الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            ثم دخلت سنة إحدى وثمانين

            فتح عبيد الله بن عبد الملك بن مروان مدينة قاليقلا

            في هذه السنة سير عبد الملك بن مروان ابنه عبيد الله ففتح قاليقلا .

            ذكر مقتل بحير بن ورقاء

            وفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي .

            وكان سبب قتله أنه لما قتل بكير بن وساج ، وكلاهما تميميان ، بأمر أمية بن عبد الله بن خالد إياه بذلك ، كما تقدم ذكره ، قال عثمان بن رجاء بن جابر أحد بني عوف بن سعد من الأبناء يحرض بعض آل بكير من الأبناء ، والأبناء عدة بطون من تميم سموا بذلك :

            لعمري لقد أغضيت عينا على القذى وبت بطينا من رحيق مروق     وخليت ثأرا طل واخترت نومة
            ومن يشرب الصهباء بالوتر يسبق     فلو كنت من عوف بن سعد ذؤابة
            تركت بحيرا في دم مترقرق     فقل لبحير نم ولا تخش ثائرا
            ببكر فعوف أهل شاء حبلق     دع الضأن يوما قد سبقتم بوتركم
            وصرتم حديثا بين غرب ومشرق     وهبوا فلو أمسى بكير كعهده
            لغاداهم زحفا بجأواء فيلق



            وقال أيضا :

            فلو كان بكر بارزا في أداته     وذي العرش لم يقدم عليه بحير
            ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب     وفي الله طلاب بذاك جدير



            فبلغ بحيرا أن رهط بكير من الأبناء يتوعدونه فقال : توعدني الأبناء جهلا كأنما يرون فنائي مقفرا من بني كعب رفعت له كفي بعضب مهند حسام كلون الثلج ذي رونق عضب

            فتعاقد سبعة عشر رجلا من بني عوف على الطلب بدم بكير ، فخرج فتى منهم يقال له شمردل من البادية حتى قدم خراسان فرأى بحيرا واقفا فحمل عليه ، فطعنه فصرعه ، وظن أنه قد قتله ، فقال الناس : خارجي ، وراكضهم ، فعثر به فرسه ، فسقط عنه فقتل .

            وخرج صعصعة بن حرب العوفي من البادية ، وقد باع غنيمات له ومضى إلى سجستان ، فجاور قرابة لبحير مدة ، وادعى إلى بني حنيفة من اليمامة ، وأطال مجالستهم حتى أنسوا به ، ثم قال لهم : إن لي بخراسان ميراثا ، فاكتبوا لي إلى بحير كتابا ليعينني على حقي . فكتبوا له ، وسار فقدم على بحير وهو مع المهلب في غزوته ، فلقي قوما من بني عوف ، فأخبرهم أمره ، ولقي بحيرا فأخبره أنه من بني حنيفة من أصحاب ابن أبي بكرة ، وأن له مالا بسجستان وميراثا بمرو ، وقدم ليبيعه ويعود إلى اليمامة . فأنزله بحير وأمر له بنفقة ووعده ، فقال صعصعة : أقيم عندك حتى يرجع الناس . فأقام شهرا يحضر معه باب المهلب ، وكان بحير قد حذر ، فلما أتاه صعصعة بكتاب أصحابه ، وذكر أنه من حنيفة ، آمنه .

            فجاء يوما صعصعة وبحير عند المهلب عليه قميص ورداء ، فقعد خلفه ، ودنا منه كأنه يكلمه ، فوجأه بخنجر معه في خاصرته ، فغيبه في جوفه ، ونادى : يا لثارات بكير ! فأخذ وأتي به المهلب ، فقال له : بؤسا لك ! ما أدركت بثأرك وقتلت نفسك ، وما على بحير بأس . فقال : لقد طعنته طعنة لو قسمت بين الناس لماتوا ، ولقد وجدت ريح بطنه في يدي . فحبسه ، فدخل عليه قوم من الأبناء فقبلوا رأسه . ومات بحير من الغد ، فقال صعصعة لما مات بحير : اصنعوا الآن ما شئتم ، أليس قد حلت نذور أبناء بني عوف وأدركت بثأري ؟ والله لقد أمكنني منه خاليا غير مرة فكرهت أن أقتله سرا . فقال المهلب : ما رأيت رجلا أسخى نفسا بالموت من هذا . وأمر بقتله فقتل .

            وقيل : إن المهلب بعثه إلى بحير قبل أن يموت ، فقتله ، ومات بحير بعده .

            وعظم موته على المهلب ، وغضبت عوف والأبناء وقالوا : علام قتل صاحبنا ، وإنما أخذ بثأره ؟ فنازعهم مقاعس والبطون ، وكلهم بطون من تميم ، حتى خاف الناس أن يعظم الأمر ، فقال أهل الحجى : احملوا دم صعصعة ، واجعلوا دم بحير ببكير ، فودوا صعصعة ، فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة :

            لله در فتى تجاوز همه     دون العراق مفاوزا وبحورا
            ما زال يدئب نفسه وركابه     حتى تناول في الحروب بحيرا

            دخول الديلم قزوين وما كان منهم

            كانت قزوين ثغر المسلمين من ناحية ديلم ، فكانت العساكر لا تبرح مرابطة بها ، يتحارسون ليلا ونهارا ، فلما كان هذه السنة كان في جماعة من رابط بها محمد بن أبي سبرة الجعفي ، وكان فارسا شجاعا عظيم الغناء في حروبه ، فلما قدم قزوين رأى الناس يتحارسون فلا ينامون الليل ، فقال لهم : أتخافون أن يدخل عليكم العدو مدينتكم ؟ قالوا : نعم . قال : لقد أنصفوكم إن فعلوا ، افتحوا الأبواب ولا بأس عليكم . ففتحوها .

            وبلغ ذلك الديلم فساروا إليهم وبيتوهم وهجموا إلى البلد ، وتصايح الناس ، فقال ابن أبي سبرة : أغلقوا أبواب المدينة علينا وعليهم ، فقد أنصفونا وقاتلوهم .

            فأغلقوا الأبواب وقاتلوهم ، وأبلى ابن أبي سبرة بلاء عظيما ، وظفر بهم المسلمون ، فلم يفلت من الديلم أحد ، واشتهر اسمه بذلك ، ولم يعد الديلم بعدها يقدمون على مفارقة أرضهم . فصار محمد فارس ذلك الثغر المشار إليه ، وكان يدمن شرب الخمر ، وبقي كذلك إلى أيام عمر بن عبد العزيز ، فأمر بتسييره إلى زرارة ، وهي دار الفساق بالكوفة ، فسير إليها ، فأغارت الديلم ونالت من المسلمين ، وظهر الخلل بعده ، فكتبوا إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن أمير الكوفة يسألونه أن يرد عليهم ابن أبي سبرة ، فكتب بذلك إلى عمر ، فأذن له في عوده إلى الثغر ، فعاد إليه وحماه .

            ولمحمد أخ يقال له خثيمة بن عبد الرحمن ، وهو اسم أبي سبرة ، وكان من الفقهاء . ذكر عدة حوادث

            وحج بالناس هذه السنة سليمان بن عبد الملك .

            وكان ممن حج أم الدرداء الصغرى .

            وفيها ولد ابن أبي ذئب .

            وكان العامل على المدينة أبان بن عثمان ، وعلى العراق والمشرق كله الحجاج ، وعلى خراسان المهلب ، وعلى قضاء الكوفة أبا بردة ، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة . وكانت سجستان وكرمان وفارس والبصرة بيد عبد الرحمن . غزو موسى بن نصير بلاد الأندلس

            وفيها غزا موسى بن نصير أمير بلاد المغرب من جهة عبد الملك بلاد الأندلس ، فافتتح مدنا كثيرة ، وأراضي عامرة ، وأوغل في بلاد المغرب إلى أن وصل إلى الزقاق المنبثق من البحر الأخضر المحيط . والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية