ثم دخلت سنة تسع وثمانين
فيها فقتلا خلقا كثيرا ، وفتحا حصونا كثيرة; منها حصن سورية وعمورية وهرقلة وقمودية ، وغنما شيئا كثيرا ، وأسرا جما غفيرا . غزا مسلمة بن عبد الملك وابن أخيه العباس بلاد الروم ،
غزو قتيبة بلاد الصغد ونسف وكس ووردان
وفيها وقد لقيه هنالك خلق من الأتراك ، فظفر بهم فقتلهم ، وسار إلى بخارى فلقيه دونها خلق كثير من الترك ، فقاتلهم يومين وليلتين عند مكان يقال له : خرقان . وظفر بهم ، فقال في ذلك نهار بن توسعة : غزا قتيبة بن مسلم بلاد الصغد ونسف وكس ،
وباتت لهم منا بخرقان ليلة وليلتنا كانت بخرقان أطولا
ثم قصد قتيبة وردان خذاه ، ملك بخارى ، فقاتله وردان قتالا شديدا ، فلم يظفر به قتيبة ، فرجع عنه إلى مرو ، فجاءه كتاب الحجاج يعنفه على الفرار والنكول عن أعداء الإسلام ، وكتب إليه أن يبعث بصورة هذا البلد يعني بخارى فبعث إليه بصورتها فكتب إليه; أن ارجع إليها وتب إلى الله من ذنبك ، وائتها من مكان كذا وكذا ، ورد وردان خذاه ، وإياك والتحويط ، ودعني وبنيات الطريق .تولية خالد القسري إمرة مكة
وفي هذه السنة ولى الوليد بن عبد الملك إمرة مكة لخالد بن عبد الله القسري ، فحفر بئرا بأمر الوليد عند ثنية طوى وثنية الحجون ، فجاءت عذبة الماء طيبة ، وكان يستقي الناس منها .
وروى الواقدي ، حدثني عمر بن صالح ، عن نافع مولى بني مخزوم ، قال : سمعت خالد بن عبد الله القسري يقول على منبر مكة ، وهو يخطب الناس : أيها الناس ، أيهما أعظم خليفة : الرجل على أهله ، أم رسوله إليهم؟ والله لو لم تعلموا فضل الخليفة إلا أن إبراهيم خليل الرحمن استسقاه فسقاه ملحا أجاجا ، واستسقى الخليفة فسقاه عذبا فراتا . يعني البئر التي احتفرها بالثنيتين; ثنية طوى وثنية الحجون فكان ينقل ماؤها فيوضع في حوض من أدم إلى جنب زمزم; ليعرف فضله على زمزم . قال : ثم غارت تلك البئر فذهب ماؤها ، فلا يدرى أين هو إلى اليوم . وهذا الإسناد غريب ، وهذا الكلام يتضمن كفرا إن صح عن قائله ، وعندي أن خالد بن عبد الله القسري لا يصح عنه هذا الكلام ، وإن صح فهو عدو الله .
وقد قيل عن الحجاج بن يوسف نحو هذا الكلام; من أنه جعل الخليفة أفضل من الرسول الذي أرسله الله ، وكل هذه الأقوال تتضمن كفر قائلها .
غزو مسلمة الترك
وفي هذه السنة حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان ، وفتح حصونا ومدائن هنالك ، وحج بالناس فيها عمر بن عبد العزيز . قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي : فتح صقلية وميورقة غزا مسلمة الترك
وفي هذه السنة وقيل : منورقة . وهما في البحر بين جزيرة صقلية وحداره من بلاد الأندلس . فتحت صقلية وميورقة .
ذكر قتل ذاهر ملك السند
في هذه السنة قتل محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي ، - يجتمع هو والحجاج في الحكم - ، ذاهر بن صعصعة ملك السند ، وملك بلاده ، وكان الحجاج بن يوسف استعمله على ذلك الثغر وسير معه ستة ألاف مقاتل ، وجهزه بكل ما يحتاج إليه حتى المسال والإبر والخيوط ، فسار محمد إلى مكران فأقام بها أياما ، ثم أتى قنزبور ففتحها ، ثم سار إلى أرمائيل ففتحها ، ثم سار إلى الديبل ، فقدمها يوم جمعة ، ووافته سفن كان حمل فيها الرجال والسلاح والأداة ، فخندق حين نزل الديبل ، وأنزل الناس منازلهم ، ونصب منجنيقا يقال له العروس ، كان يمد به خمسمائة رجل ، وكان بالديبل بد عظيم عليه دقل عظيم ، وعلى الدقل راية حمراء ، إذا هبت الريح أطافت بالمدينة ، وكانت تدور ، والبد صنم في بناء عظيم ، تحت منارة عظيمة مرتفعة ، وفي رأس المنارة هذا الدقل ، وكل ما يعبد فهو عندهم بد .
فحصرها وطال حصارها ، فرمى الدقل بحجر العروس فكسره ، فتطير الكفار بذلك ، ثم إن محمدا أتى وناهضهم وقد خرجوا إليه ، فهزمهم حتى ردهم إلى البلد ، وأمر بالسلاليم فنصبت ، وصعد عليها الرجال ، وكان أولهم صعودا رجل من مراد من أهل الكوفة ، ففتحت عنوة ، وقتل فيها ثلاثة أيام ، وهرب عامل ذاهر عنها ، وأنزلها محمد أربعة آلاف من المسلمين ، وبنى جامعها ، وسار عنها إلى البيرون ، وكان أهلها بعثوا إلى الحجاج فصالحوه ، فلقوا محمدا بالميرة وأدخلوه مدينتهم ، وسار عنها وجعل لا يمر بمدينة إلا فتحها حتى عبر نهرا دون مهران ، فأتاه أهل سربيدس فصالحوه ، ووظف عليهم الخراج وسار عنهم إلى سهبان ففتحها ، ثم سار إلى نهر مهران فنزل في وسطه .
وبلغ خبره ذاهر ، فاستعد لمحاربته ، وبعث جيشا إلى سدوستان ، فطلب أهلها الأمان والصلح ، فآمنهم ووظف عليهم الخراج ، ثم عبر محمد مهران مما يلي بلاد راسل الملك على جسر عقده ، وذاهر مستخف به ، فلقيه محمد والمسلمون وهو على فيل وحوله الفيلة ، ومعه التكاكرة ، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع بمثله ، وترجل ذاهر ، فقتل عند المساء ، ثم انهزم الكفار ، وقتلهم المسلمون كيف شاءوا ، وقال قائله :
الخيل تشهد يوم ذاهر والقنا ومحمد بن القاسم بن محمد أني فرجت الجمع غير معرد حتى علوت عظيمهم بمهند فتركته تحت العجاج مجندلا متعفر الخدين غير موسد
فلما قتل ذاهر غلب محمد على بلاد السند ، وفتح مدينة راور عنوة ، وكان بها امرأة لذاهر ، فخافت أن تؤخذ ، فأحرقت نفسها وجواريها وجميع مالها .
ثم سار إلى برهمناباذ العتيقة ، وهي على فرسخين من المنصورة ، ولم تكن المنصورة يومئذ ، كان موضعها غيضة ، وكان المنهزمون من الكفار بها ، فقاتلوه ففتحها محمد عنوة ، وقتل بها بشرا كثيرا وخربت .
وسار يريد الرور وبغرور ، فلقيه أهل ساوندرى فطلبوا الأمان ، فأعطاهم إياه ، واشترط عليهم ضيافة المسلمين ، ثم أسلم أهلها بعد ذلك . ثم تقدم إلى بسمد وصالح أهلها ، ووصل إلى الرور ، وهي من مدائن السند على جبل ، فحصرهم شهورا فصالحوه ، وسار إلى السكة ففتحها ، ثم قطع نهر بياس إلى الملتان ، فقاتله أهلها وانهزموا ، فحصرهم محمد ، فجاءه إنسان ودله على قطع الماء الذي يدخل المدينة فقطعه ، فعطشوا فألقوا بأيديهم ونزلوا على حكمه ، فقتل المقاتلة ، وسبى الذرية وسدنة البد ، وهم ستة آلاف ، وأصابوا ذهبا كثيرا ، فجمع في بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية أذرع يلقى إليه من كوة في وسطه ، فسميت الملتان : فرج بيت الذهب ، والفرج الثغر ، وكان بد الملتان تهدى إليه الأموال ، ويحج من البلاد ، ويحلقون رءوسهم ولحاهم عنده ، ويزعمون أن صنمه هو أيوب النبي صلى الله عليه وسلم .
وعظمت فتوحه ، ونظر الحجاج في النفقة على ذلك الثغر ، فكانت ستين ألف ألف درهم ، ونظر في الذي حمل فكان مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف ، فقال : ربحنا ستين ألفا ، وأدركنا ثأرنا ورأس ذاهر .
ثم مات الحجاج .
ذكر استعمال موسى بن نصير على إفريقية
في هذه السنة استعمل الوليد بن عبد الملك موسى بن نصير على إفريقية ، وكان نصير والده على حرس معاوية ، فلما سار معاوية إلى صفين لم يسر معه ، فقال له : ما يمنعك من المسير معي إلى قتال علي ويدي عندك معروفة ؟ فقال لا أشركك بكفر من أولى بالشكر منك ، وهو الله ، عز وجل . فسكت عنه معاوية .
فوصل موسى إلى إفريقية وبها صالح الذي استخلفه حسان على إفريقية ، وكان البربر قد طمعوا في البلاد بعد مسير حسان ، فلما وصل موسى عزل صالحا ، وبلغه أن بأطراف البلاد قوما خارجين عن الطاعة ، فوجه إليهم ابنه عبد الله ، فقاتلهم فظفر بهم ، وسبى منهم ألف رأس ، وسيره في البحر إلى جزيرة ميورقة ، فنهبها وغنم منها ما لا يحصى وعاد سالما ، فوجه ابنه هارون إلى طائفة أخرى ، فظفر بهم وسبى منهم نحو ذلك ، وتوجه هو بنفسه إلى طائفة أخرى ، فغنم نحو ذلك ، فبلغ الخمس ستين ألف رأس من السبي ، ولم يذكر أحد أنه سمع بسبي أعظم من هذا .
ثم إن إفريقية قحطت واشتد بها الغلاء ، فاستسقى بالناس ، وخطبهم ولم يذكر الوليد ، وقيل له في ذلك ، فقال : هذا مقام لا يدعى فيه لأحد ولا يذكر إلا الله ، عز وجل ، فسقي الناس ورخصت الأسعار ، ثم خرج غازيا إلى طنجة يريد من بقي من البربر ، وقد هربوا خوفا منه ، فتبعهم وقتلهم قتلا ذريعا حتى بلغ السوس الأدنى لا يدافعه أحد ، فاستأمن البربر إليه وأطاعوه ، واستعمل على طنجة مولاه طارق بن زياد ، ويقال : إنه صدفي . وجعل معه جيشا كثيفا جلهم من البربر ، وجعل معهم من يعلمهم القرآن والفرائض ، وعاد إلى إفريقية . فمر بقلعة مجانة ، فتحصن أهلها منه وترك عليها من يحاصرها مع بشر بن فلان ، ففتحها ، فسميت قلعة بشر إلى الآن ، وحينئذ لم يبق له في إفريقية من ينازعه .
وقيل : كانت ولاية موسى سنة ثمان وسبعين ، استعمله عليها عبد العزيز بن مروان ، وهو حينئذ على مصر لأخيه عبد الملك . الدعاء لبني العباس
وكان الدعاء لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، وسمي بالإمام ، وكوتب وأطيع ، ثم لم يزل الأمر ينمى ويقوى ويتزايد إلى أن توفي في سنة أربع وعشرين ومائة . وفي هذه السنة ابتدئ بالدعاء لبني العباس ، . وحج بالناس عمر بن عبد العزيز