اسمه ونسبه وكنيته
هو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب ، أبو بكر ، ويقال له : أبو خبيب ، القرشي الأسدي ، أول مولود ولد بعد الهجرة بالمدينة من المهاجرين ، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق ، ذات النطاقين ، هاجرت به - وهي حامل به متم - فولدته بقباء أول مقدمهم المدينة ، وقيل : إنما ولدته في شوال سنة ثنتين من الهجرة . قاله الواقدي ، ومصعب بن الزبير وغيرهما ، والأول أصح ; لما رواه أحمد ، عن أسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن أسماء ، أنها حملت بعبد الله بمكة ، قالت : فخرجت به ، وأنا متم ، فأتيت المدينة ، فنزلت فولدته ، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره ، ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه ، فكان أول ما دخل في جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : ثم حنكه ، ثم دعا له وبرك عليه ، وكان أول مولود ولد في الإسلام .
وهو صحابي جليل ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث ، وروى عن أبيه وعمر وعثمان وغيرهم ، وعنه جماعة من التابعين ، وشهد الجمل مع أبيه وهو صغير ، وحضر خطبة عمر بالجابية ، ورواها عنه بطولها ، ثبت ذلك من غير وجه .
وقدم دمشق لغزو القسطنطينية ، ثم قدمها مرة أخرى .
وبويع بالخلافة أيام يزيد بن معاوية ، ولما مات يزيد غلب على الحجاز واليمن والعراقين ومصر وخراسان وسائر بلاد الشام إلا دمشق ، وتمت البيعة له سنة أربع وستين ، وكان الناس بخير في زمانه .
مولده ومبايعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وثبت من غير وجه ، عن هشام ، عن أبيه ، عن أسماء ، أنها خرجت بعبد الله من مكة مهاجرة وهي حبلى به ، فولدته بقباء أول مقدمهم المدينة ، فأتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه ، وسماه عبد الله ، ودعا له ، وفرح المسلمون به ; لأنه كانت اليهود قد زعموا أنهم قد سحروا المهاجرين ; فلا يولد لهم في المدينة ، فلما ولد ابن الزبير كبر المسلمون ، وقد سمع عبد الله بن عمر جيش الشام حين كبروا عند قتله ، فقال : أما والله للذين كبروا عند مولده خير من هؤلاء الذين كبروا عند قتله . وأذن الصديق في أذنيه حين ولد رضي الله عنهما .
ومن قال : إن الصديق طاف به حول الكعبة ، وهو في خرقة فهو واهم ، والله أعلم ، وإنما طاف الصديق به في المدينة ليشتهر أمر ميلاده على خلاف ما زعمت اليهود .
وقال مصعب الزبيري : كان عارضا عبد الله خفيفين ، وما اتصلت لحيته حتى بلغ ستين سنة .
وعن سالم بن عبد الله بن عروة ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم في غلمة ترعرعوا ; منهم عبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير ، وعمر بن أبي سلمة ، فقيل : يا رسول الله ، لو بايعتهم فتصيبهم بركتك ، ويكون لهم ذكر . فأتي بهم إليه ، فكأنهم تكعكعوا ، واقتحم عبد الله بن الزبير ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إنه ابن أبيه وبايعه .
شربه لدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد روي من غير وجه أن عبد الله بن الزبير شرب من دم النبي صلى الله عليه وسلم ; كان النبي صلى الله عليه وسلم قد احتجم في طست ، فأعطاه عبد الله بن الزبير ليريقه فشربه ، فقال له : وفي رواية أنه قال له : لا تمسك النار إلا تحلة القسم ، وويل لك من الناس ، وويل للناس منك يا عبد الله ، اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد فلما بعد عمد إلى ذلك الدم فشربه ، فلما رجع قال : ما صنعت بالدم ؟ قال : عمدت إلى أخفى موضع علمت فجعلته فيه . قال : فلعلك شربته ؟ قال : نعم . فقال : لا تمسك النار إلا تحلة القسم ، ويل للناس منك ، وويل لك من الناس فكانت تلك القوة التي به من ذلك الدم .
وقال محمد بن سعد : أن نوفا البكالي كان يقول : إني لأجد في كتاب الله المنزل أن ابن الزبير فارس الخلفاء .
مكانته الدينية وعبادته
وقال حماد بن زيد ، عن ثابت البناني قال : كنت أمر بعبد الله بن الزبير وهو يصلي خلف المقام كأنه خشبة منصوبة لا يتحرك .
وقال الأعمش ، عن يحيى بن وثاب : كان ابن الزبير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره ، تصعد وتنزل لا تراه إلا جذم حائط . وقال غيره : كان ابن الزبير يقوم ليله حتى يصبح ، ويركع ليله حتى يصبح ، ويسجد ليله حتى يصبح . وقال بعضهم : ركع ابن الزبير يوما فقرأت البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وما رفع رأسه . وقال عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : كنت إذا رأيت ابن الزبير يصلي كأنه كعب راتب . وفي رواية : ثابت . وقال أحمد : تعلم عبد الرزاق الصلاة من ابن جريج ، وابن جريج من عطاء ، وعطاء من ابن الزبير ، وابن الزبير من الصديق ، و الصديق من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن ابن المنكدر قال : لو رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن شجرة تصفقها الريح ، والمنجنيق يقع هاهنا وهاهنا . قال سفيان : كأنه لا يبالي . وحكى بعضهم لعمر بن عبد العزيز أن حجرا من المنجنيق وقع على شرافة المسجد فطارت فلقة منه فمرت بين لحية ابن الزبير وحلقه ، فما زال عن مقامه ، ولا عرف ذلك في صوته . فقال عمر بن عبد العزيز لا إله إلا الله ، جاد ما وصفت .
وقال عمر بن عبد العزيز يوما لابن أبي مليكة : صف لنا عبد الله بن الزبير . فقال : والله ما رأيت جلدا قط ركب على لحم ، ولا لحما على عصب ، ولا عصبا على عظم مثله ، ولا رأيت نفسا ركبت بين جنبين مثل نفسه ، ولقد مرت آجرة من رمي المنجنيق بين لحيته وصدره ، فوالله ما جشع ولا قطع لها قراءته ، ولا ركع دون ما كان يركع ، وكان إذا دخل في الصلاة خرج من كل شيء إليها ، ولقد كان يركع فيكاد يقع الرخم على ظهره ، ويسجد فكأنه ثوب مطروح .
وسئل ابن عباس عن ابن الزبير فقال : كان قارئا لكتاب الله ، متبعا لسنة رسول الله ، قانتا لله ، صائما في الهواجر من مخافة الله ، ابن حواري رسول الله ، وأمه بنت الصديق ، وخالته عائشة حبيبة حبيب الله ، زوجة رسول الله ، فلا يجهل حقه إلا من أعماه الله .
وروي أن ابن الزبير كان يوما يصلي فسقطت حية من السقف تطوقت على بطن ابنه هاشم ، فصرخ النسوة ، وانزعج أهل المنزل ، واجتمعوا على قتل تلك الحية ، ف?قتلوها وسلم الولد ; فعلوا هذا كله وابن الزبير في الصلاة لم يلتفت ، ولا درى بما جرى لابنه حتى سلم .
وقال الزبير بن بكار : أن ابن الزبير كان يواصل الصوم سبعا ; يصوم يوم الجمعة ولا يفطر إلا ليلة الجمعة الأخرى ، ويصوم بالمدينة ولا يفطر إلا في مكة ، ويصوم بمكة فلا يفطر إلا في المدينة ، وكان إذا أفطر أول ما يفطر على لبن لقحة ، وسمن ، وصبر . وفي رواية أخرى : فأما اللبن فيعصمه ، وأما السمن فيقطع عنه العطش ، وأما الصبر فيفتق الأمعاء . وعن ابن أبي مليكة قال : كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام ، ويصبح في اليوم الثامن وهو أليثنا . وروي مثله من غير وجه ، وقال بعضهم : لم يكن يأكل في شهر رمضان سوى مرة واحدة في وسطه . وقال خالد بن أبي عمران : كان ابن الزبير لا يفطر من الشهر إلا ثلاثة أيام ، ومكث أربعين سنة لم ينزع ثوبه عن ظهره .
وقال ليث عن مجاهد : لم يكن أحد يطيق ما يطيقه ابن الزبير من العبادة رضي الله عنه . ولقد جاء سيل مرة فطبق البيت ، فجعل ابن الزبير يطوف سباحة .
وقال بعضهم : كان ابن الزبير لا ينازع في ثلاث : في العبادة ، والشجاعة ، والفصاحة ، وقد ثبت أن عثمان جعله في النفر الذين نسخوا المصاحف مع زيد بن ثابت ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وذكره سعيد بن المسيب في خطباء الإسلام مع معاوية وابنه ، وسعيد بن العاص وابنه ، وقال عبد الواحد بن أيمن : رأيت على ابن الزبير رداء يمانيا عدنيا يصلي فيه ، وكان صيتا ; إذا خطب يجاوبه الجبلان أبو قبيس ، وزرود .
صفة عبد الله بن الزبير
وكان آدم نحيفا ، ليس بالطويل ، وكان بين عينيه أثر السجود ، كثير العبادة ، مجتهدا ، شهما ، فصيحا ، صواما قواما ، شديد البأس ، ذا أنفة ، له نفس شريفة وهمة عالية ، وكان خفيف اللحية ، ليس في وجهه من الشعر إلا قليلا ، وكانت له جمة ، وكان له لحية صفراء .
شهود عبد الله بن الزبير الغزوات وشجاعته
وقد ذكرنا أنه شهد مع عبد الله بن أبي سرح قتال البربر ; وكانوا في عشرين ومائة ألف ، والمسلمون عشرين ألفا ، فأحاطوا بهم من كل جانب ، فما زال عبد الله بن الزبير يحتال حتى ركب في ثلاثين فارسا ، وسار نحو ملك البربر ، وهو منفرد وراء الجيش ، وجواريه يظللنه بريش النعام ، فساق حتى انتهى إليه ، والناس يظنون أنه ذاهب في رسالة إليه ، فلما فهمه الملك ولى مدبرا ، فلحقه عبد الله بن الزبير فقتله ، واحتز رأسه ، وجعله فوق رمحه ، وكبر وكبر المسلمون ، وحملوا على البربر فهزموهم بين أيديهم ، فقتلوا منهم خلقا كثيرا ، وغنموا مغانم كثيرة جدا ، وبعث ابن أبي سرح بالبشارة مع عبد الله بن الزبير ، فقص على عثمان الخبر ، وكيف جرى ، فقال له عثمان : أتستطيع أن تؤدي هذا للناس فوق المنبر ؟ قال : نعم . فصعد ابن الزبير فوق المنبر ، فخطب الناس ، وذكر لهم كيفية ما جرى . قال عبد الله : فالتفت فإذا أبي الزبير في جملة من حضر ، فلما تبينت وجهه كاد أن يرتج علي في الكلام من هيبته في قلبي ، فزبرني بعينه ، وأشار إلي ليحصبني ، فمضيت في الخطبة كما كنت ، فلما نزلت قال : والله لكأني أسمع خطبة أبي بكر الصديق حين سمعت خطبتك يا بني .
وقال أحمد بن أبي الحواري : سمعت أبا سليمان الداراني يقول : خرج ابن الزبير في ليلة مقمرة على راحلة له ، فنزل يبول ، فالتفت فإذا على الراحلة شيخ أبيض الرأس واللحية ، فشد عليه ابن الزبير فتنحى عنها ، فركب ابن الزبير راحلته ومضى ، قال : فناداه : والله يابن الزبير لو دخل قلبك الليلة مني شعرة لخبلتك . قال : ومنك أنت يا لعين يدخل قلبي شيء ؟ ! وقد روي لهذه الحكاية شواهد من وجوه أخرى جيدة . وعن عامر بن عبد الله بن الزبير قال : أقبل عبد الله بن الزبير من العمرة في ركب من قريش ، فلما كانوا عند التناضب أبصروا رجلا عند شجرة ، فتقدمهم ابن الزبير ، فلما انتهى إليه سلم عليه فلم يعبأ به ، ورد ردا ضعيفا ، ونزل ابن الزبير فلم يتحرك له الرجل ، فقال له ابن الزبير : تنح عن الظل . فانحاز متكارها ، قال ابن الزبير : فجلست ، وأخذت بيده ، وقلت : من أنت ؟ فقال : رجل من الجن . فما عدا أن قالها حتى قامت كل شعرة مني فاجتذبته ، وقلت : أنت رجل من الجن وتبدو لي هكذا ؟ وإذ ليس له سفلة ، وانكسر ونهرته ، وقلت : إلي تتبدى وأنت من أهل الأرض ، فذهب هاربا ، وجاء أصحابي ، فقالوا : أين الرجل الذي كان عندك ؟ فقلت : إنه كان من الجن فهرب . قال : فما منهم رجل إلا سقط إلى الأرض عن راحلته ، فأخذت كل رجل منهم ، فشددته على راحلته ، حتى أتيت بهم أمج وما يعقلون .
وقال سفيان بن عيينة : قال ابن الزبير : دخلت المسجد ذات ليلة ، فإذا نسوة يطفن بالبيت ، فأعجبنني ، فلما قضين طوافهن خرجن ، فخرجت في إثرهن ; لأعلم أين منزلهن ، فخرجن من مكة حتى أتين العقبة ، ثم انحدرن حتى أتين فجا فدخلن في خربة ، فدخلت في إثرهن ، فإذا مشيخة جلوس فقالوا : ما جاء بك يابن الزبير ؟ فقلت لهم : من أنتم ؟ قالوا : الجن ، وتلك النسوة نساؤنا ، فما تشتهي يابن الزبير ؟ فقلت : أشتهي رطبا ، وما بمكة يومئذ من رطبة ، فأتوني برطب فأكلت ، ثم قالوا : احمل ما بقي معك ، فجئت به المنزل ، فوضعته في سفط ، ووضعت السفط في صندوق ، ثم وضعت رأسي لأنام ، فبينما أنا بين النائم واليقظان إذ سمعت جلبة في البيت ، فقال بعضهم لبعض : أين وضعه ؟ قالوا : في الصندوق . ففتحوه ، فإذا هو في السفط داخله ، فهموا بفتحه ، فقال بعضهم : إنه ذكر اسم الله عليه ، فأخذوا السفط بما فيه ، فذهبوا به ، قال : فلم آسف على شيء أسفي كيف لم أثب عليهم وهم في البيت .
وقد كان عبد الله بن الزبير ممن حاجف عن عثمان يوم الدار ، وجرح يومئذ بضع عشرة جراحة ، وكان على الرجالة يوم الجمل ، وجرح يومئذ تسع عشرة جراحة أيضا ، وقد تبارز يومئذ هو ومالك بن الحارث بن الأشتر فاتحدا فصرع الأشتر ابن الزبير ، فلم يتمكن الأشتر من القيام عنه ، بل احتضنه ابن الزبير وجعل ينادي ، ويقول :
اقتلوني ومالكا واقتلوا مالكا معي
فأرسلها مثلا ، ثم تفرقا ، ولم يقدر عليه الأشتر ، وقد قيل : إنه جرح يومئذ بضعا وأربعين جراحة ، ولم يوجد إلا بين القتلى وبه رمق ، وقد أعطت عائشة لمن بشرها أنه لم يقتل عشرة آلاف درهم ، وسجدت لله شكرا ، وقد كانت تحبه حبا شديدا ; لأنه ابن أختها ، وكان عزيزا عليها ، وقد روي عن عروة أنه قال : لم تكن عائشة تحب أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مثل حبها عبد الله بن الزبير . وقال : وما رأيت أبي وعائشة يدعوان لأحد من الخلق مثل دعائهما لابن الزبير .النابغة الجعدي وعبد الله بن الزبير
وعن عمه عبد الله بن عروة قال : أقحمت السنة نابغة بني جعدة ، فدخل على عبد الله بن الزبير المسجد الحرام ، فأنشده هذه الأبيات :
حكيت لنا الصديق لما وليتنا وعثمان والفاروق فارتاح معدم
وسويت بين الناس في الحق فاستووا فعاد صباحا حالك الليل مظلم
أتاك أبو ليلى يجوب به الدجا دجى الليل جواب الفلاة عثمثم
لتجبر منه جانبا ذعذعت به صروف الليالي والزمان المصمم
عبد الله بن الزبير ومعاوية بن أبي سفيان
وقال محمد بن مروان صاحب كتاب " المجالسة " : ثنا هشام بن سليمان المخزومي ، عن أبيه ، قال : أذن معاوية للناس فدخلوا عليه ، فاحتفل المجلس ، وهو على سريره ، فأجال بصره فيهم ، ثم قال : أنشدوني لقدماء العرب ثلاثة أبيات جامعة ، من أجمع ما قالتها العرب . ثم قال : يا أبا خبيب . فقال : مهيم ؟ قال : أنشدني ذلك . فقال : نعم يا أمير المؤمنين ، بثلاثمائة ألف ; كل بيت بمائة ألف . قال : نعم ، إن ساوت . قال : أنت بالخيار ، وأنت واف كاف . فأنشده للأفوه الأودي :
بلوت الناس قرنا بعد قرن فلم أر غير ختال وقال
ولم أر في الخطوب أشد وقعا وكيدا من معاداة الرجال
وذقت مرارة الأشياء طرا فما شيء أمر من السؤال
وعن جويرية بن أسماء ، أن معاوية لما حج تلقاه الناس ، وتخلف ابن الزبير ، ثم جاءه وقد حلق رأسه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما أكثر جحرة رأسك ؟ فقال له : اتق ; لا تخرج عليك منها حية فتقتلك . فلما أفاض معاوية طاف معه ابن الزبير وهو آخذ بيده ، ثم استدعاه إلى داره ومنازله بقعيقعان ، فذهب معه إليها ، فلما خرجا قال : يا أمير المؤمنين ، إن الناس يقولون : جاء معه أمير المؤمنين إلى دوره ومنازله ففعل ماذا ؟ لا والله لا أدعك حتى تعطيني مائة ألف . فأعطاه ، فجاء مروان فقال : والله يا أمير المؤمنين ما رأيت مثلك ; جاءك رجل قد سمى بيت مال الديوان ، وبيت الخلافة ، وبيت كذا وبيت كذا ، فأعطيته مائة ألف . فقال له : ويلك ؛ فكيف أصنع بابن الزبير ؟
وعن هشام بن عروة قال : سأل عبد الله بن الزبير معاوية شيئا فمنعه ، فقال : والله ما أجهل أن ألزم هذه البنية ، فلا أشتم لك عرضا ، ولا أقصب لك حسبا ، ولكني أسدل عمامتي من بين يدي ذراعا ، ومن خلفي ذراعا في طريق أهل الشام ، وأذكر سيرة أبي بكر الصديق وعمر ، فيقول الناس : من هذا ؟ فيقولون : ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن بنت الصديق . فقال معاوية : حسبك بهذا شرا . ثم قال : هات حوائجك .
وعن سعيد بن يزيد قال : دخل ابن الزبير على معاوية ، فأمر ابنا له صغيرا فلطمه لطمة دوخ منها رأسه ، فلما أفاق ابن الزبير قال للصبي : ادن مني . فدنا منه ، فقال له : الطم معاوية . قال : لا أفعل . قال : ولم ؟ قال : لأنه أبي . فرفع ابن الزبير يده ، فلطم الصبي لطمة جعل يدور منها كما تدور الدوامة ، فقال معاوية : تفعل هذا بغلام لم تجر عليه الأحكام ؟ قال : إنه والله قد عرف ما يضره مما ينفعه ، فأحببت أن أحسن أدبه .
وقال أبو الحسن علي بن محمد المدائني ، عن عبد الله بن أبي بكر قال : لحق ابن الزبير معاوية وهو سائر إلى الشام من المدينة ، فوجده وهو ينعس على راحلته ، فقال له : أتنعس وأنا معك ؟ أما تخاف مني أن أقتلك ؟ فقال : إنك لست من قتال الملوك ، إنما يصيد كل طائر قدره . فقال : أما لقد سرت تحت لواء أبي إلى علي بن أبي طالب وهو من تعلم . فقال : لا جرم قتلكم والله بشماله . فقال : أما إن ذلك كان في نصرة عثمان ، ثم لم يجز بها . فقال : إنما كان لبغض علي لا لنصرة عثمان . فقال له ابن الزبير : إنا قد أعطيناك عهدا ، فنحن وافون لك به ما عشت ، فسيعلم من بعدك . فقال : أما والله ما أخافك إلا على نفسك ، وكأني بك قد خبطت في الحبالة ، واستحكمت عليك الأنشوطة ، فذكرتني وأنت فيها ، فقلت : ليت أبا عبد الرحمن لها ، ليتني والله لها ، أما والله لأحللنك رويدا ، ولأطلقنك سريعا ، ولبئس الولي أنت تلك الساعة . وحكى ابن عيينة نحو هذا .
خلاف يزيد بن معاوية وعبد الله بن الزبير
وقد تقدم أن معاوية لما مات ، وجاءت بيعة يزيد بن معاوية إلى المدينة انشمر منها ابن الزبير والحسين بن علي ، فقصدا مكة فأقاما بها ، ثم خرج الحسين إلى العراق ، وكان من أمر مقتله بأرض كربلاء ما تقدم ، وتفرد بالرياسة والسؤدد بمكة عبد الله بن الزبير ; ولهذا كان ابن عباس ينشد بعد مخرج الحسين :
يا لك من قنبرة بمعمر خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
وقيل : إن يزيد بن معاوية كتب إلى ابن الزبير يقول : إني قد بعثت إليك بسلسلة من فضة وقيد من ذهب ، وجامعة من فضة ، وحلفت لتأتيني في ذلك ، فأبر قسمي ، ولا تشق العصا . فلما قرأ كتابه ألقاه من يده وقال :
ولا ألين لغير الحق أسأله حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
خلافة عبد الله بن الزبير
فلما مات يزيد بن معاوية ، وابنه معاوية بن يزيد من بعده قريبا ، استفحل أمر عبد الله بن الزبير جدا ، وبويع له بالحجاز والعراق ومصر ، وبايع له الضحاك بن قيس بدمشق وأعمالها ، ولكن عارضه مروان بن الحكم في ذلك ، وما زال حتى قتله وجماعة بمرج راهط كما تقدم ، فبايع له أهل الشام ، ثم دخل مصر فانتزعها من نواب ابن الزبير ، ثم جهز السرايا إلى العراق ، ومات واستخلف بعده ابنه عبد الملك بن مروان ، فما زال حتى قتل مصعب بن الزبير ، وأخذ العراق منه ، ثم بعث الحجاج بن يوسف ، فحاصر ابن الزبير بمكة قريبا من سبعة أشهر ، حتى ظفر به في يوم الثلاثاء سابع عشر من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين .
وكانت ولاية ابن الزبير في سنة أربع وستين ، وحج بالناس فيها كلها ، وبنى الكعبة في أيامه ، كما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ورد بناءها كما كانت عليه ، كما أخبرته عائشة أم المؤمنين ، وكسا الكعبة الحرير ، وكانت كسوتها قبل ذلك الأنطاع والمسوح .
مآثر وعبادة ابن الزبير
وكان ابن الزبير عالما عابدا ، مهيبا وقورا ، كثير الصيام والصلاة ، شديد الخشوع ، قوي السياسة ، وعن عمر بن قيس ، قال : كان لابن الزبير مائة غلام يتكلم كل غلام منهم بلغة غير لغة الآخر ، وكان ابن الزبير يكلم كل واحد منهم بلغته ، وكنت إذا نظرت إليه في أمر دنياه قلت : هذا رجل لم يرد الله طرفة عين ، وإذا نظرت إليه في أمر آخرته قلت : هذا رجل لم يرد الدنيا طرفة عين .
وقال الثوري ، عن الأعمش عن أبي الضحى ، قال : رأيت على رأس ابن الزبير من المسك ما لو كان لي كان رأس مال . وكان يطيب الكعبة حتى كان يوجد ريحها من مسافة بعيدة .
وقال ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : دخل ابن الزبير على امرأته بنت الحسن ، فرأى ثلاثة مثل - يعني أفرشة - فقال : هذا لي ، وهذا لابنة الحسن ، وهذا للشيطان . فأخرجوه .
وقال الثوري ، عن عبد الملك بن أبي بشير ، عن عبد الله بن مساور ، قال : سمعت ابن عباس يعاتب ابن الزبير على البخل ويقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . ليس بالمؤمن من يبيت شبعان ، وجاره إلى جنبه جائع
وقال الإمام أحمد : أتى عبد الله بن عمرو عبد الله بن الزبير ، وهو جالس في الحجر ، فقال : يابن الزبير ، إياك والإلحاد في حرم الله ، فإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يحلها ويحل به رجل من قريش ، لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها قال : فانظر أن لا تكونه يابن عمرو ، فإنك قرأت الكتب ، وصحبت النبي صلى الله عليه وسلم . قال : فإني أشهدك أن هذا وجهي إلى الشام مجاهدا .
وهذا قد يكون رفعه غلطا ، وإنما هو من كلام عبد الله بن عمرو ، مما أصابه من الزاملتين من علوم أهل الكتاب يوم اليرموك ، والله أعلم .
وعن سلمان الفارسي قال : ليحرقن هذا البيت على يدي رجل من آل الزبير .
وعن منذر الثوري قال : قال ابن الحنفية : اللهم إنك تعلم أني كنت أعلم مما علمتني أن ابن الزبير لا يخرج منها إلا قتيلا ، يطاف برأسه في الأسواق .
وقد روى الزبير بن بكار ، عن هشام بن عروة قال : إن أول ما أفصح به عبد الله بن الزبير وهو صغير : السيف ، فكان لا يضعه من فيه . وكان الزبير إذا سمع ذلك منه يقول له : أما والله ليكونن لك منه يوم ويوم وأيام .
كرامات ابن الزبير بعد موته
وقد تقدم كيفية مقتله ، وأن الحجاج صلبه على جذع فوق الثنية ، وأنه ربط إلى جنبه هرة ميتة ، فكان ريح المسك يغلب على ريحها ، وأن أمه أرسلت إلى الحجاج تقول له : قاتلك الله ، علام تصلب ولدي ؟ فقال : إني استبقت أنا وإياه إلى هذه الخشبة فسبقني إليها . وأن أمه جاءت حتى وقفت عليه فدعت له طويلا ، ولا يقطر من عينها دمعة ، ثم انصرفت ، وكذلك وقف عليه ابن عمر فدعا له ، وأثنى عليه ثناء كثيرا جدا .
وقال الواقدي : عن عبد الله مولى أسماء ، قال : لما قتل عبد الله خرجت إليه أمه حتى وقفت عليه ، وهي على دابة ، فأقبل الحجاج في أصحابه فسأل عنها فأخبر بها ، فأقبل حتى وقف عليها ، فقال : كيف رأيت نصر الله الحق وأظهره ؟ قالت : ربما أديل الباطل على الحق ، وإنك بين فرثها والجية . فقال : إن ابنك ألحد في هذا البيت ، وقد قال الله تعالى : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم ; قطع السبل . قالت : كذبت ، كان أول مولود في الإسلام بالمدينة ، وسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحنكه بيده ، وكبر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحا به ، وقد فرحت أنت وأصحابك بمقتله ، فمن كان فرح يومئذ خير منك ومن أصحابك ، وكان مع ذلك برا بالوالدين ، صواما ، قواما بكتاب الله ، معظما لحرم الله ، يبغض أن يعصى الله عز وجل ، أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لسمعته يقول : سيخرج من ثقيف كذابان ، الآخر منهما شر من الأول ، وهو مبير فانكسر الحجاج وانصرف ، فبلغ ذلك عبد الملك ، فكتب إليه يلومه في مخاطبته أسماء ، وقال : ما لك ولابنة الرجل الصالح ؟
وعن أبي نوفل قال : رأيت عبد الله بن الزبير على عقبة المدينة ، قال : فجعلت قريش تمر عليه والناس ، حتى مر عليه عبد الله بن عمر ، فوقف عليه ، فقال : السلام عليك أبا خبيب ، السلام عليك أبا خبيب ، السلام عليك أبا خبيب ، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ، أما والله إن كنت ما علمت صواما قواما وصولا للرحم ، أما والله لأمة أنت شرها لأمة خير . ثم نفذ عبد الله بن عمر ، فبلغ الحجاج وقوف ابن عمر عليه وقوله ، فأرسل إليه ، فأنزل عن جذعه ، وألقي في قبور اليهود ، ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر ، فأبت أن تأتيه ، فأعاد عليها الرسول : لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك . فأبت ، وقالت : والله لا آتيه حتى يبعث إلي من يسحبني بقروني . قال : فقال الحجاج : أروني سبتي . فأخذ نعليه ، ثم انطلق يتوذف حتى دخل عليها ، فقال : كيف رأيتيني صنعت بعدو الله ؟ قالت : رأيتك أفسدت عليه دنياه ، وأفسد عليك آخرتك ، بلغني أنك تقول : يابن ذات النطاقين ، أنا والله ذات النطاقين ، أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عل?ه وسلم وطعام أبي بكر ، وأما الآخر فنطاق المرأة الذي لا تستغني عنه ، أما إن رسول الله حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا ، فأما الكذاب فرأيناه ، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه . قال : فقام عنها ولم يراجعها . انفرد به مسلم .
وروى الواقدي أن الحجاج لما صلب ابن الزبير على ثنية الحجون بعثت إليه أسماء تدعو عليه ، وطلبت منه أن يدفن ، فأبى عليها ، حتى كتب إلى عبد الملك في ذلك ، فكتب إليه أن يدفن ، فدفن بالحجون ، وذكروا أنه كان يشتم من عند قبره ريح المسك .
أولاده وزوجاته
وكان له من الولد : خبيب وحمزة وعباد وثابت ، وأمهم تماضر بنت منظور الفزاري ، وهاشم وقيس وعروة - قتل مع أبيه - والزبير ، وأمهم أم هاشم بنت حلة بن منظور ، وعامر وموسى وأم حكيم وفاطمة وفاختة ، وأمهم جثيمة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وبكر ورقية ، وأمهم عائشة بنت عثمان بن عفان ، وعبد الله ومصعب من أم ولد .
وقد أسند ثلاثة وثلاثين حديثا .
رثاء ابن الزبير وتنبؤه بموته
وقد رثي ابن الزبير وأخوه مصعب بمراث كثيرة حسنة بليغة ، رحمهما الله ، من ذلك قول عمرو بن معمر الذهلي يرثيهما بأبيات :
لعمرك ما أبقيت في الناس حاجة ولا كنت ملبوس الهدى متذبذبا
غداة دعاني مصعب فأجبته وقلت له أهلا وسهلا ومرحبا
أبوك حواري الرسول وسيفه فأنت بحمد الله من خيرنا أبا
وذاك أخوك المهتدى بضيائه بمكة يدعونا دعاء مثوبا
ولم أك ذا وجهين وجه لمصعب مريض ووجه لابن مروان إذ صبا
وكنت امرأ ناصحته غير مؤثر عليه ابن مروان ولا متقربا
إليه بما تقذى به عين مصعب ولكنني ناصحت في الله مصعبا
إلى أن رمته الحادثات بسهمها فلله سهما ما أسد وأصوبا
فإن يك هذا الدهر أودى بمصعب وأصبح عبد الله شلوا ملحبا
فكل امرئ حاس من الموت جرعة وإن حاد عنها جهده وتهيبا
ولما بعث يزيد بن معاوية إلى ابن الزبير ذلك القيد من ذهب ، وسلسلة من فضة ، وجامعة من فضة ، وأقسم لتأتيني فيها ، فقالوا له : بر قسم أمير المؤمنين . فقال :
ولا ألين لغير الحق أسأله حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
وروى الطبراني أن ابن الزبير دخل على أمه فقال : إن في الموت لراحة . وكانت أمه قد أتت عليها مائة سنة لم يسقط لها سن ، ولم يفسد لها بصر ، فقالت له : ما أحب أن أموت حتى آتي على أحد طرفيك ، إما أن تملك فتقر عيني ، وإما أن تقتل فأحتسبك . ثم خرج عنها ، وهو يقول :
ولست بمبتاع الحياة بسبة ولا مرتق من خشية الموت سلما
لو كان قرني واحدا كفيته
ويقول :ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
العبد يحمي ربه ويحتمي
ثم أرسلوا إليه فحزوا رأسه .وروى الطبراني أيضا ، عن إسحاق بن أبي إسحاق قال : أنا حاضر مقتل عبد الله بن الزبير في المسجد الحرام ، يوم قتل جعلت الجيوش تدخل من أبواب المسجد ، وكلما دخل قوم من باب حمل عليهم حتى يخرجهم ، فبينما هو على تلك الحال إذ جاءت شرفة من شرفات المسجد ، فوقعت على رأسه فصرعته ، وهو يتمثل بهذه الأبيات :
أسماء يا أسماء لا تبكيني لم يبق إلا حسبي وديني
وصارم لانت به يميني
ما قيل عن ابن الزبير بعد موته
وقال مجاهد : كنت مع ابن عمر فمر على ابن الزبير ، فوقف فترحم عليه ، وأثنى عليه ، ثم التفت إلي وقال : أخبرني أبو بكر الصديق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من يعمل سوءا يجز به .
مواعظ وخطب ابن الزبير
قال : محمد بن عبد الله الثقفي قال : شهدت خطبة ابن الزبير بالموسم ، خرج علينا قبل التروية بيوم وهو محرم ، فلبى بأحسن تلبية سمعتها قط ، ثم حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإنكم جئتم من آفاق شتى وفودا إلى الله عز وجل ، فحق على الله أن يكرم وفده ، فمن كان منكم يطلب ما عند الله فإن طالب ما عند الله لا يخيب ، فصدقوا قولكم بفعل ، فإن ملاك القول الفعل ، والنية النية ، والقلوب القلوب ، الله الله في أيامكم هذه ; فإنها أيام تغفر فيها الذنوب ، جئتم من آفاق شتى في غير تجارة ، ولا طلب مال ، ولا دنيا ترجونها هاهنا . ثم لبى ولبى الناس ، فما رأيت باكيا أكثر من يومئذ .
وعن وهب بن كيسان قال : كتب إلى عبد الله بن الزبير بموعظة : أما بعد ، فإن لأهل التقوى علامات يعرفون بها ، ويعرفونها من أنفسهم : صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وكظم الغيظ ، وصبر على البلاء ، ورضا بالقضاء ، وشكر للنعماء ، وذل لحكم القرآن ، وإنما الإمام كالسوق ; ما نفق فيها حمل إليها ، إن نفق الحق عنده حمل إليه وجاءه أهله ، وإن نفق الباطل عنده حمل إليه وجاءه أهله .
وعن وهب بن كيسان قال : ما رأيت ابن الزبير يعطي سلمه قط لرغبة ولا لرهبة سلطان ولا غيره .
وبهذه الإسنادات أهل الشام كانوا يعيرون ابن الزبير ويقولون له : يابن ذات النطاقين . فقالت له أسماء : يا بني ، إنهم يعيرونك بالنطاقين ، وإنما كان لي نطاق واحد شققته نصفين ; فجعلت في سفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما ، وأوكيت قربته بالآخر لما خرج هو وأبو بكر يريدان الهجرة إلى المدينة . فكان ابن الزبير بعد ذلك إذا عيروه بالنطاقين يقول : إيها والله :
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
والله سبحانه وتعالى أعلم . قصة إن وراكبهاوأخرج عن أبي عبيدة قال: جاء عبد الله بن الزبير الأسدي إلى عبد الله بن الزبير بن العوام فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن بيني وبينك رحما من قبل فلانة.
فقال ابن الزبير: نعم؛ هذا كما ذكرت، وإن فكرت في هذا... أصبت؛ الناس بأسرهم يرجعون إلى أب واحد وإلى أم واحدة.
فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن نفقتي نفدت.
قال: ما كنت ضمنت لأهلك أنها تكفيك إلى أن ترجع إليهم.
قال: يا أمير المؤمنين؛ فإن ناقتي قد نقبت.
قال: أنجد بها تبرد خفها، وارقعها بسبت، واخفضها بهلب، وسر عليها البردين.
قال: يا أمير المؤمنين؛ إنما جئتك مستحملا ولم آتك مستوصفا، لعن الله ناقة حملتني إليك.
فقال ابن الزبير: إن وراكبها! فخرج الأسدي وأنشأ يقول:
أرى الحاجات عند أبي خبيب نكدن، ولا أمية في البلاد
من الأعياص أو من آل حرب أغر كغرة الفرس الجواد
وقلت لصحبتي: أدنوا ركابي أفارق بطن مكة في سواد
وما لي حين أقطع ذات عرق إلى ابن الكاهلية من معاد!