الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            وفاة معاوية بن أبي سفيان

            خطبة معاوية بن أبي سفيان قبل مرضه خطب معاوية قبل مرضه وقال : إني كزرع مستحصد وقد طالت إمرتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي ، ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه ، كما أن من قبلي كان خيرا مني ، وقد قيل : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي وبارك لي فيه !

            عهد معاوية إلى ابنه يزيد في مرضه وكان معاوية أخذ على الوفد الذين وفدوا إليه مع عبيد الله بن زياد البيعة لابنه يزيد ، وعهد إلى ابنه يزيد حين مرض ، فقال له :

            يا بني إني قد كفيتك الشد والترحال ، ووطأت لك الأمور ، وذللت لك الأعداء ، وأخضعت لك رقاب العرب ، وجمعت لك ما لم يجمعه أحد ، فانظر أهل الحجاز فإنهم أصلك ، وأكرم من قدم عليك منهم ، وتعاهد من غاب ، وانظر أهل العراق :

            فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل ، فإن عزل عامل أيسر من أن يشهر عليك مائة ألف سيف ، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك ، فإن رابك من عدوك شيء فانتصر بهم ، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم ، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم تغيرت أخلاقهم ، وإني لست أخاف عليك أن ينازعك في هذا الأمر إلا أربعة نفر من قريش : الحسين بن علي ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، فأما ابن عمر فإنه رجل قد وقذته العبادة ، فإذا لم يبق أحد غيره بايعك ، وأما الحسين بن علي فهو رجل خفيف ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه ، فإن خرج وظفرت به فاصفح عنه ، فإن له رحما ماسة وحقا عظيما وقرابة من محمد - صلى الله عليه وسلم - وأما ابن أبي بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله ، ليس له همة إلا في النساء واللهو ، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإن أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير ، فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطعه إربا إربا ، واحقن دماء قومك ما استطعت .

            هكذا في هذه الرواية ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر ، وليس بصحيح ، فإن عبد الرحمن بن أبي بكر كان قد مات قبل معاوية .

            وقيل : إن يزيد كان غائبا في مرض أبيه وموته ، وإن معاوية أحضر الضحاك بن قيس ومسلم بن عقبة المري فأمرهما أن يؤديا عنه هذه الرسالة إلى يزيد ابنه ، وهو الصحيح .

            وفاة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه

            كتب رجل من أهل المدينة إلى معاوية بن أبي سفيان ، رضي الله عنه :


            إذا الرجال ولدت أولادها واضطربت من كبر أعضادها     وجعلت أسقامها تعتادها
            فهي زروع قد دنا حصادها

            فقال معاوية نعى إلي نفسي .

            عن حدثني ثمامة بن كلثوم ، أن آخر خطبة خطبها معاوية أن قال :ويا يزيد ، إذا وفى أجلي فول غسلي رجلا لبيبا ; فإن اللبيب من الله بمكان ، فلينعم الغسل وليجهر بالتكبير ، ثم اعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقراضة من شعره وأظفاره ، فاستودع القراضة أنفي وفمي وأذني وعيني ، واجعل الثوب يلي جلدي دون أكفاني ، ويا يزيد ، احفظ وصية الله في الوالدين ، فإذا أدرجتموني في جريدتي ، ووضعتموني في حفرتي فخلوا معاوية وأرحم الراحمين .

            وقال بعضهم : لما احتضر معاوية جعل يقول :


            لعمري لقد عمرت في الدهر برهة     ودانت لي الدنيا بوقع البواتر
            وأعطيت حمر المال والحكم والنهى     وسلم قماقيم الملوك الجبابر
            فأضحى الذي قد كان مما يسرني     كحلم مضى في المزمنات الغوابر
            فيا ليتني لم أعن في الملك ساعة     ولم أعن في لذات عيش نواضر
            وكنت كذي طمرين عاش ببلغة     من العيش حتى زار ضيق المقابر

            وعن محمد بن الحكم ، عمن حدثه ، أن معاوية لما احتضر أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال ، كأنه أراد أن يطيب له ; لأن عمر بن الخطاب قاسم عماله .

            وذكروا أنه في آخر عمره اشتد به البرد ، فكان إذا لبس أو تغطى بشيء ثقيل يغمه ، فاتخذ له ثوب من حواصل الطير ، ثم ثقل عليه بعد ذلك ، فقال : تبا لك من دار ، ملكتك أربعين سنة ; عشرين أميرا ، وعشرين خليفة ، ثم هذا حالي فيك ، ومصيري منك ، تبا للدنيا ومحبيها .

            وعن عبد الملك بن عمير قال : لما ثقل معاوية وتحدث الناس أنه بالموت قال لأهله : احشوا عيني إثمدا ، وأوسعوا رأسي دهنا . ففعلوا وبرقوا وجهه بالدهن ، ثم مهد له فجلس وقال : أسندوني . ثم قال : ائذنوا للناس فليسلموا علي قياما ولا يجلس أحد . فجعل الرجل يدخل فيسلم قائما فيراه متكحلا متدهنا ، فيقول متقول الناس : هو لما به ، وهو أصح الناس . فلما خرجوا من عنده قال معاوية :


            وتجلدي للشامتين أريهم     أني لريب الدهر لا أتضعضع
            وإذا المنية أنشبت أظفارها     ألفيت كل تميمة لا تنفع

            قال : وكان به التفاتة ، يعني لقوة ، فمات من يومه ذلك ، رحمه الله ورضي عنه .

            وقال محمد بن عقبة : لما نزل بمعاوية الموت قال : يا ليتني كنت رجلا من قريش بذي طوى ولم أل من هذا الأمر شيئا .

            وقال أبو السائب المخزومي : لما حضرت معاوية الوفاة تمثل بقول الشاعر :


            إن تناقش يكن نقاشك يا رب     عذابا لا طوق لي بالعذاب
            أو تجاوز تجاوز العفو فاصفح     عن مسيء ذنوبه كالتراب

            وقال بعضهم : لما احتضر معاوية جعل أهله يقلبونه فقال لهم : أي شيخ تقلبون ؟ إن نجاه الله من النار غدا .

            وقال محمد بن سيرين : جعل معاوية لما احتضر يضع خدا على الأرض ، ثم يقلب وجهه ، ويضع الخد الآخر ، ويبكي ويقول : اللهم إنك قلت في كتابك : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء : 48 ] . اللهم فاجعلني ممن تشاء أن تغفر له .

            وقال العتبي عن أبيه : تمثل معاوية عند موته بقول بعضهم وهو في السياق :


            هو الموت لا منجى من الموت والذي     نحاذر بعد الموت أدهى وأفظع

            ثم قال : اللهم أقل العثرة ، واعف عن الزلة ، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرج غيرك ، فإنك واسع المغفرة ، ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك .

            وقال غيره : أغمي عليه ثم أفاق ، فقال لأهله : اتقوا الله ، فإن الله تعالى يقي من اتقاه ، ولا يقي من لا يتقي . ثم مات رحمه الله .

            وعن عبد الملك بن نوفل قال : لما مات معاوية صعد الضحاك بن قيس المنبر ، فخطب الناس وأكفان معاوية على يديه ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : إن معاوية الذي كان عود العرب وحد العرب ، قطع الله به الفتنة ، وملكه على العباد ، وفتح به البلاد ، ألا إنه قد مات وهذه أكفانه ، فنحن مدرجوه فيها ، ومدخلوه قبره ومخلون بينه وبين عمله ، ثم هو البرزخ إلى يوم القيامة ، فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحضر عند الأولى . ثم نزل وبعث البريد إلى يزيد بن معاوية يعلمه ويستحثه على المجيء .

            ولا خلاف أنه ، رضي الله عنه ، توفي بدمشق في رجب سنة ستين . فقال جماعة : ليلة الخميس للنصف من رجب سنة ستين . وقيل : ليلة الخميس لثمان بقين من رجب سنة ستين . قاله ابن إسحاق وغير واحد . وقيل : لأربع خلت من رجب . قاله الليث . وقال سعد بن إبراهيم : لمستهل رجب .

            وقال محمد بن إسحاق والشافعي : صلى عليه ابنه يزيد . وقد ورد من غير وجه أنه أوصى إليه أن يكفن في ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كساه إياه ، وكان مدخرا عنده لهذا اليوم ، وأن يجعل ما عنده من شعره وقلامة أظفاره في فمه وأنفه وعينيه وأذنيه . وقال آخرون : بل كان ابنه يزيد غائبا ، فصلى عليه الضحاك بن قيس بعد صلاة الظهر بمسجد دمشق ، ثم دفن فقيل : بدار الإمارة . وهي الخضراء ، وقيل : بمقابر باب الصغير . وعليه الجمهور . والله أعلم . وكان عمره إذ ذاك ثمانيا وسبعين سنة . وقيل : جاوز الثمانين . وهو الأشهر . والله أعلم . ثم ركب الضحاك بن قيس في جيش ، وخرج ليتلقى يزيد بن معاوية ، وكان يزيد بحوارين ، فلما وصلوا إلى ثنية العقاب تلقتهم أثقال يزيد ، وإذا يزيد راكب على بختي وعليه الحزن ظاهر ، فسلم عليه الناس بالإمارة ، وعزوه في أبيه ، وهو يخفض صوته في رده عليهم ، والناس صامتون لا يتكلم معه إلا الضحاك بن قيس ، فانتهى إلى باب توماء ، فظن الناس أنه يدخل منه إلى المدينة ، فأجازه مع السور حتى انتهى إلى الباب الشرقي ، فقيل : يدخل منه . لأنه باب خالد ، فجازه حتى أتى الباب الصغير ، فعرف الناس أنه قاصد قبر أبيه ، فلما وصل إلى باب الصغير ترجل عند المقبرة ، ثم دخل ، فصلى على أبيه بعد ما دفن ، ثم انفتل ، فلما خرج من المقبرة أتى بمراكب الخلافة ، فركب ، ثم دخل البلد ، وأمر فنودي في الناس أن الصلاة جامعة . ودخل الخضراء ، فاغتسل ولبس ثيابا حسنة ، ثم خرج فخطب الناس أول خطبة خطبها وهو أمير المؤمنين ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أيها الناس ، إن معاوية كان عبدا من عبيد الله ، أنعم الله عليه ، ثم قبضه إليه ، وهو خير ممن بعده ، ودون من قبله ، ولا أزكيه على الله ، عز وجل ، هو أعلم به ، إن عفا عنه فبرحمته ، وإن عاقبه فبذنبه ، وقد وليت الأمر من بعده ، ولست آسى على طلب ، ولا أعتذر من تفريط ، وإذا أراد الله شيئا كان . وقال لهم في خطبته هذه : وإن معاوية كان يغزيكم في البر والبحر ، وإني لست حاملا أحدا من المسلمين في البحر ، وإن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم ، ولست مشتيا أحدا بأرض الروم ، وإن معاوية كان يخرج لكم العطاء أثلاثا ، وأنا أجمعه لكم كله . قال : فافترق الناس عنه وهم لا يفضلون عليه أحدا .

            وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم : سمعت الشافعي يقول : بعث معاوية وهو مريض إلى ابنه يزيد ، فلما جاءه البريد ركب وهو يقول :


            جاء البريد بقرطاس يخب به     فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
            قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم     قال الخليفة أمسى مثبتا وجعا
            فمادت الأرض أو كادت تميد بنا     كأن أغبر من أركانها انقلعا
            ثم انبعثنا إلى خوص مضمرة     نرمي الفجاج بها ما نأتلي سرعا
            فما نبالي إذا بلغن أرحلنا     ما مات منهن بالموماة أو ظلعا

            وزاد غيره :


            لما انتهينا وباب الدار منصفق     بصوت رملة ريع القلب فانصدعا
            من لا تزل نفسه توفي على شرف     توشك مقادير تلك النفس أن تقعا
            أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه     كانا جميعا خليطا سالمين معا
            أغر أبلج يستسقى الغمام به     لو قارع الناس عن أحلامهم قرعا
            لا يرقع الناس ما أوهى وإن جهدوا     أن يرقعوه ولا يوهون ما رقعا

            قال الشافعي : سرق يزيد هذين البيتين من الأعشى . ثم ذكر أنه دخل قبل موت أبيه دمشق ، وأنه أوصى إليه . وهذا قد قاله ابن إسحاق وغير واحد ، ولكن الجمهور على أن يزيد لم يدخل دمشق إلا بعد موت أبيه ، وأنه صلى على قبره بالناس ، كما قدمنا . والله أعلم .

            وقال أبو الورد العنبري يرثي معاوية ، رضي الله عنه :


            ألا أنعى معاوية بن حرب     نعاه الحل للشهر الحرام
            نعاه الناعجات بكل فج     خواضع في الأزمة كالسهام
            فهاتيك النجوم وهن خرس     ينحن على معاوية الشآم

            وقال أيمن بن خريم يرثيه أيضا :


            رمى الحدثان نسوة آل حرب     بمقدار سمدن له سمودا
            فرد شعورهن السود بيضا     ورد وجوههن البيض سودا
            فإنك لو شهدت بكاء هند     ورملة إذ يصفقن الخدودا
            بكيت بكاء معولة قريح     أصاب الدهر واحدها الفريدا

            ولما اشتد مرضه أخذت ابنته رملة رأسه في حجرها وجعلت تفليه ، فقال : إنك لتفلينه حولا قلبا ، جمع المال من شب إلى دب ، فليته لا يدخل النار ! ثم تمثل :


            لقد سعيت لكم من سعي ذي نصب     وقد كفيتكم التطواف والرحلا


            وبلغه أن قوما يفرحون بموته ، فأنشد :


            فهل من خالد إن ما هلكنا     وهل بالموت يا للناس عار ؟



            وكان في مرضه ربما اختلط في بعض الأوقات ، فقال مرة : كم بيننا وبين الغوطة ؟ فصاحت بنته : واحزناه ! فأفاق فقال : إن تنفري فقد رأيت منفرا .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية