الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            بيعة مروان بن الحكم

            وفي سنة أربع وستين بويع مروان بن الحكم بالشام .

            وكان سبب ذلك أن حصين بن نمير لما رجع من أرض الحجاز ، وارتحل عبيد الله بن زياد من البصرة إلى الشام ، وانتقلت بنو أمية من المدينة إلى الشام ، اجتمعوا إلى مروان بن الحكم بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية ، وقد كان عزم على أن يبايع لابن الزبير بدمشق ، وقد بايع أهلها الضحاك بن قيس على أن يصلح بينهم ويقيم لهم أمرهم حتى تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والضحاك يريد أن يبايع لابن الزبير ، وقد بايع لابن الزبير النعمان بن بشير بحمص ، وبايع له زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين ، وبايع له ناتل بن قيس بفلسطين ، وأخرج منها روح بن زنباع الجذامي ، فلم يزل عبيد الله بن زياد و الحصين بن نمير بمروان بن الحكم ، حتى ثنوه عن رأيه ، وحذروه من دخول سلطان ابن الزبير وملكه إلى الشام وقالوا له : أنت شيخ قريش وسيدها ، فأنت أحق بهذا الأمر . والتف عليه هؤلاء كلهم مع قومه بني أمية ومع أهل اليمن ، فوافقهم ، وجعل يقول : ما فات شيء . وكتب حسان بن مالك بن بحدل الكلبي إلى الضحاك بن قيس يثنيه عن المبايعة لابن الزبير ، ويعرفه أيادي بني أمية عنده وإحسانهم إليه ، ويذكر فضلهم وشرفهم ، وقد بايع حسان بن مالك أهل الأردن لبني أمية ، وهو يدعو إلى ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية ، وبعث إلى الضحاك بذلك ، وأمره أن يقرأ كتابه على أهل دمشق يوم الجمعة على المنبر ، وبعث بالكتاب مع رجل يقال له : ناغضة بن كريب الطابخي . وقيل : هو من بني كلب . وقال له : إن لم يقرأه هو على الناس فاقرأه أنت . وأعطاه نسخة به ، فسار إلى الضحاك ، فأمره بقراءة الكتاب ، فلم يقبل ، فقام ناغضة فقرأه على الناس ، فصدقه جماعة من أمراء الناس ، وكذبه آخرون ، وثارت فتنة عظيمة بين الناس ، فقام خالد بن يزيد بن معاوية - وهو شاب حدث - على درجتين من المنبر ، فسكن الناس ، ونزل الضحاك فصلى بالناس الجمعة ، وأمر الضحاك بن قيس بأولئك الذين صدقوا ناغضة أن يسجنوا ، فثارت قبائلهم ، فأخرجوهم من السجن. يوم جيرون واضطرب أهل دمشق في ابن الزبير وبني أمية ، وكان اجتماع الناس ووقوفهم بعد صلاة الجمعة بباب الجيرون ، فسمي هذا اليوم يوم جيرون .

            قال المدائني : وقد أراد الناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان على أن يتولى عليهم فأبى ، وهلك في تلك الليالي ، ثم إن الضحاك بن قيس صعد منبر المسجد الجامع ، فخطبهم به ، ونال من يزيد بن معاوية ، فقام إليه شاب من بني كلب ، فضربه بعصا كانت معه والناس جلوس متقلدي سيوفهم ، فقام بعضهم إلى بعض ، فاقتتلوا في المسجد قتالا شديدا فقيس ومن لف لفيفها يدعون إلى ابن الزبير وينصرون الضحاك بن قيس ، وبنو كلب يدعون إلى بني أمية وإلى البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية ، ويتعصبون ليزيد وأهل بيته ، فنهض الضحاك بن قيس ، فدخل دار الإمارة وأغلق الباب ، ولم يخرج إلى الناس من يوم السبت لصلاة الفجر ، ثم أرسل إلى بني أمية ، فجمعهم إليه فدخلوا عليه ، وفيهم مروان بن الحكم ، وعمرو بن سعيد بن العاص ، وخالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية .

            قال المدائني : فاعتذر إليهم مما كان منه ، واتفق معهم أن يركب معهم إلى حسان بن مالك الكلبي ، فيتفقوا على رجل يرتضونه من بني أمية للإمارة ، فركبوا جميعا إليه ، فبينما هم يسيرون إلى الجابية لقصد حسان ، إذ جاء ثور بن معن بن الأخنس في قومه قيس ، فقال له : إنك دعوتنا إلى بيعة ابن الزبير فأجبناك ، وأنت ذاهب إلى هذا الأعرابي ليستخلف ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية ، فقال له الضحاك : فما الرأي ؟ قال : الرأي أن نظهر ما كنا نسر ، وأن ندعو إلى طاعة ابن الزبير ونقاتل عليها . فمال الضحاك بمن معه ، فرجع إلى دمشق فأقام بها بمن معه من الجيش من قيس ومن لف لفيفها ، وبعث إلى أمراء الأجناد ، وبايع الناس لابن الزبير ، وكتب بذلك إلى ابن الزبير يعلمه بذلك ، فذكره ابن الزبير لأهل مكة وشكره على صنيعه ، وكتب إليه بنيابة الشام ، وقيل : بل بايع الناس لنفسه بالخلافة . فالله أعلم أي ذلك كان .

            والذي ذكره المدائني أنه إنما دعا إلى بيعة ابن الزبير أولا ، ثم حسن له عبيد الله بن زياد أن يدعو إلى نفسه ، وذلك مكر منه به ، فدعا الضحاك إلى نفسه ثلاثة أيام ، فنقم الناس عليه ذلك ، وقالوا : دعوتنا إلى البيعة لرجل فبايعناه ، ثم خلعته من غير سبب ولا عذر ، ودعوت إلى نفسك ! فرجع إلى البيعة لابن الزبير ، فسقط بذلك عند الناس ، وذلك الذي أراد عبيد الله بن زياد .

            وكان اجتماع عبيد الله بن زياد به بعد اجتماعه بمروان وتحسينه له أن يدعو إلى نفسه ، ثم فارقه ليخدع له الضحاك ، فنزل عنده بدمشق ، وجعل يركب إليه في كل يوم ، ثم أشار ابن زياد على الضحاك أن يخرج من دمشق إلى الصحراء ويدعو بالجيوش إليه ليكون أمكن له ، فركب الضحاك إلى مرج راهط ، فنزل بمن معه من الجنود ، وعند ذلك اجتمعت بنو أمية ومن تبعها بالأردن ، واجتمع إليهم من هنالك من قوم حسان بن مالك من بني كلب .

            ولما رأى مروان بن الحكم ما انتظم من البيعة لابن الزبير ، وما استوسق له من الملك ، عزم على الرحيل إليه ليبايعه وليأخذ منه أمانا لبني أمية ، فسار حتى بلغ أذرعات فلقيه عبيد الله بن زياد مقبلا من العراق ، فصده عن ذلك ، وهجن رأيه ، واجتمع إليه عمرو بن سعيد بن العاص ، وحصين بن نمير ، وابن زياد ، وأهل اليمن وخلق ، فقالوا لمروان : أنت كبير قريش ورئيسها ، وخالد بن يزيد غلام ، وعبد الله بن الزبير كهل ، وإنما يقرع الحديد بعضه ببعض ، فلا تباره بهذا الغلام ، وارم بنحرك في نحره ، ونحن نبايعك ، ابسط يدك . فبسط يده ، فبايعوه بالجابية في يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة ، سنة أربع وستين . قاله الواقدي .

            فلما تمهد له الأمر سار بمن معه نحو الضحاك بن قيس ، فالتقيا بمرج راهط وقال مروان حين بويع له :


            لما رأيت الأمر أمرا نهبا يسرت غسان لهم وكلبا     والسكسكيين رجالا غلبا
            وطيئا تأباه إلا ضربا     والقين تمشي في الحديد نكبا
            ومن تنوخ مشمخرا صعبا     لا يأخذون الملك إلا غصبا
            فإن دنت قيس فقل لا قربا

            وقعة مرج راهط وقتل الضحاك بن قيس الفهري ، رضي الله عنه فبرز الضحاك إلى مرج راهط فنزله ، وأقام عبيد الله بن زياد بدمشق ومروان وبنو أمية بتدمر ، وخالد وعبد الله عند خالهم حسان بالجابية ، فكتب ابن زياد إلى مروان يأمره أن يظهر دعوته ، فدعا إلى نفسه ، وتزوج بأم خالد بن يزيد بن معاوية ، وهي أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة ، فعظم أمره وبايعه الناس ، واجتمعوا عليه ، وسار إلى مرج راهط نحو الضحاك بن قيس ، وركب إليه عبيد الله بن زياد وأخوه عباد بن زياد ، حتى اجتمع مع مروان ثلاثة عشر ألفا ، وبدمشق من جهته يزيد بن أبي النمس ، وقد أخرج عامل الضحاك منها ، وهو يمد مروان بالسلاح والرجال وغير ذلك - ويقال : كان نائبه على دمشق يومئذ عبد الرحمن بن أم الحكم - وجعل مروان على ميمنته عبيد الله بن زياد ، وعلى ميسرته عمرو بن سعيد بن العاص ، وبعث الضحاك إلى النعمان بن بشير ، فأمده النعمان بأهل حمص عليهم شرحبيل بن ذي الكلاع ، وركب إليه زفر بن الحارث الكلابي في أهل قنسرين ، فكان الضحاك في ثلاثين ألفا ، على ميمنته زياد بن عمرو العقيلي ، وعلى ميسرته زكريا بن شمر الهلالي ، فتصافوا ، وتقاتلوا بالمرج عشرين يوما ، يلتقون في كل يوم فيقتتلون قتالا شديدا . غدر أصحاب مروان بالضحاك بن قيس وأصحابه ثم أشار عبيد الله بن زياد على مروان أن يدعوهم إلى الموادعة خديعة ; فإن الحرب خدعة ، وأنت وأصحابك على الحق ، وهم على الباطل . فنودي في الناس بذلك ، ثم غدر أصحاب مروان ، فمالوا يقتلونهم قتلا شديدا ، وصبر أصحاب الضحاك صبرا بليغا ، فقتل الضحاك بن قيس في المعركة ، قتله رجل يقال له : زحمة بن عبد الله . من بني كلب ، طعنه بحربة ، فأنفذه ولم يعرفه . وصبر مروان وأصحابه صبرا شديدا حتى فر أولئك بين يديه ، فنادى : لا يتبع مدبر . ثم جيء برأس الضحاك ، ويقال : إن أول من بشره بقتله روح بن زنباع الجذامي . واستقر ملك الشام بيد مروان بن الحكم . وروي أنه بكى على نفسه يوم مرج راهط ، فقال : أبعد ما كبرت وضعفت صرت إلى أن أقتل الناس بالسيوف على الملك ؟ !

            قلت : ولم تطل مدته في الملك إلا تسعة أشهر .

            ولما انهزم الناس من المرج لحقوا بأجنادهم ، فانتهى أهل حمص إليها وعليها النعمان بن بشير ، فلما بلغه الخبر خرج هاربا ليلا ومعه امرأته نائلة بنت عمارة الكلبية وثقله وأولاده ، فتحير ليلته كلها ، وأصبح أهل حمص فطلبوه ، وكان طلبه عمرو بن الجلي الكلاعي ، فقتله ورد أهله والرأس معه ، وجاءت كلب من أهل حمص فأخذوا نائلة وولدها معها .

            ولما بلغت الهزيمة زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين هرب منها فلحق بقرقيسيا وعليها عياض الحرشي ، وكان يزيد ولاه إياها ، فطلب منه أن يدخل الحمام ، ويحلف له بالطلاق والعتاق على أنه حينما يخرج من الحمام لا يقيم بها ، فأذن له ، فدخلها فغلب عليها وتحصن بها ولم يدخل حمامها ، فاجتمعت إليه قيس .

            وهرب ناتل بن قيس الجذامي عن فلسطين فلحق بابن الزبير بمكة ، واستعمل مروان بعده على فلسطين روح بن زنباع واستوثق الشام لمروان واستعمل عماله عليها . الاختلاف في تاريخ وقعة مرج راهط فإن الواقدي وغيره قالوا : إنما كانت هذه الوقعة في المحرم من أول سنة خمس وستين .

            وفي رواية محمد بن سعد ، عن الواقدي وغيره قالوا : إنما كانت في أواخر هذه السنة .

            وقال الليث بن سعد ، والواقدي ، والمدائني ، وأبو سليمان بن زبر ، وأبو عبيدة وغير واحد : كانت وقعة مرج راهط للنصف من ذي الحجة سنة أربع وستين . والله سبحانه وتعالى أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية