قتل عمرو بن سعيد الأشدق
وفي سنة تسع وستين خالف عمرو بن سعيد عبد الملك بن مروان وغلب على دمشق ، فقتله ، وقيل : كانت هذه الحادثة سنة سبعين .
وكان السبب في ذلك أن عبد الملك بن مروان أقام بدمشق بعد رجوعه من قنسرين ما شاء الله أن يقيم ، ثم سار يريد قرقيسيا وبها زفر بن الحارث الكلائي فلما سار إليها استخلف على دمشق عمرو بن سعيد الأشدق ، فتحصن بها وأخذ أموال بيت المال . وقيل : بل كان عمرو بن سعيد مع عبد الملك ، فلما بلغ بطنان حبيب رجع عمرو ليلا ومعه حميد بن حريث الكلبي وزهير بن الأبرد الكلبي ، فأتى دمشق وعليها عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي قد استخلفه عبد الملك ، فلما بلغه رجوع عمرو بن سعيد هرب عنها ، ودخلها عمرو فغلب عليها وعلى خزائنها ، وهدم دار ابن أم الحكم ، واجتمع الناس إليه ، فخطبهم ومناهم ووعدهم .
وأصبح عبد الملك وفقد عمرا ، فسأل عنه فأخبر خبره . فكر راجعا من فوره فوجد الأشدق قد حصن دمشق وعلق عليها الستائر والمسوح ، وانحاز الأشدق إلى حصن رومي منيع كان بدمشق فنزله ، فحاصره عبد الملك وقاتله عمرو بن سعيد الأشدق مدة ستة عشر يوما
صلح عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد الأشدق وراسله عبد الملك ، وقال له : أنشدك الله والرحم أن تفسد أمر بيتك وما هم عليه من اجتماع الكلمة ، وإن فيما صنعت قوة لابن الزبير ، فارجع إلى بيتك ، ولك علي عهد الله وميثاقه . وحلف بالأيمان المؤكدة أنك ولي عهدي من بعدي ، وكتبا بينهما كتابا ، فانخدع له عمرو وفتح أبواب دمشق ، ثم اصطلحا على ترك القتال ، وعلى أن يكون ولي العهد من بعد عبد الملك ، وعلى أن يكون مع كل عامل لعبد الملك عامل له ، وكتبا بينهما كتاب أمان ، وذلك عشية الخميس . فخرج عمرو في الخيل إلى عبد الملك ، فأقبل حتى أوطأ فرسه أطناب عبد الملك ، فانقطعت وسقط السرادق ، ثم دخل على عبد الملك فاجتمعا .
ودخل عبد الملك دمشق إلى دار الإمارة على عادته ، وبعث إلى عمرو بن سعيد الأشدق يقول له : رد على الناس أعطياتهم التي أخذتها لهم من بيت المال ، فبعث إليه عمرو يقول له : إن هذا ليس إليك ، وليس هذا البلد لك ، فاخرج منه ، فلما كان يوم الاثنين بعث عبد الملك إلى عمرو بن سعيد يأمره بالإتيان إلى منزله بدار الإمارة الخضراء وقد كان عبد الملك استشار كريب بن أبرهة الحميري في قتل عمرو ، فقال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل ، في مثل هذا هلكت حمير .
فلما أتى الرسول عمرا يدعوه صادف عنده عبد الله بن يزيد بن معاوية ، فقال لعمرو : يا أبا أمية ، أنت أحب إلي من سمعي ومن بصري ، وأرى لك أن لا تأتيه . فقال عمرو : لم ؟ قال : لأن تبيع ابن امرأة كعب الأحبار قال : إن عظيما من ولد إسماعيل يرجع فيغلق أبواب دمشق ، ثم يخرج منها فلا يلبث أن يقتل . فقال عمرو : والله لو كنت نائما ما انتهبني ابن الزرقاء ولا اجترأ علي ، أما إني رأيت عثمان البارحة في المنام فألبسني قميصه . وكان عبد الله بن يزيد زوج ابنة عمرو . ثم قال عمرو للرسول : أنا رائح العشية .
فلما كان العشاء لبس عمرو درعا ولبس عليها القباء وتقلد سيفه ، وعنده حميد بن حريث الكلبي ، فلما نهض متوجها عثر بالبساط ، فقال له حميد : والله لو أطعتني لم تأته . وقالت له امرأته الكلبية كذلك ، فلم يلتفت ومضى في مائة من مواليه .
وقد جمع عبد الملك عنده بني مروان ، فلما بلغ الباب أذن له فدخل ، فلم يزل أصحابه يحبسون عند كل باب حتى بلغ قارعة الدار وما معه إلا وصيف له ، فنظر عمرو إلى عبد الملك وإذا حوله بنو مروان ، وحسان بن بحدل الكلبي ، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي ، فلما رأى جماعتهم أحس بالشر ، فالتفت إلى وصيفه وقال : انطلق إلى أخي يحيى فقل له يأتني ، فلم يفهم الوصيف فقال له : لبيك ! فقال عمرو : اغرب عني في حرق الله وناره ! وأذن عبد الملك لحسان وقبيصة ، فقاما فلقيا عمرا في الدار ، فقال عمرو لوصيفه : انطلق إلى يحيى فمره أن يأتيني . فقال : لبيك ! فقال عمرو : اغرب عني .
فلما خرج حسان وقبيصة أغلقت الأبواب ودخل عمرو ، فرحب به عبد الملك وقال : هاهنا هاهنا يا أبا أمية ! فأجلسه معه على السرير ، وجعل يحادثه طويلا ، ثم قال : يا غلام ، خذ السيف عنه . فقال عمرو : إنا لله يا أمير المؤمنين . فقال عبد الملك : أتطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك ؟ فأخذ السيف عنه ، ثم تحدثا ، ثم قال له عبد الملك : يا أبا أمية ، إنك حيث خلعتني أليت بيمين إن أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجعلك في جامعة . فقال له بنو مروان : ثم تطلقه يا أمير المؤمنين ؟ قال : نعم ، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية ؟ فقال بنو مروان : أبر قسم أمير المؤمنين . فقال عمرو : قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين .
فأخرج من تحت فراشه جامعة وقال : يا غلام ، قم فاجمعه فيها . فقام الغلام فجمعه فيها . فقال عمرو : أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رءوس الناس . فقال عبد الملك : أمكرا يا أبا أمية عند الموت ؟ لا والله ما كنا لنخرجك في جامعة على رءوس الناس . ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيتيه . فقال عمرو : أذكرك الله يا أمير المؤمنين ، كسر عظم مني فلا تركب ما هو أعظم من ذلك . فقال له عبد الملك : والله لو أعلم أنك تبقي علي إن أنا أبقيت عليك وتصلح قريش لأطلقتك ، ولكن ما اجتمع رجلان في بلده قط على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه . فلما رأى عمرو أنه يريد قتله قال : أغدرا يا ابن الزرقاء !
وقيل : إن عمرا لما سقطت ثنيتاه جعل يمسهما ، فقال عبد الملك : يا عمرو ، أرى ثنيتيك قد وقعتا منك موقعا لا تطيب نفسك بعده .
وأذن المؤذن العصر فخرج عبد الملك يصلي بالناس وأمر أخاه عبد العزيز أن يقتله ، فقام إليه عبد العزيز بالسيف ، فقال عمرو : أذكرك الله والرحم أن تلي قتلي ، ليقتلني من هو أبعد رحما منك . فألقى السيف وجلس ، وصلى عبد الملك صلاة خفيفة ودخل وغلقت الأبواب . قدوم يحيى بن سعيد لإنقاذ أخيه ورأى الناس عبد الملك حين خرج وليس معه عمرو ، فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد ، فأقبل في الناس ومعه ألف عبد لعمرو ، وناس من أصحابه كثير ، فجعلوا يصيحون بباب عبد الملك : أسمعنا صوتك يا أبا أمية ! فأقبل مع يحيى حميد بن حريث وزهير بن الأبرد ، فكسروا باب المقصورة وضربوا الناس بالسيوف ، وضرب الوليد بن عبد الملك على رأسه ، واحتمله إبراهيم بن عربي صاحب الديوان ، فأدخله بيت القراطيس .
ودخل عبد الملك حين صلى فرأى عمرا بالحياة ، فقال لعبد العزيز : ما منعك أن تقتله ؟ فقال : إنه ناشدني الله والرحم فرققت له . فقال له : أخزى الله أمك البوالة على عقبيها ، فإنك لم تشبه غيرها ! مقتل عمرو بن سعيد ثم أخذ عبد الملك الحربة فطعن بها عمرا ، فلم تجز ، ثم ثنى فلم تجز ، فضرب بيده على عضده فرأى الدرع فقال : ودرع أيضا ؟ إن كنت لمعدا ! فأخذ الصمصامة ، وأمر بعمرو فصرع ، وجلس على صدره فذبحه وهو يقول :
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
وانتفض عبد الملك رعدة ، فحمل عن صدره فوضع على سريره ، وقال : ما رأيت مثل هذا قط ، قتله صاحب دنيا ولا طالب آخرة .
ودخل يحيى ومن معه على بني مروان يخرجهم ومن كان من مواليهم ، فقاتلوا يحيى وأصحابه ، وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي ، فدفع إليه الرأس ، فألقاه إلى الناس ، وقام عبد العزيز بن مروان وأخذ المال في البدر ، فجعل يلقيها إلى الناس ، فلما رأى الناس الرأس والأموال ( انتهبوا الأموال وتفرقوا ) ، ثم أمر عبد الملك بتلك الأموال فجبيت حتى عادت إلى بيت المال .
وقيل : إن عبد الملك إنما أمر بقتل عمرو حين خرج إلى الصلاة غلامه أبا الزعيزعة ، فقتله وألقى رأسه إلى الناس ، ورمي يحيى بصخرة في رأسه ، وأخرج عبد الملك سريره إلى المسجد ، وخرج وجلس عليه ، وفقد الوليد ابنه فقال : والله لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم . فأتاه إبراهيم بن عربي الكناني ، فقال : الوليد عندي ، وقد جرح وليس عليه بأس .
وأتي عبد الملك بيحيى بن سعيد ، وأمر به أن يقتل ، فقام إليه عبد العزيز بن مروان فقال : جعلت فداك يا أمير المؤمنين ! أتراك قاتلا بني أمية في يوم واحد ! فأمر بيحيى فحبس . وأراد قتل عنبسة بن سعيد ، فشفع فيه عبد العزيز أيضا . ثم أتي بعامر بن الأسود الكلبي فضرب عبد الملك رأسه بقضيب خيزران كان معه ، ثم قال: أتقاتلني مع عمرو وتكون معه علي؟ قال: نعم؛ لأن عمرا أكرمني وأهنتني ، وقربني وأبعدتني ، وأحسن إلي وأسأت إلى ، فكنت معه عليك . فأمر به عبد الملك أن يقتل ، فقام إليه عبد العزيز ، فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في خالي ، فوهبه له ، وأمر ببني سعيد فحبسوا ، ومكث يحيى في الحبس شهرا أو أكثر .
ثم إن عبد الملك صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم استشار الناس في قتله ، فقام بعض خطباء الناس ، فقال: يا أمير المؤمنين ، هل تلد الحية إلا حية ، نرى والله أن تقتله ، فإنه منافق عدو . ثم قام عبد الله بن مسعدة الفزاري ، فقال: يا أمير المؤمنين ، إن يحيى ابن عمك ، وقرابته ما قد علمت ، وقد صنعوا ما صنعوا ، وصنعت بهم ما قد صنعت ، وما أرى لك قتلهم ، ولكن سيرهم إلى عدوك ، فإن هم قتلوا كنت قد كفيت أمرهم ، وإن هم رجعوا رأيت فيهم رأيك . فأخذ رأيه ، فأخرج آل سعيد فألحقهم بمصعب بن الزبير . ثم بعث عبد الملك إلى امرأة عمرو الكلبية : ابعثي إلي كتاب الصلح الذي كتبته لعمرو . فقالت لرسوله : ارجع فأعلمه أن ذلك الصلح معه في أكفانه ليخاصمك عند ربه .
وكان عبد الملك وعمرو يلتقيان في النسب في أمية ، هذا عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، وذاك عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية ، وكانت أم عمرو أم البنين بنت الحكم عمة عبد الملك .
فلما قتل عبد الملك مصعبا ، واجتمع الناس عليه - دخل أولاد عمرو على عبد الملك ، وهم أربعة : أمية ، وسعيد ، وإسماعيل ، ومحمد ، فلما نظر إليهم قال لهم : إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم ، وإن الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثا ، ولكن كان قديما في أنفس أوليكم على أولينا في الجاهلية . فأقطع بأمية ، وكان أكبرهم ، فلم يقدر أن يتكلم ، فقام سعيد بن عمرو ، وكان الأوسط ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما تنعى علينا أمرا كان في الجاهلية ، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك ووعد جنة وحذر نارا ، وأما الذي كان بينك وبين عمرو فإنه كان ابن عمك ، وأنت أعلم بما صنعت ، وقد وصل عمرو إلى الله ، وكفى بالله حسيبا ، ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لنا من ظهرها . فرق لهم عبد الملك وقال : إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله ، فاخترت قتله على قتلي ، وأما أنتم فما أرغبني فيكم ، وأوصلني لقرابتكم ! وأحسن جائزتهم ووصلهم وقربهم .
وقيل : إن خالد بن يزيد قال لعبد الملك ذات يوم : عجبت كيف أصبت غرة عمرو . فقال عبد الملك :
أدنيته مني ليسكن روعه فأصول صولة حازم مستمكن
غضبا ومحمية لديني إنه ليس المسيء سبيله كالمحسن
وقيل : بل كان عبد الملك قد استخلف عمرا على دمشق ، فخالفه وتحصن بها . والله أعلم .
وصول خبر قتل عمرو بن سعيد إلى عبد الله بن الزبير ولما سمع عبد الله بن الزبير بقتل عمرو قال : إن ابن الزرقاء قتل لطيم الشيطان ، وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون وبلغ ذلك ابن الحنفية فقال : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه يرفع له يوم القيامة لواء على قدر غدرته . عن العتبي أن عبد الملك قال : لقد كان عمرو بن سعيد أحب إلي من دم النواظر ، ولكن والله لا يجتمع فحلان في الإبل إلا أخرج أحدهما الآخر ، وإنا لكما قال أخو بني يربوع :
أجازي من جزاني الخير خيرا وجازي الخير يجزى بالنوال
وأجزي من جزاني الشر شرا كما تحذى النعال على النعال
قال خليفة بن خياط وأنشد أبو اليقظان لعبد الملك في قتله عمرو بن سعيد :
صحت ولا تشلل وضرت عدوها يمين أراقت مهجة ابن سعيد
وجدت ابن مروان ولا تبل نفسه شديدا ضرير البأس غير بليد
هو ابن أبي العاصي لمروان ينتمي إلى أسرة طابت له وجدود
قال الواقدي : أما رجع إليه من بطنان ، فحاصره بدمشق ، وأما قتله إياه فكان في سنة سبعين ، والله أعلم . رثاء يحيى بن أكثم عمرو بن سعيد وقال يحيى بن أكثم يرثيه: حصار عبد الملك لعمرو بن سعيد الأشدق فكان في سنة تسع وستين
أعيني جودا بالدموع على عمرو عشية تبتز الخلافة بالغدر
كأن بني مروان إذ يقتلونه بغاث من الطير اجتمعن على صقر
لحى الله دنيا تدخل النار أهلها وتهتك ما دون المحارم من ستر