوية لقيس : ما أظننا إلا قد احتجنا إلى سراويلك . وكان قيس مديد القامة جدا ، لا يصل أطول الرجال إلى صدره ، فقام قيس فتنحى ، ثم خلع سراويله ، فألقاها إلى معاوية ، فقال له معاوية : يرحمك الله ، ما أردت إلى هذا ، هلا ذهبت إلى منزلك ثم أرسلت بها إلينا . فأنشأ قيس يقول عند ذلك :
أردت بها كي يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود
وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه سراويل عادي نمته ثمود
وإني من الحي اليماني لسيد وما الناس إلا سيد ومسود
فكدهم بمثلي إن مثلي عليهم شديد وخلقي في الرجال مزيد
وفضلني في الناس أصلي ووالدي وباع به أعلو الرجال مديد
وفي رواية أن ملك الروم بعث إلى معاوية برجلين من جيشه يزعم أن أحدهما أقوى الروم ، والآخر أطول الروم ، فإن كان في جيشك من يفوقهما في قوة هذا وطول هذا بعثت إليك من الأسارى كذا وكذا ومن التحف كذا وكذا ، وإن لم يكن في جيشك من يشبههما فهادني ثلاث سنين . فلما حضرا عند معاوية قال : من لهذا القوي ؟ فقالوا : ما له إلا أحد رجلين ; إما محمد ابن الحنفية ، أو عبد الله بن الزبير . فجيء بمحمد ابن الحنفية ، وهو ابن علي بن أبي طالب ، فلما اجتمع الناس عند معاوية قال له معاوية : أتعلم فيم أرسلت إليك ؟ قال : لا . فذكر له أمر الرومي وشدة بأسه . فقال له : ما تريد ؟ فقال : تجلس لي أو أجلس لك ، وتناولني يدك أو أناولك يدي ، فأينا قدر على أن يقيم الآخر من مكانه غلبه ، وإلا فقد غلب . فقال له : ماذا تريد ; تجلس أو أجلس ؟ فقال له الرومي : بل اجلس أنت . فجلس محمد ابن الحنفية وأعطى الرومي يده ، فاجتهد الرومي بكل ما يقدر عليه من القوة أن يزيله من مكانه أو يحركه ليقيمه ، فلم يقدر على ذلك ، ولا وجد إليه سبيلا ، فغلب الرومي عند ذلك ، وظهر لمن معه من الوفود من بلاد الروم أنه قد غلب ، ثم قام محمد ابن الحنفية ، فقال للرومي : اجلس لي . فجلس وأعطى محمدا يده ، فما لبث أن أقامه سريعا ، ورفعه في الهواء ، ثم ألقاه على الأرض ، فسر بذلك معاوية سرورا عظيما ، ونهض قيس بن سعد ، فتنحى عن الناس ، ثم خلع سراويله ، وأعطاها لذلك الرومي الطويل ، فلبسها فبلغت إلى ثدييه وأطرافها تخط بالأرض ، فاعترف الروم بالغلب ، وبعث ملكهم ما كان التزمه لمعاوية ، وعاتب الأنصار قيس بن سعد في خلعه سراويله بحضرة الناس ، فقال ذلك الشعر المتقدم معتذرا به إليهم ، وليكون ذلك ألزم للحجة التي تقوم على الروم ، وأقطع لما حاولوه .
وعن عمرو بن دينار قال : كان قيس بن سعد رجلا ضخما جسيما صغير الرأس ، له لحية في ذقنه ، وكان إذا ركب الحمار خطت رجلاه في الأرض .
وقال الواقدي وخليفة بن خياط وغير واحد : توفي بالمدينة في آخر خلافة معاوية . وذكر ابن الجوزي وفاته في هذه السنة ، فتبعناه في ذلك .
معقل بن يسار بن عبد الله ، أبو عبد الله . وقيل : أبو علي ، المزني : معقل بن يسار بن عبد الله
صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشهد الحديبية ، ورفع أغصان الشجرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بايع أهلها ، ولاه عمر البصرة ، فحفر النهر المنسوب إليه : نهر معقل ، وبنى بالبصرة دارا فنزلها .
. عن الحسن قال : دخل عبيد الله بن زناد على معقل بن يسار في مرضه الذي قبض فيه ، فقال : إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة لم يجد رائحة الجنة ، وإن ريحها يوجد من مسيرة مائة عام " قال ابن زياد : ألا حدثتني قبل اليوم ؟ قال معقل : واليوم لو لم أكن على حالي هذه لم أحدثك به
هند بنت أبي أمية ، واسمه سهيل ، وهي أم سلمة : هند بنت أبي أمية
كانت عند أبي سلمة ، فهاجرت معه إلى الحبشة ، وولدت له ، وتوفي عنها فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة أربع من الهجرة ، وتوفيت في هذه السنة ، وصلى عليها أبو هريرة ، ودفنت بالبقيع ، وكان لها يوم ماتت أربع وثمانون سنة .
أبو محذورة الجمحي وفيها - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، ولم يزل يؤذن بها حتى مات وولده من بعده ، وقيل : مات سنة تسع وستين . مات أبو محذورة الجمحي مؤذن رسول الله