الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            فتح طوانة من بلد الروم

            ثم دخلت سنة ثمان وثمانين

            فيها غزا الصائفة مسلمة بن عبد الملك  وابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك ، فافتتحا بمن معهما من المسلمين حصن طوانة في جمادى من هذه السنة ، وكان حصنا منيعا اقتتل الناس عنده قتالا عظيما ، ثم حمل المسلمون على النصارى ، فهزموهم حتى أدخلوهم الكنيسة ، ثم خرجت النصارى فحملوا على المسلمين ، فانهزم المسلمون ، ولم يبق أحد منهم في موقفه إلا العباس بن الوليد ، ومعه ابن محيريز الجمحي ، فقال العباس لابن محيريز : أين قراء القرآن الذين يريدون وجه الله عز وجل؟ فقال : نادهم يأتوك . فنادى : يا أهل القرآن . فتراجع الناس ، فحملوا على النصارى فكسروهم ، ولجأوا إلى الحصن ، فحاصروهم حتى فتحوه .

            عمارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم

            وذكر ابن جرير أن في شهر ربيع الأول من هذه السنة قدم كتاب الوليد على عمر بن عبد العزيز بالمدينة ، يأمره بهدم المسجد النبوي ، وإضافة حجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه  ، وأن يوسعه من قبلته وسائر نواحيه ، حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع ، فمن باعك ملكه فاشتر منه ، وإلا فقومه له قيمة عدل ، ثم اهدم ، وادفع إليهم أثمان بيوتهم ، فإن لك في ذلك سلف صدق; عمر وعثمان .

            فجمع عمر بن عبد العزيز وجوه الناس ، والفقهاء العشرة أهل المدينة ، وقرأ عليهم كتاب الوليد ، فشق عليهم ذلك وقالوا : هذه حجر قصيرة السقوف ، وسقوفها من جريد النخل ، وحيطانها من اللبن ، وعلى أبوابها المسوح ، وتركها على حالها أولى; لينظر إليها الحجاج والزوار والمسافرون ، وإلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فينتفعوا بذلك ويعتبروا به ، ويكون ذلك أدعى لهم إلى الزهد في الدنيا ، فلا يعمرون فيها إلا بقدر الحاجة ، وهو ما يستر ويكن ، ويعرفون أن هذا البنيان العالي إنما هو من أفعال الفراعنة والأكاسرة ، وكل طويل الأمل راغب في الدنيا وفي الخلود فيها .

            فعند ذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد بما أجمع عليه الفقهاء العشرة المتقدم ذكرهم ، فأرسل إليه يأمره بالخراب وبناء المسجد على ما ذكر ، وأن يعلي سقوفه ، فلم يجد عمر بدا من هدمها ، ولما شرعوا في الهدم صاح الأشراف ووجوه الناس من بني هاشم وغيرهم ، وتباكوا مثل يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم ، فأجاب من له ملك متاخم للمسجد للبيع فاشترى منهم ، وشرع في بنائه ، وشمر عن إزاره ، واجتهد في ذلك ، وجاءته فعول كثيرة من قبل الوليد ، فأدخل فيه الحجرة النبوية ، حجرة عائشة ، فدخل القبر في المسجد ، وكانت حده من الشرق ، وسائر حجر أمهات المؤمنين ، كما أمر الوليد .

            وروينا أنهم لما حفروا الحائط الشرقي من حجرة عائشة بدت لهم قدم ، فخشوا أن تكون قدم النبي صلى الله عليه وسلم حتى تحققوا أنها قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه . ويحكى أن سعيد بن المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد ، كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجدا ، والله أعلم .

            ذكر ما عمل الوليد من المعروف

            وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز أن يحفر الفوارة بالمدينة ، وأن يجري ماءها ، ففعل ، وأمره أن يحفر الآبار ، وأن يسهل الطرق والثنايا ، وساق إلى الفوارة الماء من ظاهر المدينة ، والفوارة بنيت في ظاهر المسجد ، عند بقعة رآها فأعجبته .

            غزو قتيبة بن مسلم ملك الترك كورمغانون

            وفيها غزا قتيبة بن مسلم ملك الترك  كورمغانون ابن أخت ملك الصين ، ومعه مائتا ألف مقاتل من أهل الصغد وفرغانة وغيرهم ، فاقتتلوا قتالا شديدا وكان مع قتيبة نيزك ملك الترك مأسورا ، فكسرهم قتيبة بن مسلم ، وغنم من أموالهم شيئا كثيرا ، وقتل منهم خلقا وسبى وأسر .

            من حج بالناس في هذه السنة

            وفيها حج بالناس عمر بن عبد العزيز ومعه جماعات من أشراف قريش ، فلما كان بالتنعيم لقيه طائفة من أهل مكة ، فأخبروه عن قلة الماء بمكة لقلة المطر ، فقال لأصحابه : ألا نستمطر؟ فدعا ودعا الناس ، فما زالوا يدعون حتى سقوا ، ودخلوا مكة ومعهم المطر ، وجاء سيل عظيم حتى خاف أهل مكة من شدة المطر ، ومطرت عرفة ومزدلفة ومنى ، وأخصبت الأرض هذه السنة خصبا عظيما بمكة وما حولها ، وذلك ببركة دعاء عمر بن عبد العزيز ومن كان معه من الصالحين . وكان النواب على البلدان في هذه السنة هم الذين كانوا قبلها . حبس المجذومين

            وفي هذه السنة حبس الوليد المجذمين أن يخرجوا على الناس ، وأجرى عليهم أرزاقا .  بناء مسجد دمشق

            وفي هذه السنة بنى الوليد مسجد دمشق فأنفق عليه مالا عظيما .  

            عن عمرو بن مهاجر ، وكان على بيت مال الوليد بن عبد الملك ، أنهم حسبوا ما أنفق على الكرمة التي في قبلة مسجد دمشق فكانت سبعين ألف دينار .

            قال أبو قصي: وحسبوا ما أنفق على مسجد دمشق ، وكان أربعمائة صندوق ، في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار .

            قال أبو قصي: وأتاه حرسته فقالوا: يا أمير المؤمنين ، إن أهل دمشق يتحدثون أن الوليد أنفق الأموال في غير حقها ، فنادى: الصلاة جامعة ، وخطب الناس فقال: إنه بلغني حرستي أنكم تقولون إن الوليد أنفق الأموال في غير حقها ، ألا يا عمر بن مهاجر قم فأحضر ما قبلك من الأموال من بيت المال ، قال: فأتت البغال تحمل المال ، وتصب في القبلة على الأنطاع حتى لم يبصر من في الشام من في القبلة ، ولا من في القبلة من في الشام ، وأتت الموازين - يعني القبابين فوزنت الأموال ، وقال لصاحب الديوان:

            أحضر من قبلك ممن يأخذ رزقنا ، فوجدوا ثلاثمائة ألف ألف في جميع الأمصار ، وحسبوا ما يصيبهم فوجد عنده رزق ثلاث سنين ، ففرح الناس وكبروا وحمدوا الله -عز وجل- وقال: إلى ما تذهب هذه الثلاث سنين قد أتانا الله بمثله ومثله ، ألا وأني إنما رأيتكم يا أهل الشام تفخرون على الناس بأربع خصال فأحببت أن يكون مسجدكم الخامس ، تفخرون على الناس بمائكم ، وهوائكم ، وفاكهتكم ، وحماماتكم ، فأحببت أن يكون مسجدكم الخامس ، فاحمدوا الله تعالى فانصرفوا وهم شاكرين [داعين] .

            وقد حكى محمد بن عبد الملك الهمداني ، أن الجاحظ حكى عن بعض السلف أنه قال: ما يجوز أن يكون أحد أشد شوقا إلى الجنة من أهل دمشق لما يرون من حسن مسجدهم .

            قال: ودخله المأمون ومعه المعتصم ويحيى بن أكثم ، فقال المأمون: أي شيء يعجبكم من هذا المسجد؟ فقال المعتصم: ذهبه فإنا نصنعه فلا تمضي عشرون سنة حتى يتحول ، وهذا بحاله كأن الصانع قد فرغ منه الآن ، فقال: ما أعجبني هذا ، فقال يحيى بن أكثم: الذي أعجبك يا أمير المؤمنين تأليف رخامه فإن فيه عقودا ما يرى مثلها ، قال: كلا ، بل أعجبني أنه شيء على غير مثال شوهد .

            قال: وأمر الوليد أن يسقف بالرصاص ، فطلب من كل البلاد ، وبقيت قطعة لم يوجد لها رصاص إلا عند امرأة ، فأبت أن تبيعه إلا بوزنه ذهبا ، فقال: اشتروه منها ولو بوزنه مرتين ، ففعلوا ووزنوا مثله ، فلما قبضته قالت: إني ظننت من صاحبكم أنه يظلم الناس في بنائه فلما رأيت إنصافه رددت الثمن . فلما بلغ ذلك الوليد أمر أن يكتب على صفائح المرأة لله ، ولم يدخله فيما عمله ، وفيما كتب عليه اسمه .

            قال محمد بن عبد الملك: وقد قيل إنه أنفق عليه خراج الدنيا ثلاث مرات ، وأنه بلغ ثمن البقل الذي أكله الصناع فيه ستة آلاف دينار ، وكان فيه ستمائة سلسلة ذهب ، فلم يقدر أحد أن يصلي فيه لعظم شعاعها فدخنت .

            وعمل هذا الجامع في تسع سنين .

            وقال موسى بن حماد البربري: رأيت في مسجد دمشق كتابا بالذهب في الزجاج محفورا عليه سورة "ألهاكم التكاثر" إلى آخرها ، ورأيت جوهرة حمراء ملصقة في قاف المقابر ، فسألت عن ذلك ، فقيل لي: كان للوليد ابنة ولها هذه الجوهرة ، وكانت ابنة نفيسة فماتت ، فأمرت أمها أن تدفن هذه الجوهرة معها في قبرها ، فأمر الوليد بها فصيرت في قاف المقابر من ألهاكم التكاثر ، ثم حلف لأمها أنه قد أودعها في المقابر فسكتت .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية