وفي سنة سبع وستين
كان وذلك أن إبراهيم بن الأشتر خرج من الكوفة يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة في السنة الماضية ، ثم استهلت هذه السنة وهو سائر لقصد ابن زياد في أرض الموصل فكان اجتماعهما بمكان يقال له : الخازر بينه وبين الموصل خمسة فراسخ ، وأرسل عمير بن الحباب السلمي ، وهو من أصحاب ابن زياد ، إلى ابن الأشتر : أن القني ، وكانت قيس كلها مضطغنة على ابن مروان وقعة مرج راهط ، وجند عبد الملك يومئذ كلب . فاجتمع عمير وابن الأشتر ، فأخبره عمير أنه على ميسرة ابن زياد ، وواعده أن ينهزم بالناس ، فقال له ابن الأشتر : ما رأيك ؟ أخندق علي وأتوقف يومين أو ثلاثة ؟ فقال عمير : لا تفعل ، وهل يريدون إلا هذا ؟ فإن المطاولة خير لهم ، وهم كثير أضعافكم ، وليس يطيق القليل الكثير في المطاولة ، ولكن ناجز القوم ، فإنهم قد ملئوا منكم رعبا ، وإن هم شاموا أصحابك ، وقاتلوهم يوما بعد يوم ، ومرة بعد مرة - أنسوا بهم واجترءوا عليهم . وقال إبراهيم : الآن علمت أنك لي مناصح ، وبهذا أوصاني صاحبي . قال عمير : أطعه فإن الشيخ قد ضرسته الحرب وقاسى منها ما لم يقاسه أحد ، وإذا أصبحت فناهضهم . مقتل عبيد الله بن زياد على يدي إبراهيم بن الأشتر النخعي
وعاد عمير إلى أصحابه وأذكى ابن الأشتر حرسه ، ولم يدخل عينه غمض ، حتى إذا كان السحر الأول عبأ أصحابه ، وكتب كتائبه ، وأمر أمراءه ، فجعل سفيان بن يزيد الأزدي على ميمنته ، وعلي بن مالك الجشمي على ميسرته ، وهو أخو الأحوص ، وجعل عبد الرحمن بن عبد الله ، وهو أخو إبراهيم بن الأشتر لأمه ، على الخيل ، وكانت خيله قليلة ، وجعل الطفيل بن لقيط على الرجالة ، وكانت رايته مع مزاحم بن مالك . فلما انفجر الفجر صلى الصبح بغلس ، ثم خرج فصف أصحابه ، وألحق كل أمير بمكانه ، ونزل إبراهيم يمشي ويحرض الناس ويمنيهم الظفر ، وسار بهم رويدا ، فأشرف على تل عظيم مشرف على القوم ، وإذا أولئك القوم لم يتحرك منهم أحد ، فأرسل عبد الله بن زهير السلولي ليأتيه بخبر القوم ، فعاد إليه وقال له : قد خرج القوم على دهش وفشل ، لقيني رجل منهم وليس له كلام إلا : يا شيعة أبي تراب ! يا شيعة المختار الكذاب ! قال : فقلت له : الذي بيننا أجل من الشتم . فركب ابن الأشتر فرسه وجعل يقف على رايات القبائل فيحرضهم على قتال ابن زياد ويقول : هذا قاتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد جاءكم الله به وأمكنكم الله منه اليوم ، فعليكم به ، فإنه قد فعل في ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يفعله فرعون في بني إسرائيل ! هذا ابن زياد قاتل الحسين الذي حال بينه وبين ماء الفرات أن يشرب منه هو وأولاده ونساؤه ، ومنعه أن ينصرف إلى بلده أو يأتي يزيد بن معاوية حتى قتله ! ويحكم ، اشفوا صدوركم منه ، وارووا رماحكم وسيوفكم من دمه ، هذا الذي فعل في آل نبيكم ما فعل ، قد جاءكم الله به . ثم أكثر من هذا القول وأمثاله ، ثم نزل تحت رايته .
وأقبل ابن زياد في جيش كثيف فما كان إلا أن تواقف الفريقان حتى حمل حصين بن نمير بالميمنة على ميسرة أهل العراق فهزمها ، وقتل أميرها علي بن مالك الجشمي فأخذ رايته من بعده ولده قرة بن علي فقتل أيضا ، واستمرت الميسرة ذاهبة فجعل ابن الأشتر يناديهم : إلي يا شرطة الله ، أنا ابن الأشتر . وقد كشف عن رأسه ليعرفوه فالتاثوا به وانعطفوا عليه ، واجتمعوا إليه ، ثم حملت ميمنة أهل الكوفة على ميسرة أهل الشام وقيل : بل انهزمت ميسرة أهل الشام وانحازت إلى ابن الأشتر ، ثم حمل ابن الأشتر بمن معه وجعل يقول لصاحب رايته : ادخل برايتك فيهم . وقاتل ابن الأشتر يومئذ قتالا عظيما ، وكان لا يضرب بسيفه رجلا إلا صرعه ، وكثرت القتلى بينهم وقيل : إن ميسرة أهل الشام ثبتوا وقاتلوا قتالا شديدا بالرماح ثم بالسيوف ، ثم أردف الحملة ابن الأشتر ، فانهزم جيش الشام بين يديه ، فجعل يقتلهم كما تقتل الحملان ، وأتبعهم بنفسه ومن معه من الشجعان ، وثبت عبيد الله بن زياد في موقفه حتى اجتاز به ابن الأشتر فقتله ، وهو لا يعرفه ، لكن قال لأصحابه : التمسوا في القتلى رجلا ضربته بالسيف فنفحني منه ريح المسك ، شرقت يداه وغربت رجلاه وهو واقف عند راية منفردة على شاطئ نهر خازر ، فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد وإذا هو قد ضربه ابن الأشتر فقطعه نصفين ، فاحتزوا رأسه وبعثوه إلى المختار إلى الكوفة مع البشارة بالنصر والظفر بأهل الشام . وقتل من رءوس أهل الشام أيضا حصين بن نمير ، و شرحبيل بن ذي الكلاع ، وأتبع الكوفيون أهل الشام فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم أكثر ممن قتل ، واحتازوا ما كان في معسكرهم من الأموال والخيول .
وقد كان المختار بشر أصحابه بالنصر قبل أن يجيء الخبر فما ندري أكان ذلك تفاؤلا منه أو اتفاقا وقع له أو كهانة - وأما على ما كان يزعم أصحابه أنه أوحي إليه بذلك فلا ، فإن من اعتقد ذلك كفر ، ومن أقرهم على ذلك كفر - لكن قال : إن الوقعة كانت بنصيبين . فأخطأ مكانها ، فإنها إنما كانت بأرض الموصل ، وهذا مما انتقده عامر الشعبي على أصحاب المختار حين جاءه الخبر بالفتح ، وقد خرج المختار من الكوفة ليتلقى البشارة ، فأتى المدائن فصعد منبرها ، فبينما هو يخطب إذ جاءته البشارة وهو هنالك . قال الشعبي : فقال لي بعض أصحابه : أما سمعته بالأمس يخبرنا بهذا ؟ فقلت له : إنه زعم أن الوقعة كانت بنصيبين من أرض الجزيرة وإنما قال البشير : إنهم كانوا بالخازر من أرض الموصل . فقال : والله لا تؤمن يا شعبي حتى ترى العذاب الأليم .
خروج جماعة ممن قاتل المختار يوم جبانة السبيع والكناسة إلى البصرة ثم رجع المختار إلى الكوفة وفى غيبته هذه تمكن جماعة ممن كان قاتله يوم جبانة السبيع والكناسة من الخروج إلى البصرة ليجتمعوا بمصعب بن الزبير ، وكان منهم شبث بن ربعي ، وأما ابن الأشتر فإنه بعث بالبشارة ورأس عبيد الله إلى المختار ، واستقل هو في تلك البلاد فبعث أخاه لأمه عبد الرحمن بن عبد الله على نيابة نصيبين ، وبعث عمالا إلى الموصل ، وأخذ سنجار ودارا وما والاها من الجزيرة .
وقال أبو أحمد الحاكم : كان مقتل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء سنة ست وستين والصواب سنة سبع وستين .
وقد قال سراقة بن مرداس البارقي يمدح ابن الأشتر على قتله ابن زياد :
أتاكم غلام من عرانين مذحج جريء على الأعداء غير نكول فيا ابن زياد بؤ بأعظم مالك
وذق حد ماضي الشفرتين صقيل ضربناك بالعضب الحسام بحده
إذا ما أبأنا قاتلا بقتيل جزى الله خيرا شرطة الله إنهم
شفوا من عبيد الله أمس غليلي