الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            ترجمة مروان بن الحكم جد خلفاء بني أمية الذين كانوا بعده

            هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي ، أبو عبد الملك ، ويقال : أبو الحكم . ويقال : أبو القاسم . وأمه بنت علقمة بن صفوان بن أمية من كنانة ، وكان مولده سنة اثنين من الهجرة ، وكان أبوه قد أسلم عام الفتح ، ونفاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف لأنه يتجسس عليه ، ورآه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما يمشي ويتخلج في مشيه كأنه يحكيه ، فقال له : كن كذلك ، فما زال كذلك حتى مات .

            ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلم عثمان أبا بكر في رده ، لأنه عمه ، فلم يفعل ، فلما توفي أبو بكر وولي عمر كلمه أيضا في رده فلم يفعل ، فلما ولي عثمان رده وقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدني أن يرده إلى المدينة ، فكان ذلك مما أنكر الناس عليه .

            وتوفي في خلافة عثمان فصلى عليه ، وقد رويت أخبار كثيرة في لعنه ولعن من في صلبه ، رواها الحافظ ، وفي أسانيدها كلام . وهو صحابي عند طائفة كثيرة لأنه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى عنه في حديث صلح الحديبية ، وفي رواية في " صحيح البخاري " ، عن مروان والمسور بن مخرمة ، الحديث بطوله . وروى عن عمر ، وعثمان ، وكان كاتبه ، وعلي ، وزيد بن ثابت ، وبسرة بنت صفوان الأسدية ، وكانت حماته . وقال الحاكم أبو أحمد : كانت خالته . ولا منافاة بين كونها حماته وخالته . وروى عنه ابنه عبد الملك ، وسهل بن سعد ، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وعلي بن الحسين زين العابدين ، ومجاهد وغيرهم .

            قال الواقدي ومحمد بن سعد : أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يحفظ عنه شيئا ، وكان عمره ثماني سنين حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم . وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين . مكانة مروان بن الحكم وشيء من أخباره وقد كان مروان من سادات قريش وفضلائها .

            روى ابن عساكر وغيره أن عمر بن الخطاب خطب امرأة إلى أمها ، فقال : إن جريرا البجلي يخطب إليكم أسلم ، وهو سيد شباب المشرق ، ومروان بن الحكم ، وهو سيد شباب قريش ، وعبد الله بن عمر ، وهو من قد علمتم ، وعمر . فقالت المرأة : أجاد يا أمير المؤمنين ؟ قال : نعم . قالت : قد زوجناك يا أمير المؤمنين .

            وقد كان عثمان بن عفان يكرمه ويعظمه ، وكان كاتب الحكم بين يديه ، وقد قاتل مروان يوم الدار قتالا شديدا ، وقتل بعض أولئك الخوارج فلما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة يطلبون بدم عثمان سار معهم فقاتل قتالا شديدا ، فلما نظر إلى طلحة ، قال: والله إن كان دم عثمان إلا عند هذا ، فرماه بسهم فقتله ، وتوارى إلى أن أخذ له الأمان من علي ، فأتاه فبايعه ثم انصرف إلى المدينة ، فلم يزل بها حتى ولي معاوية فولاه المدينة سنة اثنتين وأربعين ، فلما وثب أهل المدينة أيام الحرة أخرجوا بني أمية من المدينة وأخرجوه ، فجعل يحرض مسلم بن عقبة عليهم ، ورجع معه حتى ظفر بأهل المدينة ، فانتهبها ثلاثا ، وقدم على يزيد ، فشكر له ذلك

            وقال ابن عبد الحكم : سمعت الشافعي يقول : كان علي يوم الجمل حين انهزم الناس يكثر السؤال عن مروان ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنه تعطفني عليه رحم ماسة ، وهو سيد من شباب قريش .

            وعن قبيصة بن جابر ، أنه قال لمعاوية : من ترى لهذا الأمر من بعدك ؟ فقال : وأما القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، الشديد في حدود الله ، فمروان بن الحكم . وقد استنابه على المدينة غير مرة ، يعزله ثم يعيده إليها ، وأقام للناس الحج في سنين متعددة .

            وقال حنبل عن الإمام أحمد قال : يقال : إنه كان عند مروان قضاء ، وكان يتبع قضاء عمر بن الخطاب .

            وقال ابن وهب : سمعت مالكا يقول وذكر مروان يوما ، فقال : قال مروان : قرأت كتاب الله منذ أربعين سنة ، ثم أصبحت فيما أنا فيه من هراقة الدماء وهذا الشأن .

            وقال إسماعيل بن عياش ، بسنده عن شريح بن عبيد وغيره قال : كان مروان إذا ذكر الإسلام قال :


            بنعمة ربي لا بما قدمت يدي ولا ببراتي إنني كنت خاطئا

            وقال الليث ، بسنده عن سالم أبي النضر ، أنه قال : شهد مروان جنازة ، فلما صلى عليها انصرف ، فقال أبو هريرة : أصاب قيراطا وحرم قيراطا . فأخبر بذلك مروان ، فأقبل يجري قد بدت ركبتاه ، فقعد حتى أذن له .

            وروى المدائني بسنده أن مروان كان أسلف علي بن الحسين حين رجع إلى المدينة بعد مقتل أبيه ستة آلاف دينار ، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه عبد الملك أن لا يسترجع من علي بن الحسين شيئا ، فبعث إليه عبد الملك بذلك ، فامتنع من قبولها ، فألح عليه فقبلها .

            وقال الشافعي بسنده أن الحسن والحسين كانا يصليان خلف مروان ولا يعيدانها ، ويعتدان بها .

            وعن الزهري قال: اجتمع مروان وابن الزبير عند عائشة ، فذكر مروان بيت لبيد:


            وما المرء إلا كالشهاب وضوئه     يجوز رمادا بعد إذ هو ساطع

            فقال ابن الزبير: لو شئت لقلت ما هو أفضل من هذا:


            ففوض إلى الله الأمور إذا اعترت     وبالله لا بالأقربين لدافع

            فقال مروان:


            وداو ضمير القلب بالبر والتقى     ولا يستوي قلبان قاس وخاشع



            فقال ابن الزبير:


            ولا يستوي عبدان عبد مكلم     عتل لأرحام الأقارب قاطع

            فقال مروان:


            وعبد تجافى جنبه عن فراشه     يبيت يناجي ربه وهو راكع

            فقال ابن الزبير:


            وللخير أهل يعرفون بهداهم     إذا حجبتهم في الخطوب الجوامع

            فقال مروان:


            وللشر أهل يعرفون بشكلهم     تشير إليهم بالفجور الأصابع

            فسكت ابن الزبير ، فقالت عائشة: ما لك؟! فما سمعت بمحاورة قط أحسن من هذه ، ولكن لمروان إرث في الشعر ليس لك ، فقال ابن الزبير لمروان: عرضت ، قال: بل أنت أشد تعريضا ، طلبت يدك فأعطيتني رجلك . مروان بن الحكم أول من قدم الخطبة على الصلاة يوم العيد وقد روى عبد الرزاق بسنده عن طارق بن شهاب قال : أول من قدم الخطبة على الصلاة يوم العيد مروان ، فقال له رجل : خالفت السنة . فقال له مروان : إنه قد ترك ما هنالك . فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " .

            قالوا : ولما كان نائبا بالمدينة كان إذا وقعت معضلة جمع من عنده من الصحابة ، فاستشارهم فيها . قالوا : وهو الذي جمع الصيعان ، فأخذ بأعدلها ، فنسب إليه الصاع ، فقيل : صاع مروان .

            وقال الزبير بن بكار بسنده عن إسماعيل بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه قال : خرج أبو هريرة من عند مروان ، فلقيه قوم قد خرجوا من عنده فقالوا : إنه أشهدنا الآن على مائة رقبة أعتقها الساعة . قال : فغمز أبو هريرة يدي ، وقال : يا أبا سعيد ، يك من كسب طيب خير من مائة رقبة . قال الزبير : اليك : الواحد .

            وقال الإمام أحمد بسنده عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا بلغ بنو أبي فلان ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا ، ودين الله دخلا ، وعباد الله خولا " .

            مروان بن الحكم كان من أكبر الأسباب في حصار عثمان بن عفان رضي الله عنه ومروان كان أكبر الأسباب في حصار عثمان ، لأنه زور على لسانه كتابا إلى مصر بقتل أولئك الوفد ، ولما كان متوليا على المدينة لمعاوية كان يسب عليا كل جمعة على المنبر ، وقال له الحسن بن علي : لقد لعن الله أباك الحكم وأنت في صلبه على لسان نبيه ، فقال : " لعن الله الحكم وما ولد " والله أعلم .

            البيعة لمروان بن الحكم وقد تقدم أن حسان بن مالك بن بحدل لما قدم عليه مروان أرض الجابية ، أعجبه إتيانه إليه ، فبايعه ، وبايع له أهل الأردن على أنه إذا انتظم له الأمر نزل عن الإمرة لخالد بن يزيد ، ويكون لمروان إمرة حمص ، ولعمرو بن سعيد نيابة دمشق .

            وكانت البيعة لمروان يوم الاثنين للنصف من ذي القعدة سنة أربع وستين . قاله الليث بن سعد وغيره .

            وقال الليث : وكانت وقعة مرج راهط في ذي الحجة ، من هذه السنة بعد عيد النحر بيومين .

            قالوا : فغلب الضحاك بن قيس ، واستوسق له ملك الشام ومصر ، فلما استقر ملكه في هذه البلاد بايع من بعده لولده عبد الملك ، ثم من بعده لولده عبد العزيز - والد عمر بن عبد العزيز - وترك البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية ; لأنه كان لا يراه أهلا للخلافة ، ووافقه على ذلك حسان بن مالك ، وإن كان خالا لخالد بن يزيد ، وهو الذي قام بأعباء بيعة عبد الملك ، وفاة مروان بن الحكم ثم إن أم خالد دبرت أمر مروان فسمته ، ويقال : بل وضعت على وجهه وهو نائم وسادة ، فمات مخنوقا ، ثم إنها أعلنت الصراخ هي وجواريها وصحن : مات أمير المؤمنين فجأة . فقام من بعده ولده عبد الملك بن مروان في الخلافة.

            وقال عبد الله بن أبي مذعور : حدثني بعض أهل العلم قال : كان آخر ما تكلم به مروان : وجبت الجنة لمن خاف النار . وكان نقش خاتمه : العزة لله .

            وقال الأصمعي بسنده عن حرب بن زياد قال : كان نقش خاتم مروان بن الحكم آمنت بالعزيز الرحيم .

            وكانت وفاته بدمشق عن إحدى - وقيل : ثلاث - وستين سنة .

            وقال أبو معشر وغير واحد : كان عمره يوم توفي إحدى وثمانين سنة .

            وقال خليفة : حدثني الوليد بن هشام ، عن أبيه ، عن جده قال : مات مروان بدمشق لثلاث خلون من شهر رمضان سنة خمس وستين ، وهو ابن ثلاث وستين وصلى عليه ابنه عبد الملك ، وكانت ولايته تسعة أشهر وثمانية عشر يوما . وقال غيره : عشرة أشهر .

            وقال ابن أبي الدنيا وغيره : كان قصيرا ، أحمر الوجه ، أوقص ، دقيق العنق ، كبير الرأس واللحية ، وكان يلقب : خيط باطل .

            قال الحافظ ابن عساكر : وذكر سعيد بن كثير بن عفير ، أن مروان مات حين انصرف من مصر بالصنبرة ، ويقال : بلد . وقد قيل : إنه مات بدمشق ، ودفن بين باب الجابية وباب الصغير .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية