[86 - 96 هـ] خلافة الوليد بن عبد الملك
أبو العباس، قال العيشي: (كان أبواه يترفانه، فشب بلا أدب).
قال روح بن زنباع: (دخلت يوما على عبد الملك - وهو مهموم - فقال: فكرت فيمن أوليه أمر العرب، فلم أجده، فقلت: أين أنت عن الوليد؟ قال: إنه لا يحسن النحو، فسمع ذلك الوليد، فقام من ساعته وجمع أصحاب النحو، وجلس معهم في بيت ستة أشهر، ثم خرج وهو أجهل مما كان، فقال عبد الملك: أما إنه قد أعذر).
وقال أبو الزناد: (كان الوليد لحانا، قال على منبر المسجد النبوي: يا أهل المدينة).
وقال أبو عكرمة الضبي: قرأ الوليد على المنبر: يا ليتها كانت القاضية وتحت المنبر عمر بن عبد العزيز وسليمان بن عبد الملك، فقال سليمان: وددتها والله، وكان الوليد جبارا ظالما.
وأخرج أبو نعيم في «الحلية» عن ابن شوذب قال: (قال عمر بن عبد العزيز: الوليد بالشام، والحجاج بالعراق، وعثمان بن حيان بالحجاز، وقرة بن شريك بمصر؛ امتلأت الأرض والله جورا).
وأخرج ابن أبي حاتم في «تفسيره» عن إبراهيم أبي زرعة، أن الوليد قال له: أيحاسب الخليفة؟ قال: يا أمير المؤمنين؛ أأنت أكرم على الله أم داود؟ إن الله جمع له النبوة والخلافة، ثم توعده في كتابه فقال: { يا داود } الآية.
لكنه أقام الجهاد في أيامه، وفتحت في خلافته فتوحات عظيمة، وكان مع ذلك يختن الأيتام، ويرتب لهم المؤدبين، ويرتب للزمنى من يخدمهم، وللأضراء من يقودهم، وعمر المسجد النبوي ووسعه، ورزق الفقهاء والفقراء والضعفاء ، وحرم عليهم سؤال الناس، وفرض لهم ما يكفيهم، وضبط الأمور أتم ضبط.
وقال ابن أبي عبلة: (رحم الله الوليد، وأين مثل الوليد؟! افتتح الهند والأندلس، وبنى مسجد دمشق، وكان يعطيني قصاع الفضة أقسمها على قراء مسجد بيت المقدس). مبايعة الوليد بالخلافة
باني جامع دمشق خلافة الوليد بن عبد الملك
لما رجع من دفن أبيه خارج باب الجابية الصغير - وكان ذلك في يوم الخميس ، وقيل : الجمعة . للنصف من شوال من هذه السنة - أعني سنة ست وثمانين - لم يدخل المنزل حتى صعد المنبر - منبر المسجد الأعظم بدمشق - فخطب الناس ، فكان مما قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، والله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين ، والحمد لله على ما أنعم به علينا من الخلافة ، قوموا فبايعوا ، فكان أول من قام إليه عبد الله بن همام السلولي وهو يقول :
الله أعطاك التي لا فوقها وقد أراد الملحدون عوقها عنك ويأبى الله إلا سوقها
إليك حتى قلدوك طوقها
وذكر الواقدي : أنه حمد الله وأثنى بما هو أهله عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنه لا مقدم لما أخر الله ، ولا مؤخر لما قدم الله ، وقد كان من قضاء الله وسابقته ، وما كتبه على أنبيائه وحملة عرشه وملائكته الموت ، وقد صار إلى منازل الأبرار بما لاقى في هذه الأمة - يعني بالذي يحق لله عليه - من الشدة على المريب ، واللين لأهل الحق والفضل ، وإقامة ما أقام الله من منار الإسلام ، وإعلائه من حج هذا البيت ، وغزو هذه الثغور ، وشن هذه الغارات على أعداء الله عز وجل ، فلم يكن عاجزا ولا مفرطا ، أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة ; فإن الشيطان مع الفرد ، أيها الناس ، من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ، ومن سكت مات بدائه ، ثم نزل فنظر إلى ما كان من دواب الخلافة ، فحازها وكان جبارا عنيدا .
محاسن ومناقب الوليد بن عبد الملك
والوليد بن عبد الملك فقد كان صينا في نفسه ، حازما في رأيه ، يقال : إنه لا تعرف له صبوة . ومن جملة محاسنه ما صح عنه أنه قال : لولا أن الله قص علينا قصة قوم لوط في كتابه ما ظننت أن ذكرا يأتي ذكرا كما تؤتى النساء . كما سيأتي ذلك في ترجمته عند ذكر وفاته في سنة ست وتسعين ، إن شاء الله تعالى وهو باني جامع دمشق الذي لا يعرف في الآفاق أحسن بناء منه ، وقد شرع في بنائه في ذي القعدة من هذه السنة ، فلم يزل في بنائه وتحسينه مدة خلافته ، وهي عشر سنين فلما أنهاه انتهت أيام خلافته ، كما سيأتي بيان ذلك مفصلا ، وقد كان موضع هذا المسجد كنيسة يقال لها : كنيسة يوحنا ، فلما فتحت الصحابة دمشق جعلوها مناصفة ، فأخذوا منها الجانب الشرقي فحولوه مسجدا ، وبقي الجانب الغربي كنيسة بحاله من لدن سنة أربع عشرة إلى هذه السنة ، فعزم الوليد على أخذ بقية هذه الكنيسة منهم ، وعوضهم عنها كنيسة مريم لدخولها في جانب السيف ، وقيل : عوضهم عنها كنيسة توما ، وهدم بقية هذه الكنيسة وأضافها إلى مسجد الصحابة ، وجعل الجميع مسجدا واحدا ، على هيئة بديعة لا يعرف كثير من الناس أو أكثرهم لها نظيرا في البنيان والديارات والآثار والعمارات ، والله سبحانه وتعالى أعلم .