الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            قتل قطرى بن الفجأة التميمي

            وفي هذه السنة قتل قطري بن الفجاءة التميمي ، أبو نعامة الخارجي ، وكان من الشجعان المشاهير ، ويقال : إنه مكث عشرين سنة يسلم عليه أصحابه بالخلافة ، وقد جرت له خطوب وحروب مع جيش المهلب بن أبي صفرة من جهة الحجاج وغيره . وقد قدمنا منها طرفا صالحا في أماكنه .

            وكان خروجه في زمن مصعب بن الزبير ، وتغلب على قلاع كثيرة وأقاليم وغيرها ، ووقائعه مشهورة ، وقد أرسل إليه الحجاج جيوشا كثيرة فهزمها ، وقيل : إنه برز إليه رجل من بعض الحرورية ، وهو على فرس أعجف ، وبيده عمود حديد ، فلما قرب منه كشف قطري عن وجهه ، فولى الرجل هاربا ، فقال له قطري : إلى أين ؟ أما تستحي أن تفر ولم تر طعنا ولا ضربا ؟ فقال : إن الإنسان لا يستحي أن يفر من مثلك .

            ثم إنه في آخر أمره توجه إليه سفيان بن الأبرد الكلبي في جيش ، فاقتتلوا بطبرستان ، فعثر بقطري فرسه فوقع إلى الأرض ، فتكاثروا عليه فقتلوه ، وحملوا رأسه إلى الحجاج . وقيل : إن الذي قتله سودة بن الحر الدارمي .

            وكان قطري بن الفجاءة - مع شجاعته المفرطة وإقدامه - من خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة ، وجودة الكلام ، والشعر الحسن ، فمن مستجاد شعره قوله يشجع نفسه وغيره ، ومن سمعها انتفع بها :


            أقول لها وقد طارت شعاعا من الأبطال ويحك لن تراعي     فإنك لو سألت بقاء يوم
            على الأجل الذي لك لم تطاعي     فصبرا في مجال الموت صبرا
            فما نيل الخلود بمستطاع     ولا ثوب الحياة بثوب عز
            فيطوى عن أخي الخنع اليراع     سبيل الموت غاية كل حي
            وداعيه لأهل الأرض داعي     ومن لا يغتبط يسأم ويهرم
            وتسلمه المنون إلى انقطاع     وما للمرء خير في حياة
            إذا ما عد من سقط المتاع

            ذكرها صاحب الحماسة ، واستحسنها ابن خلكان في تاريخه كثيرا .

            وفيها مات محمود بن الربيع ، وكنيته أبو إبراهيم ، وولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود . قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة



            قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة ، أبو ليلى :

            وهو النابغة ، نابغة بني جعدة ، وقيل: اسمه عبد الله بن قيس ، والأول أصح .

            كان جاهليا وأدرك الإسلام ، ووفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنشده . وقال له عمر:

            أنشدنا مما عفا الله عنه . فأنشده قصيدة ، وعمر في الإسلام حتى أدرك الأخطل النصراني ونازعه الشعر . قال ابن قتيبة: فغلبه الأخطل ومات بأصبهان وهو ابن عشرين ومائة سنة .

            وقال الأصمعي: عاش مائة وستين .

            ويقول النابغة :

            أنشدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:


            بلغنا السماء مجدنا وجدودنا     وإنا لنرجو بعد ذلك مظهرا

            فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "فأين المظهر يا أبا ليلى" ، فقلت: الجنة ، فقال: "أجل إن شاء الله" ، ثم قلت:


            ولا خير في حلم إذا لم تكن له     بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
            ولا خير في جهل إذا لم يكن له     حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا

            فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أجدت لا يفضض الله فاك" . مرتين .


            وعن سليمان بن محمد بن يحيى بن عروة ، عن أبيه ، عن عمه عبد الله بن عمرو ، قال :

            أقحمت السنة النابغة - نابغة بني جعدة - فدخل على الزبير المسجد الحرام ، فأنشده:


            حكيت لنا الصديق لما وليتنا     وعثمان والفاروق فارتاح معدم
            وسويت بين الناس بالحق فاستووا     فعاد صباحا حالك اللون مظلم
            أتاك أبو ليلى يجوب به الدجى     دجى الليل جواب الفلاة عشمشم
            لتجبر منه جانبا دغدغت به     صروف الليالي والزمان المصمم

            فقال ابن الزبير: هون عليك أبا ليلى ، فإن الشعر أهون وسائلك عندنا ، أما صفوة مالنا فلآل الزبير ، وأما عفوة فإن بني أسد تشغلنا عنك وتيماء ، ولكن لك في مال الله حقان: حق برؤيتك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحق بشركتك أهل الإسلام في فيئهم . ثم أخذ بيده فدخل به دار النعم ، فأعطاه قلائص سبعا وجملا رجيلا ، وأوقر له الركاب برا وتمرا وثيابا ، فجعل النابغة يستعجل فيأكل الحب صرفا ، فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلى ، لقد بلغ منه الجهد ، فقال النابغة أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ما وليت قريش [فعدلت] فرحمت واسترحمت فرحمت ، وحدثت فصدقت ، ووعدت خيرا فأنجزت ، فأنا والنبيون فراط القاصفين"
            .

            ، قال الزبيري: والفارط الذي يتقدم فيسقي الماء للإبل التي للقوم .

            وأنشد القطامي:


            واستعجلونا وكانوا من صحابتنا     كما تعجل فراط لوراد

            والقاصفون: المسرعون بعضهم إثر بعض ، ومنه الرعد القاصف ، الريح يتبع بعضها بعضا . والرجيل القوي الشديد .

            ويقول: النضر بن شميل وسئل من أكبر من لقيت؟ قال: المنتجع الأعرابي . قال: وقلت للمنتجع: من أكبر من لقيت؟ قال : النابغة الجعدي ، فقلت للنابغة: كم عشت في الجاهلية؟ قال: [عشت] دارين ، ثم أدركت محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فأسلمت .

            قال النضر: الداران مائتا سنة . قال النابغة: فكنت أجيب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى قبضه الله عز وجل .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية