أبو محمد المدني المخزومي ، سيد التابعين على الإطلاق ، ولد لسنتين مضتا - وقيل : بقيتا - من خلافة عمر بن الخطاب . وقيل : لأربع مضين منها . وقول الحاكم أبي عبد الله : أنه أدرك العشرة . وهم منه . والله أعلم . ولكن أرسل عنهم كما أرسل كثيرا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى عن عمر كثيرا ، فقيل : سمع منه . وقيل : لم يسمع . وعن عثمان وعلي وسعد وأبي هريرة وكان زوج ابنته وأعلم الناس بحديثه وروى عن جماعة من الصحابة ، وحدث عن جماعة من التابعين ، وخلق ممن سواهم .
قال ابن عمر : كان سعيد أحد المفتين . وقال الزهري : جالسته سبع حجج ، وأنا لا أظن عند أحد علما غيره . وقال محمد بن إسحاق ، عن مكحول قال : طفت الأرض كلها في طلب العلم ، فما لقيت أعلم من سعيد بن المسيب .
وقال الأوزاعي : سئل الزهري ومكحول : من أفقه من لقيتما؟ قالا : سعيد بن المسيب .
وقال قتادة : ما رأيت أعلم بالحلال والحرام منه . وكان الحسن إذا أشهل عليه شيء كتب إلى سعيد بن المسيب . وقال غيره كان يقال له : فقيه الفقهاء .
وقال مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب : كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد .
قال مالك : وبلغني أن ابن عمر كان يرسل إلى سعيد بن المسيب يسأله عن قضايا عمر وأحكامه .
وقال الربيع عن الشافعي ، أنه قال : إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن .
وقال الإمام أحمد بن حنبل : هي صحاح . قال : وسعيد بن المسيب أفضل التابعين .
وقال علي بن المديني : لا أعلم في التابعين أوسع علما منه . وإذا قال سعيد : مضت السنة . فحسبك به ، وهو عندي أجل التابعين .
وقال أحمد بن عبد الله العجلي : كان سعيد رجلا صالحا فقيها ، كان لا يأخذ العطاء ، وكانت له بضاعة ، أربعمائة دينار ، وكان يتجر في الزيت ، وكان أعور .
وقال أبو زرعة : مدني ثقة إمام .
وقال أبو حاتم : ليس في التابعين أنبل منه ، وهو أثبتهم في أبي هريرة . وابتلي سعيد بن المسيب بالضرب . وذلك أن عبد الله بن الزبير ولى جابر بن الأسود الزهري المدينة ، فدعا الناس إلى بيعة ابن الزبير ، فقال سعيد: لا حتى يجتمع الناس ، فضربه ستين سوطا ، فبلغ ذلك ابن الزبير ، فكتب إليه يلومه ويقول: ما لنا ولسعيد ، دعه .
وكان عبد الملك قد خطب بنت سعيد لابنه الوليد ، فأبى ، فاحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد ، وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف .
وعن ضمام ، عن بعض أهل المدينة ، قال: لما كانت بيعة سليمان بن عبد الملك مع بيعة الوليد كره سعيد بن المسيب أن يبايع بيعتين ، فكتب صاحب المدينة إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن سعيد بن المسيب كره أن يبايع لهما جميعا ، فكتب عبد الملك إلى صاحب المدينة . وما كان حاجتك إلى رفع هذا عن سعيد بن المسيب ، ما كنا نخاف منه ، فأما إذا ظهر ذلك وانتشر في الناس فادعه إلى ما دخل فيه من دخل في هذه البيعة ، فإن أبى فاجلده مائة سوط ، واحلق رأسه ولحيته ، وألبسه ثيابا من شعر ، وقفه على الناس في سوق المسلمين لئلا يجترئ علينا غيره .
فلما علم بعض من حضر من قريش سألوا الوالي أن لا يعجل عليه حتى يخوفه بالقتل فعسى أن يجيب ، فأرسلوا مولى له كان في الحرس ، قالوا: اذهب فأخفه بالقتل ، وأخبره أنه مقتول لعل ذلك يخيفه حتى يدخل فيما دخل فيه الناس . فجاءه مولاه وهو يصلي فبكى المولى ، فقال له سعيد: ما يبكيك؟ قال: يبكيني ما يراد بك ، قد جاء كتاب فيك إن لم تبايع قتلت ، فجئت لتطهر وتلبس ثيابا طاهرة ، وتفرغ من عهدك ، قال:
ويحك قد وجدتني أصلي ، فتراني كنت أصلي ولست بطاهر ، وثيابي غير طاهرة ، وأما ما ذكرت من العهد فإني أضل ممن أرسلك إن كنت بت ليلة ولم أفرغ من عهدي .
فانطلق ، فلما أتى الوالي دعوه فأبى أن يجيب ، فأمره بالتجريد ولبس ثيابا من شعر ، ثم جلده مائة سوط ، وحلق رأسه ولحيته ، ووقف فقال: لو كنت أعلم أنه ليس شيء إلا هذا ما نزعت ثيابي طائعا ، ولا أجبت إلى ذلك .
قال ضمام: فبلغني أن هشام بن إسماعيل كان إذا خطب الناس يوم الجمعة تحول إليه سعيد بن المسيب بوجهه ما دام يذكر الله -عز وجل- حتى إذا رفع يذكر عبد الملك ويمدحه ويقول فيه ما يقول أعرض عنه سعيد بوجهه ، فلما فطن له هشام أمر حرسيا أن يخصب وجهه إذا تحول عنه ، ففعل ذلك به ، فقال سعيد لهشام وأشار بيده إليه: هي ثلاث نحل . فما مر به إلا ثلاثة أشهر حتى عزل هشام .
وعن الزبير بن بكار ، قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله ، قال:
كان سعيد بن المسيب لا يقبل بوجهه على هشام بن إسماعيل إذا خطب يوم الجمعة ، فأمر به هشام بعض أعوانه يعطفه عليه إذا خطب فأهوى العون يعطفه فأبى عليه فأخذه حتى عطفه ، فصاح سعيد ، يا هشام إنما [هي] أربع بعد أربع . فلما انصرف هشام قال: ويحكم جن سعيد ، فسئل سعيد: أي شيء أربع بعد أربع ، سمعت في ذلك شيئا؟ قال: لا ، فقيل: ما أردت بقولك؟ قال: إن جاريتي لما أردت المسجد ، قالت لي: إني رأيت هذه الليلة رؤيا فلا تخرج حتى أقصها عليك وتعبرها لي ، رأيت كأن موسى غطس عبد الملك في البحر ثلاث غطسات ، فمات في الثالثة ، فأولت أن عبد الملك مات ، وذلك أن موسى بعث على الجبارين بقتلهم ، وعبد الملك جبار هذه الأمة . قال: فلم قلت أربع بعد أربع؟ قال: مسافة مسير الرسول من دمشق إلى المدينة بالخبر . فمكثوا ثماني ليال ثم جاء رسول بموت عبد الملك .
تزويج بنت سعيد بن المسيب تزويج بنت سعيد
عن ابن أبي وداعة ، قال:
كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياما ، فلما جئته ، قال: أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها ، قال: ألا أخبرتنا فشهدناها . قال: ثم أردت أن أقوم فقال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله ، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة ، فقال: أنا ، فقلت: أو تفعل؟ نعم ، ثم حمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني على درهمين أو ثلاثة . قال: فقمت وما أدري [ما أصنع] من الفرح ، فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر ممن آخذ؟ وممن أستدين؟ فصليت المغرب ، وكنت وحدي ، وقدمت عشائي أفطر خبزا وزيتا ، فإذا الباب يقرع ، فقلت: من هذا؟ قال: سعيد ، قال: فأفكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب ، فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد ، فقمت فخرجت ، فإذا سعيد بن المسيب ، فإنه قد بدا له ، فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إلي فآتيك ، قال: لا ، أنت أحق أن تؤتى ، قلت: فما تأمر؟ قال: إنك كنت رجلا عزبا تزوجت فكرهت أن أبيتك الليلة وحدك ، وهذه امرأتك [قال:] فإذا هي قائمة من خلفه في طوله ، ثم أخذ بيدها فدفعها في الباب ورد الباب ، فسقطت المرأة من الحياء ، فاستوثقت من الباب ثم تقدمتها إلى القصعة التي فيها الزيت والخبز ، فوضعتها في ظل السراج لكيلا تراه ، ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران فجاءوني ، فقالوا: ما شأنك؟ قلت: ويحكم ، زوجني سعيد بن المسيب بنته اليوم وقد جاء بها على غفلة ، فقالوا: سعيد بن المسيب زوجك؟ قلت: نعم . وهو ذا هي في الدار . قال: ونزلوا هم إليها ، وبلغ أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام .
قال: فأقمت ثلاثا ثم دخلت بها ، فإذا هي من أجمل الناس ، وإذا هي أحفظ الناس لكتاب الله -عز وجل- وأعلمهم بسنة رسوله ، وأعرفهم بحق زوج . قال: فمكثت شهرا لا يأتيني سعيد ولا آتيه ، فلما كان قرب الشهر أتيت سعيدا وهو في حلقته ، فسلمت عليه ، فرد علي السلام ولم يكلمني حتى تفرق أهل المجلس ، فلم يبق غيري ، قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: خيرا يا أبا محمد على ما يحب الصديق ويكره العدو ، فقال: إن رابك شيء فالعصا . فانصرفت إلى منزلي ، فوجه إلي بعشرين ألف درهم . وقال عبد الله: وابن أبي وداعة هو كثير بن المطلب بن أبي وداعة .
قال ابن الجوزي: وكان لكثير هذا ولد يقال له كثير أيضا . روى الحديث ، وكان شاعرا ولم يكن له عقب . فأما أبو وداعة فاسمه الحارث بن صبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم . كان قد شهد بدرا مع المشركين فأسر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تمسكوا به فإن له ابنا كيسا بمكة . فخرج المطلب ففداه بأربعة آلاف درهم . وهو أول أسير فدي ، فشخص الناس بعده ففدوا أسراهم ، وكان أبوه صبيرة قد جاز الأربعين سنة بقليل ثم مات .
وعن عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير:
أن الناس مكثوا زمانا ومن جاز من قريش في السن أربعين سنة عمر ، فجازها صبيرة بن سعيد بيسير ، ثم مات فجأة ، ففزع لذلك الناس ، فناحت عليه الجن ، فقالت:
من يأمن الحدثان بعد صبيرة القرشي ماتا عجلت منيته المشيب
فكان منيته افتلاتا
حجاج بيت الله إن صبيرة القرشي ماتا
سبقت منيته المشيب كأن ميتته افتلاتا
فتزودوا لا تهلكوا من دون أهلكم خفاتا
توفي سعيد بالمدينة في هذه السنة وهو ابن أربع وثمانين سنة . قال الواقدي : توفي سعيد في سنة الفقهاء ، وهي سنة أربع وتسعين ، عن خمس وسبعين سنة . رحمه الله . طلق بن حبيب العنزي طلق بن حبيب العنزي
تابعي جليل ، روى عن أنس ، وجابر ، وابن الزبير ، وابن عباس ، وعبد الله بن عمرو ، وغيرهم ، وعنه حميد الطويل ، والأعمش وطاوس ، وهو من أقرانه ، وأثنى عليه في قراءته عمرو بن دينار ، وقد أثنى عليه غير واحد من الأئمة ، ولكن تكلموا فيه من جهة أنه كان يقول بالإرجاء .
وقد كان فيمن خرج مع ابن الأشعث ، وكان يقول : اتقوها بالتقوى . فقيل له : صف لنا التقوى . فقال : التقوى العمل بطاعة الله على نور من الله ، رجاء رحمة الله ، والتقوى ترك معاصي الله ، على نور من الله; مخافة عذاب الله .
وقال أيضا : إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد ، وإن نعمه أكثر من أن تحصى ، ولكن أصبحوا تائبين ، وأمسوا تائبين . قال مالك : قتله الحجاج وجماعة من القراء منهم سعيد بن جبير .
وقد ذكر ابن جرير فيما سبق أن خالد بن عبد الله القسري بعث من مكة ثلاثة إلى الحجاج ، وهم مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وطلق بن حبيب ، فمات طلق في الطريق ، وحبس مجاهد ، وكان من أمر سعيد ما كان ، والله أعلم .
القرشي الأسدي ، أبو عبد الله المدني عروة بن الزبير عروة بن الزبير بن العوام ،
تابعي جليل ، روى عن أبيه ، وعن العبادلة ، ومعاوية ، والمغيرة ، وأبي هريرة ، وأمه أسماء ، وخالته عائشة ، وأم سلمة ، وعنه جماعة من التابعين ، وخلق ممن سواهم .
قال محمد بن سعد : كان عروة ثقة ، كثير الحديث ، عالما مأمونا ثبتا .
وقال العجلي : مدني ، تابعي ، رجل صالح ، لم يدخل في شيء من الفتن .
وقال الواقدي : كان فقيها ، عالما ، حافظا ، ثبتا ، حجة ، عالما بالسير ، وهو أول من صنف المغازي ، وكان من فقهاء المدينة المعدودين ، ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه ، وكان أروى الناس للشعر .
وقال أبو بكر بن محمد بن الحارث بن هشام : العلم لواحد من ثلاثة : لذي حسب يزينه به ، أو ذي دين يسوس به دينه ، أو مختلط بسلطان يتحفه بعلمه . وقال : ولا أعلم أحدا أشرط لهذه الخصال الثلاث إلا عروة بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز .
وكان عروة يقرأ كل يوم ربع القرآن ، ويقوم به في الليل . وكان أيام الرطب يثلم حائطه ، ثم يأذن للناس ، فيدخلون فيأكلون ويحملون ، فإذا ذهب الرطب أعاده . وقال الزهري : كان عروة بحرا لا ينزف ، وقال مرة : كان بحرا لا تكدره الدلاء .
وقال عمر بن عبد العزيز : ما أحد أعلم من عروة ، وما أعلمه يعلم شيئا أجهله .
وقد ذكره غير واحد في فقهاء المدينة السبعة الذين ينتهى إلى قولهم . وكان من جملة الفقهاء العشرة الذين كان عمر بن عبد العزيز يرجع إلى قولهم في زمن ولايته على المدينة . وقد ذكر غير واحد أنه وفد على الوليد بدمشق ، فلما رجع أصابته في رجله الأكلة ، فأرادوا قطعها ، فعرضوا عليه أن يشرب شيئا يغيب عقله ، حتى لا يحس بالألم ، ويتمكنوا من قطعها ، فقال : ما ظننت أن أحدا يؤمن بالله يشرب شيئا يغيب عقله حتى لا يعرف ربه عز وجل ، ولكن هلموا فاقطعوها . فقطعوها من ركبته وهو صامت لا يتكلم ، ولا يسمع له حس . وروي أنهم قطعوها وهو في الصلاة فلم يشعر لشغله بالصلاة . فالله أعلم .
ووقع في هذه الليلة التي قطعت فيها رجله ولد له يسمى محمدا كان أحب أولاده من سطح فمات ، فدخلوا عليه فعزوه فيه ، فقال : اللهم لك الحمد ، كانوا سبعة فأخذت واحدا ، وأبقيت ستة ، وكن أطرافا أربعا ، فأخذت واحدة ، وأبقيت ثلاثا ، فلئن كنت قد أخذت فلقد أعطيت ، ولئن كنت قد ابتليت فلقد عافيت .
وقيل : إنه لما رأى المقطوعة في الطست ، قال : الله أعلم أني ما مشيت بها إلى معصية قط .
قيل : إنه ولد في حياة عمر . والصحيح أنه ولد بعد عمر في سنة ثلاث وعشرين ، وكانت وفاته في سنة أربع وتسعين على المشهور ، وقيل : سنة تسعين . وقيل : سنة مائة . وقيل : إحدى وتسعين . وقيل : إحدى ومائة . وقيل : سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع ، أو خمس وتسعين . وقيل : سنة تسع وتسعين . والله أعلم .
علي بن الحسين بن أبي طالب القرشي الهاشمي ، المشهور بزين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ،
وأمه أم ولد اسمها سلامة ، وكان له أخ أكبر منه يقال له : علي أيضا ، قتل مع أبيه ، روى علي هذا الحديث عن أبيه ، وعمه الحسن بن علي ، وجابر ، وابن عباس ، والمسور بن مخرمة ، وأبي هريرة ، وصفية ، وعائشة ، وأم سلمة ، أمهات المؤمنين .
وعنه جماعة ، منهم بنوه : زيد ، وعبد الله ، وعمر ، وأبو جعفر محمد بن علي الباقر ، وزيد بن أسلم ، وطاوس وهو من أقرانه ، والزهري ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وأبو سلمة ، وهو من أقرانه ، وخلق .
قال القاضي ابن خلكان : كانت أمه سلامة بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس .
وذكر الزمخشري في " ربيع الأبرار " : أن يزدجرد كان له ثلاث بنات سبين في زمن عمر بن الخطاب ، فحصلت واحدة لعبد الله بن عمر فأولدها سالما ، والأخرى لمحمد بن أبي بكر الصديق فأولدها القاسم ، والأخرى للحسين بن علي فأولدها عليا زين العابدين هذا ، فكلهم بنو خالة .
قال ابن خلكان : ولما قتل قتيبة بن مسلم فيروز بن يزدجرد بعث بابنتيه إلى الحجاج فأخذ إحداهما ، وبعث بالأخرى إلى الوليد بن عبد الملك ، فأولدها الوليد يزيد الناقص .
وذكر ابن قتيبة في كتاب " المعارف " ; أن زين العابدين هذا كانت أمه سندية ، يقال لها : سلامة . ويقال : غزالة .
وكان مع أبيه بكربلاء ، فاستبقي لصغره ، وقيل : لمرضه . فإنه كان ابن ثلاث وعشرين سنة . وقيل أكثر من ذلك . وقد هم بقتله عبيد الله بن زياد ، ثم صرفه الله عنه . وأشار بعض الفجرة على يزيد بن معاوية بقتله أيضا ، فمنعه الله تعالى من ذلك ، فلله الحمد والمنة ، ثم كان يزيد بعد ذلك يكرمه ويعظمه ، ويجلسه معه ، ولا يأكل إلا وهو عنده ، ثم بعثهم إلى المدينة مكرمين ، وكان علي بالمدينة محترما معظما .
قال الحافظ ابن عساكر : ومسجده بدمشق المنسوب إليه معروف . قلت : وهو الذي يقال له : مشهد علي شرقي جامع دمشق ، وقد استقدمه عبد الملك بن مروان مرة أخرى إلى دمشق فاستشاره في جواب ملك الروم عن بعض ما كتب إليه فيه من أمر السكة وطراز القراطيس .
قال الزهري : ما رأيت قرشيا أفضل منه ، وكان مع أبيه يوم قتل ابن ثلاث وعشرين سنة ، وهو مريض ، فقال عمر بن سعد : لا تعرضوا لهذا المريض .
وقال الواقدي : كان من أورع الناس ، وأعبدهم ، وأتقاهم لله عز وجل ، وكان إذا مشى لا يخطر بيده ، وكان يعتم بعمامة بيضاء يرخيها من ورائه ، وكان كنيته أبو الحسن ، وقيل : أبو محمد . وقيل : أبو عبد الله .
وقال محمد بن سعد : كان ثقة مأمونا ، كثير الحديث ، عاليا ، رفيعا ورعا . وأمه غزالة خلف عليها بعد الحسين مولاه زبيد ، فولدت له عبد الله بن زبيد .
وهو علي الأصغر ، فأما علي الأكبر فقتل مع أبيه ، وكذا قال غير واحد .
وقال سعيد بن المسيب ، وزيد بن أسلم ، ومالك ، وأبو حازم : لم يكن في أهل البيت مثله . وقال يحيى بن سعيد الأنصاري : سمعت علي بن الحسين وهو أفضل هاشمي أدركته يقول : يا أيها الناس ، أحبونا حب الإسلام ، فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارا . وفي رواية : حتى بغضتمونا إلى الناس .
وقال الأصمعي : لم يكن للحسين عقب إلا من علي بن الحسين ، ولم يكن لعلي بن الحسين نسل إلا من ابنة عمه الحسن ، فقال له مروان بن الحكم : لو اتخذت السراري حتى يكثر أولادك . فقال : ليس لي ما أتسرى به . فأقرضه مائة ألف ، فاشترى له السراري ، فولدن له ، وكثر نسله ، ثم لما مرض مروان أوصى أن لا يؤخذ من علي بن الحسين ما كان أقرضه ، فجميع الحسينيين من نسله . رضي الله عنه .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : أصح الأسانيد كلها الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده . وذكروا أنه احترق البيت الذي هو فيه وهو قائم يصلي ، فلما انصرف قالوا له : ما لك لم تنصرف؟ فقال : إني اشتغلت عن هذه النار بالنار الأخرى . وكان إذا توضأ يصفر لونه ، فإذا قام إلى الصلاة ارتعد من الفرق ، فقيل له في ذلك فقال : ألا تدرون بين يدي من أريد أن أقوم ولمن أناجي؟ ولما حج أراد أن يلبي ، فارتعد وقال : أخشى أن أقول لبيك اللهم لبيك . فيقول لي : لا لبيك . فشجعوه ، وقالوا : لا بد من التلبية؟ فلما لبى غشي عليه حتى سقط عن الراحلة ، وأنه كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة .
وقال طاوس : سمعته وهو ساجد عند الحجر يقول : عبيدك بفنائك ، مسكينك بفنائك ، سائلك بفنائك ، فقيرك بفنائك . قال طاوس : فوالله ما دعوت بها في كرب قط إلا كشف عني ، وذكروا أنه كان كثير الصدقة بالليل ، وكان يقول : صدقة الليل تطفئ غضب الرب . وأنه قاسم الله تعالى ماله مرتين .
وقال محمد بن إسحاق : كان ناس بالمدينة يعيشون ، لا يدرون من أين يعيشون ومن يعطيهم ، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك ، فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم في الليل بما يأتيهم به . ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجرب إلى بيوت الأرامل والمساكين في الليل . وقيل : إنه كان يعول مائة أهل بيت بالمدينة ، ولا يدرون بذلك حتى مات . ودخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد يعوده ، فبكى ابن أسامة ، فقال له : ما يبكيك؟ قال : علي دين . قال : وكم هو؟ قال : خمسة عشر ألف دينار . وفي رواية سبعة عشر ألف دينار فقال : هي علي .
وقال علي بن الحسين : كان أبو بكر ، وعمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بمنزلتهما منه بعد وفاته . ونال منه رجل يوما فجعل يتغافل عنه يريه أنه لم يسمعه فقال له الرجل : إياك أعني . فقال له علي : وعنك أغضي .
وخرج يوما من المسجد ، فسبه رجل ، فابتدر الناس إليه فقال : دعوه . ثم أقبل عليه ، فقال : ما ستر عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل ، فألقى إليه خميصة كانت عليه ، وأمر له بألف درهم ، فكان الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الأنبياء .
قالوا : واختصم علي بن الحسين وحسن بن حسن وكان بينهما منافسة فنال منه حسن بن حسن ، وهو ساكت ، فلما كان الليل ذهب علي بن الحسين إلى منزله ، فقال : يا ابن عم ، إن كنت صادقا يغفر الله لي ، وإن كنت كاذبا يغفر الله لك ، والسلام عليك . ثم رجع ، فلحقه فصالحه . وقيل له : من أعظم الناس خطرا؟ فقال : من لم يرض الدنيا لنفسه خطرا . وقال أيضا : الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته . وقال : فقد الأحبة غربة . وكان يقول : إن قوما عبدوا الله رهبة ، فتلك عبادة العبيد ، وآخرون عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار ، وآخرون عبدوه محبة وشكرا ، فتلك عبادة الأحرار الأخيار .
وقال لابنه : يا بني ، لا تصحب فاسقا; فإنه يبيعك بأكلة وأقل منها ، يطمع فيها ثم لا ينالها ، ولا بخيلا; فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه ، ولا كذابا; فإنه كالسراب يقرب منك البعيد ويباعد عنك القريب ، ولا أحمق; فإنه يريد أن ينفعك فيضرك ، ولا قاطع رحم; فإنه ملعون في كتاب الله قال الله تعالى : فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ( محمد : 22 ) .
وكان علي بن الحسين إذا دخل المسجد تخطى الناس حتى يجلس في حلقة زيد بن أسلم ، فقال له نافع بن جبير بن مطعم : غفر الله لك ، أنت سيد الناس تأتي تخطى حتى تجلس مع هذا العبد الأسود؟ فقال له علي بن الحسين : إنما يجلس الرجل حيث ينتفع ، وإن العلم يبتغى ويؤتى ، ويطلب من حيث كان . وقال الأعمش ، عن مسعود بن مالك قال : قال لي علي بن الحسين : أتستطيع أن تجمع بيني وبين سعيد بن جبير؟ فقلت : ما تصنع به؟ قال : أريد أن أسأله عن أشياء ينفعنا الله بها ، إنه ليس عندنا ما يرمينا به هؤلاء . وأشار بيده إلى العراق .
وقال الإمام أحمد : بسنده عن أبي إسحاق ، عن رزين بن عبيد قال : كنت عند ابن عباس ، فأتى علي بن الحسين فقال ابن عباس : مرحبا بالحبيب ابن الحبيب .
وقال أبو بكر بن محمد بن يحيى الصولي بسنده عن سفيان بن عيينة ، عن أبي الزبير قال : كنا عند جابر بن عبد الله ، فدخل عليه علي بن الحسين فقال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه الحسين بن علي ، فضمه إليه وقبله وأقعده إلى جنبه ، ثم قال : يولد لابني هذا ابن يقال له علي ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش : ليقم سيد العابدين ، فيقوم هو . هذا حديث غريب جدا ، أورده ابن عساكر .
وقال الزهري : كان أكثر مجالستي مع علي بن الحسين ، وما رأيت أفقه منه ، وكان قليل الحديث ، وكان من أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة ، وأحبهم إلى مروان ، وابنه عبد الملك ، وكان يسميه : زين العابدين .
وقال جويرية بن أسماء : ما أكل علي بن الحسين بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما قط ، رحمه الله ورضي عنه .
وقال محمد بن سعد بسنده عن المقبري ، قال : بعث المختار إلى علي بن الحسين بمائة ألف ، فكره أن يقبلها ، وخاف أن يردها ، فاحتبسها عنده ، فلما قتل المختار كتب إلى عبد الملك بن مروان : إن المختار بعث إلي بمائة ألف ، فكرهت أن أقبلها ، وكرهت أن أردها ، فابعث من يقبضها . فكتب إليه عبد الملك : يا ابن عم ، خذها فقد طيبتها لك . فقبلها .
وقال علي بن الحسين : سادة الناس في الدنيا الأسخياء الأتقياء ، وفي الآخرة أهل الدين وأهل الفضل والعلم ; لأن العلماء ورثة الأنبياء .
وقال أيضا : إني لأستحي من الله عز وجل أن أرى الأخ من إخواني ، فأسأل الله له الجنة ، وأبخل عليه بالدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قيل لي : لو كانت الجنة بيدك لكنت بها أبخل وأبخل وأبخل .
وذكروا أنه كان كثير البكاء ، فقيل له في ذلك فقال : إن يعقوب عليه السلام ، بكى حتى ابيضت عيناه على يوسف ، ولم يعلم أنه مات ، وإني رأيت بضعة عشر من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة ، أفترون حزنهم يذهب من قلبي أبدا؟!
وقال عبد الرزاق : سكبت جارية لعلي بن الحسين عليه ماء ليتوضأ ، فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه ، فرفع رأسه إليها ، فقالت الجارية : إن الله عز وجل يقول : والكاظمين الغيظ فقال : قد كظمت غيظي . قالت : والعافين عن الناس . فقال : قد عفا الله عنك . فقالت : والله يحب المحسنين ( آل عمران : 134 ) . قال : فاذهبي ، أنت حرة .
وقال الزبير بن بكار بسنده عن محمد بن علي ، عن أبيه قال : جلس إلي قوم من أهل العراق فذكروا أبا بكر وعمر ، فنالوا منهما ، ثم ابتدءوا في عثمان ، فقلت لهم : أخبروني ، أنتم من المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وإلى قوله : أولئك هم الصادقون ( الحشر : 8 ) ؟ قالوا : لا ، لسنا منهم . قلت : فأنتم من الذين قال الله عز وجل : والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم إلى قوله : فأولئك هم المفلحون ( الحشر : 9 ) . قالوا : لا ، لسنا منهم . قال : فقلت لهم : أما أنتم فقد تبرأتم وأقررتم وشهدتم أن تكونوا منهم ، وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة ، الذين قال الله تعالى فيهم : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ( الحشر : 10 ) قوموا عني ، لا بارك الله فيكم ، ولا قرب دوركم ، أنتم مستهزئون بالإسلام ، ولستم من أهله .
وجاء رجل فسأله : متى يبعث علي؟ فقال : يبعث والله يوم القيامة ، وتهمه نفسه .
وقال ابن أبي الدنيا : بسنده عن أبي حمزة الثمالي ، أن علي بن الحسين كان إذا خرج من بيته قال : اللهم إني أتصدق اليوم أو أهب عرضي اليوم من استحله .
وروى ابن أبي الدنيا أن غلاما سقط من يده سفود ، وهو يشوي شيئا في التنور على رأس صبي لعلي بن الحسين فقتله ، فنهض علي بن الحسين مسرعا ، فلما نظر إليه قال للغلام : يا بني ، إنك لم تتعمد أنت حر . ثم شرع في جهاز ابنه .
وقال المدائني : سمعت سفيان يقول : كان علي بن الحسين يقول : ما يسرني أن لي بنصيبي من الذل حمر النعم .
ومات لرجل ولد مسرف على نفسه ، فجزع عليه من أجل إسرافه ، فقال له علي بن الحسين إن من وراء ابنك خلالا ثلاثا : شهادة أن لا إله إلا الله ، وشفاعة رسول الله ، ورحمة الله عز وجل .
وقال المدائني : قارف الزهري ذنبا ، فاستوحش منه ، وهام على وجهه ، وترك أهله وماله ، فلما اجتمع بعلي بن الحسين قال له : يا زهري ، قنوطك من رحمة الله التي وسعت كل شيء أعظم من ذنبك . فقال الزهري : الله أعلم حيث يجعل رسالته وفي رواية أنه كان أصاب دما خطأ ، فأمره علي بالتوبة والاستغفار ، وأن يبعث الدية إلى أهله . وكان الزهري يقول : علي بن الحسين أعظم الناس علي منة .
وقال سفيان بن عيينة : كان علي بن الحسين يقول : لا يقول رجل في رجل من الخير ما لا يعلم إلا أوشك أن يقول فيه من الشر ما لا يعلم ، وما اصطحب اثنان على معصية إلا أوشك أن يفترقا على غير طاعة الله .
وذكروا أنه زوج ابنة من مولى له ، وأعتق أمة فتزوجها ، فأرسل إليه عبد الملك يلومه في ذلك ، فكتب إليه لقد كان لكم في رسول الله أسوة وقد أعتق صفية فتزوجها ، وزوج مولاه زيد بن حارثة من ابنة عمته زينب بنت جحش .
قالوا : وكان يلبس في الشتاء خميصة من خز بخمسين دينارا ، فإذا جاء الصيف تصدق بها ، ويلبس في الصيف الثياب المرقعة ودونها ، ويتلو قوله تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ( الأعراف : 32 ) .
وقد روي من طرق ذكرها الصولي والجريري وغير واحد ، أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة أبيه أو أخيه الوليد فطاف بالبيت ، فلما أراد أن يستلم الحجر لم يتمكن حتى نصب له منبر ، فاستلم وجلس عليه ، وقام أهل الشام حوله ، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين ، فلما دنا من الحجر; ليستلمه تنحى عنه الناس إجلالا له وهيبة واحتراما ، وهو في بزة حسنة ، وشكل مليح ، فقال أهل الشام لهشام : من هذا؟ فقال : لا أعرفه . لئلا يرغب فيه أهل الشام . فقال الفرزدق وكان حاضرا : أنا أعرفه . فقالوا : ومن هو؟ فأنشأ الفرزدق يقول :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
ينمى إلى ذروة العز التي قصرت عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
يغضي حياء ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
بكفه خيزران ريحها عبق من كف أروع في عرنينه شمم
مشتقة من رسول الله نبعته طابت عناصرها والخيم والشيم
ينجاب نور الهدى من نور غرته كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم
حمال أثقال أقوام إذا فدحوا حلو الشمائل تحلو عنده نعم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا
الله فضله قدما وشرفه جرى بذاك له في لوحه القلم
من جده دان فضل الأنبياء له وفضل أمته دانت لها الأمم
عم البرية بالإحسان فانقشعت عنها الغيابة والإملاق والظلم
كلتا يديه غياث عم نفعهما يستوكفان ولا يعروهما العدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره يزينه اثنان حسن الخلق والكرم
لا يخلف الوعد ميمون نقيبته رحب الفناء أريب حين يعتزم
من معشر حبهم دين وبغضهم كفر وقربهم منجى ومعتصم
يستدفع السوء والبلوى بحبهم ويسترب به الإحسان والنعم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم في كل حكم ومختوم به الكلم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم خيم كريم وأيد بالندى هضم
لا ينقص العسر بسطا من أكفهم سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
أي الخلائق ليست في رقابهم لأولية هذا أو له نعم
فليس قولك " من هذا؟ " بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم
من يعرف الله يعرف أولية ذا فالدين من بيت هذا ناله الأمم
يحبسني بين المدينة والتي إليها قلوب الناس يهوي منيبها
يقلب رأسا لم يكن رأس سيد وعينين حولاوين باد عيوبها
نراع إذا الجنائز قابلتنا ونلهو حين تمضي ذاهبات
كروعة ثلة لمغار سبع فلما غاب عادت راتعات
يا نفس حتام إلى الدنيا غرورك ، وإلى عمارتها ركونك ، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك ، ومن وارته الأرض من ألافك؟ ومن فجعت به من إخوانك ، ونقل إلى البلى من أقرانك؟
فهم في بطون الأرض بعد ظهورها محاسنهم فيها بوال دواثر
خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم وساقتهم نحو المنايا المقادر
وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها وضمتهم تحت التراب الحفائر
وأنت على الدنيا مكب منافس لخطابها فيها حريص مكاثر
على خطر تمسي وتصبح لاهيا أتدري بماذا لو عقلت تخاطر
وإن امرأ يسعى لدنياه دائبا ويذهل عن أخراه لا شك خاسر
وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى عن اللهو واللذات للمرء زاجر
أبعد اقتراب الأربعين تربص وشيب قذال منذر لك كاسر
كأنك معني بما هو صائر لنفسك عمدا أو عن الرشد جائر
وأضحوا رميما في التراب وعطلت مجالس منهم أقفرت ومقاصر
وحلوا بدار لا تزاور بينهم وأنى لسكان القبور تزاور
فما إن ترى إلا جثى قد ثووا بها مسطحة تسفي عليها الأعاصر
فما صرفت كف المنية إذ أتت مبادرة تهوي إليه الذخائر
ولا دفعت عنه الحصون التي بنى وحف بها أنهاره والدساكر
ولا قارعت عنه المنية حيلة ولا طمعت في الذب عنه العساكر
مليك عزيز لا يرد قضاؤه حكيم عليم نافذ الأمر قاهر
عنا كل ذي عز لعزة وجهه فكل عزيز للمهيمن صاغر
لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت لعزة ذي العرش الملوك الجبابر
وفي دون ما عاينت من فجعاتها إلى رفضها داع وبالزهد آمر
فجد ولا تغفل فعيشك زائل وأنت إلى دار الإقامة صائر
ولا تطلب الدنيا فإن طلابها وإن نلت منها غبة لك ضائر
ألا لا ولكنا نغر نفوسنا وتشغلنا اللذات عما نحاذر
وكيف يلذ العيش من هو موقن بموقف عدل يوم تبلى السرائر
كأنا نرى أن لا نشور وأننا سدى ما لنا بعد الممات مصائر
أما قد ترى في كل يوم وليلة يروح علينا صرفها ويباكر
؟ تعاورنا آفاتها وهمومها وكم قد ترى يبقى لها المتعاور
فلا هو مغبوط بدنياه آمن ولا هو عن تطلابها النفس قاصر
بلى أوردته بعد عز ومنعة موارد سوء ما لهن مصادر
فلما رأى أن لا نجاة وأنه هو الموت لا ينجيه منه التحاذر
تندم إذ لم تغن عنه ندامة عليه وأبكته الذنوب الكبائر
أحاطت به أحزانه وهمومه وأبلس لما أعجزته المعاذر
فليس له من كربة الموت فارج وليس له مما يحاذر ناصر
وقد جشأت خوف المنية نفسه ترددها منه اللها والحناجر
فكم موجع يبكي عليه ومفجع ومستنجد صبرا وما هو صابر
ومسترجع داع له الله مخلصا يعدد منه خير ما هو ذاكر
وكم شامت مستبشر بوفاته وعما قليل كالذي صار صائر
وظل أحب القوم كان لقربه يحث على تجهيزه ويبادر
وشمر من قد أحضروه لغسله ووجه لما قام للقبر حافر
وكفن في ثوبين واجتمعت له مشيعة إخوانه والعشائر
فلو رأيت الأصغر من أولاده ، وقد غلب الحزن على فؤاده ، وغشي من الجزع عليه ، وخضبت الدموع خديه ، وهو يندب أباه ويقول : يا ويلاه .
لعاينت من قبح المنية منظرا يهال لمرآه ويرتاع ناظر
أكابر أولاد يهيج اكتئابهم إذا ما تناساه البنون الأصاغر
ورنة نسوان عليه جوازع مدامعهم فوق الخدود غوازر
فولوا عليه معولين وكلهم لمثل الذي لاقى أخوه محاذر
كشاء رتاع آمنين بدا لها بمديته بادي الذراعين حاسر
فريعت ولم ترتع قليلا وأجفلت فلما نأى عنها الذي هو جازر
ثوى مفردا في لحده وتوزعت مواريثه أرحامه والأواصر
وأحنوا على أمواله يقسمونها فلا حامد منهم عليها وشاكر
فيا عامر الدنيا ويا ساعيا لها ويا آمنا من أن تدور الدوائر
ولم تتزود للرحيل وقد دنا وأنت على حال وشيكا مسافر
فيا لهف نفسي كم أسوف توبتي وعمري فان والردى لي ناظر
وكل الذي أسلفت في الصحف مثبت يجازي عليه عادل الحكم قادر
تخرب ما يبقى وتعمر فانيا فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر
وهل لك إن وافاك حتفك بغتة ولم تكتسب خيرا لدى الله عاذر
أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي ودينك منقوص ومالك وافر
قال الفلاس : مات سعيد بن المسيب ، وعلي بن الحسين ، وعروة ، وأبو بكر بن عبد الرحمن سنة أربع وتسعين .
وقال بعضهم : توفي ثنتين - أو ثلاث - وتسعين .
وأغرب المدائني في قوله : إنه توفي سنة تسع وتسعين . والله أعلم .
وممن توفي فيها من الأعيان :
ومن العجائب: ثلاثة كانوا في زمان واحد ، وهم بنو أعمام ، كل واحد منهم اسمه علي ، ولهم ثلاثة أولاد كل واحد اسمه محمد ، والآباء والأبناء علماء أشراف:
علي بن الحسين بن علي ، وعلي بن عبد الله بن عباس ، وعلي بن عبد الله بن جعفر .
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث
بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المدني ، أحد الفقهاء السبعة ، قيل : اسمه محمد . وقيل : اسمه أبو بكر ، وكنيته أبو عبد الرحمن . والصحيح أن اسمه وكنيته واحد ، وله من الأولاد والإخوة كثير ، وهو تابعي جليل ، روى عن عمار ، وأبي هريرة ، وأسماء بنت أبي بكر ، وعائشة ، وأم سلمة ، وغيرهم ، وعنه جماعة : منهم بنوه سلمة ، وعبد الله ، وعبد الملك ، وعمر ، ومولاه سمي ، وعامر الشعبي ، وعمر بن عبد العزيز ، وعمرو بن دينار ، ومجاهد ، والزهري .
ولد في خلافة عمر ، وكان يقال له : راهب قريش . لكثرة صلاته ، وكان مكفوفا ، وكان يصوم الدهر ، وكان من الثقة والأمانة والفقه وصحة الرواية على جانب عظيم .
وكان عبد الملك بن مروان يكرمه ويعرف فضله ، ويقول : إني أهم بالشيء أفعله بأهل المدينة; لسوء أثرهم عندنا ، فأذكر أبا بكر بن عبد الرحمن فأستحي منه ، وأترك ذلك الأمر من أجله . وله مناقب كثيرة .
قال أبو داود : وكان قد كف ، وكان إذا سجد يضع يده في طست; لعلة كان يجدها . والصحيح أنه مات في هذه السنة . وقيل : في التي قبلها . وقيل : في التي بعدها . والله أعلم .