وقعة عين وردة
وأقبل أهل الشام في عساكرهم حتى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة ، فقام سليمان في أصحابه وذكر الآخرة ورغب فيها ثم قال : أما بعد فقد أتاكم عدوكم الذي دأبتم إليه في السير آناء الليل والنهار ، فإذا لقيتموهم فاصدقوهم القتال واصبروا ، إن الله مع الصابرين ، ولا يولينهم امرؤ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ، ولا تقتلوا مدبرا ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تقتلوا أسيرا من أهل دعوتكم إلا أن يقاتلكم بعد أن تأسروه ، فإن هذه كانت سيرة علي في أهل هذه الدعوة . وقال : إن قتلت فالأمير عليكم المسيب بن نجبة ، فإن قتل فعبد الله بن سعد بن نفيل ، فإن قتل فعبد الله بن وال ، فإن قتل فرفاعة بن شداد . ثم بعث بين يديه المسيب بن نجبة في أربعمائة فارس ، فأغاروا على جيش شرحبيل بن ذي الكلاع وهم غارون ، فقتلوا منهم جماعة وجرحوا آخرين ، واستاقوا نعما ، وأتى الخبر إلى عبيد الله بن زياد ، فأرسل بين يديه الحصين بن نمير فصبح سليمان بن صرد وجيشه فتواقفوا في يوم الأربعاء لثمان بقين من جمادى الأولى ، وحصين بن نمير قائم في اثني عشر ألفا ، وقد تهيأ كل من الفريقين لصاحبه ، فدعا الشاميون أصحاب سليمان إلى الدخول في طاعة مروان بن الحكم ، ودعا أصحاب سليمان الشاميين إلى أن يسلموا إليهم عبيد الله بن زياد فيقتلوه عن الحسين ، وامتنع كل من الفريقين أن يجيب إلى ما دعا إليه الآخر ، فاقتتلوا قتالا شديدا عامة يومهم إلى الليل ، وكانت الدائرة فيه للعراقيين على الشاميين ، فلما أصبحوا أصبح ابن ذي الكلاع ، وقد وصل إلى الشاميين في ثمانية آلاف فارس ، وقد أنبه وشتمه عبيد الله بن زياد ، فاقتتل الناس في هذا اليوم قتالا لم ير الشيب والمرد مثله قط ، لا يحجز بينهم إلا أوقات الصلوات إلى الليل ، فلما أصبح الناس من اليوم الثالث وصل إلى الشاميين أدهم بن محرز في عشرة آلاف ، وذلك في يوم الجمعة ، فاقتتلوا قتالا شديدا إلى حين ارتفاع الضحى ، ثم استدار أهل الشام بأهل العراق وأحاطوا بهم من كل جانب ، فخطب سليمان بن صرد الناس ، وحرضهم على الجهاد ، فاقتتل الناس قتالا عظيما جدا ، ثم ترجل سليمان بن صرد وكسر جفن سيفه ، ونادى : يا عباد الله ، من أراد الرواح إلى الجنة ، والتوبة من ذنبه ، والوفاء بعهده فليأت إلي . فترجل معه ناس كثيرون وكسروا جفون سيوفهم ، وحملوا حتى صاروا في وسط القوم ، وقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة حتى خاضوا في الدماء ، وقتل سليمان بن صرد ، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع ، ثم وثب ، ثم وقع ، ثم وثب ، ثم وقع ، فأخذ الراية المسيب بن نجبة ، فقاتل بها قتالا شديدا ، وهو يقول :
قد علمت ميالة الذوائب واضحة اللبات والترائب أني غداة الروع والتغالب
أشجع من ذي لبدة مواثب
قطاع أقران مخوف الجانب
ثم قتل ، رحمه الله ، فقضى في ذلك الموقف نحبه ، ولحق صحبه ، فأخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل ، فقاتل قتالا شديدا أيضا وهو يقول : رحم الله أخوي ، منهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر ، وما بدلوا تبديلا . وحمل حينئذ ربيعة بن المخارق على أهل العراق حملة منكرة ، وتبارز هو وعبد الله بن سعد بن نفيل ، ثم اتحدا فحمل ابن أخي ربيعة على عبد الله بن سعد فقتله ، ثم احتمل عمه. فنادوا عبد الله بن وال فإذا هو قد اصطلى الحرب في عصابة معه ، فحمل رفاعة بن شداد فكشف أهل الشام عنه ، فأتى فأخذ الراية وقاتل مليا ثم قال لأصحابه : من أراد الحياة التي ليس بعدها موت ( والراحة التي ليس بعدها نصب ، والسرور الذي ليس بعده حزن ) ، فليتقرب إلى الله بقتال هؤلاء المحلين ، والرواح إلى الجنة ، وذلك عند العصر ، فحمل هو وأصحابه فقتلوا رجالا وكشفوهم .ثم إن أهل الشام تعطفوا عليهم من كل جانب حتى ردوهم إلى المكان الذي كانوا فيه ، وكان مكانهم لا يؤتى إلا من وجه واحد ، فلما كان المساء تولى قتالهم أدهم بن محرز الباهلي فحمل عليهم في خيله ورجله ، فوصل ابن محرز إلى ابن وال وهو يتلو : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية ، فغاظ ذلك أدهم بن محرز فحمل عليه فضرب يده فأبانها ثم تنحى عنه وقال : إني أظنك وددت أنك عند أهلك .
قال ابن وال : بئس ما ظننت ، والله ما أحب أن يدك مكانها إلا أن يكون لي من الأجر مثل ما في يدي ليعظم وزرك ويعظم أجري .
فغاظه ذلك أيضا ، فحمل عليه وطعنه فقتله وهو مقبل ما يزول .
وكان ابن وال من الفقهاء العباد ، فلما قتل أتوا رفاعة بن شداد البجلي وقالوا : لتأخذ الراية . فقال : ارجعوا بنا لعل الله يجمعنا ليوم شرهم .
فقال له عبد الله بن عوف بن الأحمر : هلكنا والله ، لئن انصرفت ليركبن أكتافنا فلا نبلغ فرسخا حتى نهلك عن آخرنا ، وإن نجا منا ناج أخذته العرب يتقربون به إليهم فقتل صبرا ، هذه الشمس قد قاربت الغروب فنقاتلهم على خيلنا ، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أول الليل وسرنا حتى نصبح ونسير على مهل ، ويحمل الرجل صاحبه وجريحه ونعرف الوجه الذي نأخذه .
فقال رفاعة : نعم ما رأيت ! وأخذ الراية وقاتلهم قتالا شديدا ، ورام أهل الشام إهلاكهم قبل الليل فلم يصلوا إلى ذلك لشدة قتالهم ، وتقدم عبد الله بن عزيز الكناني فقاتل أهل الشام ومعه ولده محمد وهو صغير ، فنادى بني كنانة من أهل الشام وسلم ولده إليهم ليوصلوه إلى الكوفة ، فعرضوا عليه الأمان ، فأبى ثم قاتلهم حتى قتل .
وتقدم كرب بن يزيد الحميري عند المساء في مائة من أصحابه فقاتلهم أشد قتال ، فعرض عليه وعلى أصحابه ابن ذي الكلاع الحميري الأمان ، قال : قد كنا آمنين في الدنيا وإنما خرجنا نطلب أمان الآخرة . فقاتلوهم حتى قتلوا .
وتقدم صخر بن هلال المزني في ثلاثين من مزينة فقاتلوا حتى قتلوا .
فلما أمسوا رجع أهل الشام إلى معسكرهم ، ونظر رفاعة إلى كل رجل قد عقر به فرسه وجرح فدفعه إلى قومه ثم سار بالناس ليلته ، رجوع العراقيين إلى بلادهم فلما أصبح الشاميون إذا العراقيون قد كروا راجعين إلى بلادهم ، فلم يبعثوا وراءهم طلبا ولا أحدا ، فقطع رفاعة بمن معه الخابور ومر على قرقيسيا ، فبعث إليهم زفر بن الحارث الطعام والعلف والأطباء فأقاموا ثلاثا حتى استراحوا ثم رحلوا ، فلما وصلوا إلى هيت إذا سعد بن حذيفة بن اليمان قد أقبل بمن معه من أهل المدائن قاصدين إلى نصرتهم ، فلما أخبروه بما كان من أمرهم ، وما حل بهم ، ونعوا إليه أصحابهم ترحموا عليهم واستغفروا لهم وتباكوا على إخوانهم ، وانصرف أهل المدائن إليها ، ورجع راجعة أهل الكوفة إليها ، وقد قتل منهم خلق كثير وجم غفير ، وإذا المختار بن أبي عبيد كما هو في السجن لم يخرج منه بعد ، فكتب إلى رفاعة بن شداد يعزيه فيمن قتل منهم ويترحم عليهم ، ويغبطهم بما نالوا من الشهادة وجزيل الثواب ، ويقول : مرحبا بالذين أعظم الله أجورهم ، ورضي عنهم ، والله ما خطا منهم أحد خطوة إلا كان ثواب الله له فيها أعظم من الدنيا وما فيها ، وإن سليمان قد قضى ما عليه ، وتوفاه الله وجعل روحه في أرواح النبيين والشهداء والصالحين ، وبعد فأنا الأمير المأمون ، قاتل الجبارين والمفسدين إن شاء الله ، فأعدوا واستعدوا وأبشروا ، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله ، والطلب بدماء أهل البيت . وذكر كلاما كثيرا في هذا المعنى ، وقد كان قبل قدومهم أخبر الناس بهلاكهم عن رئيه الذي كان يأتي إليه من الشياطين ، فإنه قد كان يأتيه شيطان فيوحي إليه قريبا مما كان يوحي شيطان مسيلمة إليه . وكان جيش سليمان بن صرد وأصحابه يسمى بجيش التوابين .
ولما سمع عبد الملك بن مروان بقتل سليمان وانهزام أصحابه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد فإن الله ( قد أهلك من رءوس أهل العراق ملقح فتنة ورأس ضلالة سليمان بن صرد ، ألا وإن السيوف تركن رأس المسيب خذاريف ، وقد قتل الله ) منهم رأسين عظيمين ضالين مضلين : عبد الله بن سعد الأزدي ، وعبد الله بن وال البكري ، ولم يبق بعدهم من عنده امتناع ، وفي هذا نظر ، فإن أباه كان حيا ، قال أعشى همدان في ذلك ، وهي مما يكتم ذلك الزمان :
ألم خيال منك يا أم غالب فحييت عنا من حبيب مجانب
وما زلت في شجو وما زلت مقصدا لهم عراني من فراقك ناصب
فما أنس لا أنس انفتالك في الضحى إلينا مع البيض الحسان الخراعب
تراءت لنا هيفاء مهضومة الحشا لطيفة طي الكشح ريا الحقائب
مبتلة غراء رؤد شبابها كشمس الضحى تنكل بين السحائب
فلما تغشاها السحاب وحوله بدا حاجب منها وضنت بحاجب
فتلك الهوى وهي الجوى لي والمنى فأحبب بها من خلة لم تصاقب
ولا يبعد الله الشباب وذكره وحب تصافي المعصرات الكواعب
ويزداد ما أحببته من عتابنا لعابا وسقيا للخدين المقارب
فإني وإن لم أنسهن لذاكر رزيئة مخبات كريم المناصب
توسل بالتقوى إلى الله صادقا وتقوى الإله خير تكساب كاسب
وخلى عن الدنيا فلم يلتبس بها وتاب إلى الله الرفيع المراتب
تخلى عن الدنيا وقال اطرحتها فلست إليها ما حييت بآيب
وما أنا فيما يكره الناس فقده ويسعى له الساعون فيها براغب
فوجهه نحو الثوية سائرا إلى ابن زياد في الجموع الكتائب
بقوم هم أهل التقية والنهى مصاليت أنجاد سراة مناجب
مضوا تاركي رأي ابن طلحة حسبة ولم يستجيبوا للأمير المخاطب
فساروا وهم ما بين ملتمس التقى وآخر مما جر بالأمس تائب
فلاقوا بعين الوردة الجيش فاصلا إليهم فحسوهم ببيض قواضب
يمانية تذري الأكف وتارة بخيل عتاق مقربات سلاهب
فجاءهم جمع من الشام بعده جموع كموج البحر من كل جانب
فما برحوا حتى أبيدت سراتهم فلم ينج منهم ثم غير عصائب
وغودر أهل الصبر صرعى فأصبحوا تعاورهم ريح الصبا والجنائب
فأضحى الخزاعي الرئيس مجدلا كأن لم يقاتل مرة ويحارب
ورأس بني شمخ وفارس قومه شنوءة والتيمي هادي الكتائب
وعمرو بن بشر والوليد وخالد وزيد بن بكر والحليس بن غالب
وضارب من همدان كل مشيع إذا شد لم ينكل كريم المكاسب
ومن كل قوم قد أصيب زعيمهم وذو حسب في ذروة المجد ثاقب
أبوا غير ضرب يفلق الهام وقعه وطعن بأطراف الأسنة صائب
وإن سعيدا يوم يدمر عامرا لأشجع من ليث بدرب مواثب
فيا خير جيش بالعراق وأهله سقيتم روايا كل أسحم ساكب
فلا يبعدن فرساننا وحماتنا إذا البيض أبدت عن خدام الكواعب
وما قتلوا حتى أثاروا عصابة محلين نورا كالشموس الضوارب