الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

            قد تقدم أنه بويع له بالخلافة يوم الجمعة لعشر مضين وقيل : بقين من صفر من هذه السنة أعني سنة تسع وتسعين يوم مات سليمان بن عبد الملك عن عهد منه إليه من غير علم من عمر كما قدمنا وقد ظهرت عليه مخايل الورع والدين والتقشف والصيانة والنزاهة من أول حركة بدت منه; حيث أعرض عن ركوب مراكب الخلافة ، وهي الخيول الحسان الجياد المعدة لها والاجتزاء بمركوبه الذي كان يركبه ، وسكنى منزله رغبة عن منزل الخلافة . ثم أنشد يقول:


            ولولا التقى ثم النهى خشية الردى لعاصيت في حب الهوى كل زاجر     قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى
            له صبوة أخرى الليالي الغوابر

            ثم قال: إن شاء الله ، ثم خطب فقال: يا أيها الناس ، إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه ، ولا مشورة . وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم ، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك فلي أمرنا باليمن والبركة . فقال: أوصيكم بتقوى الله ، فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف ، فاعملوا لآخرتكم ، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه ، وأصلحوا سرائركم يصلح الكريم علانيتكم ، وأكثروا ذكر الموت وأحسنوا الاستعداد له قبل أن ينزل بكم ، وإن امرأ لا يذكر من آبائه فيما بينه وبين آدم أبا حيا لمعرق له في الموت .

            ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهتكت ، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت وأمر ببيعها وإدخال ثمنها في بيت المال ورد المظالم .

            وعن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، قال:

            لما بلغ الخوارج سيرة عمر وما رد من المظالم قالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل . وبلغ ذلك عمر بن الوليد بن عبد الملك ، فكتب إليه: إنك قد أزريت على من كان قبلك من الخلفاء ، وعبت عليهم وسرت بغير سيرتهم بغضا لهم وسبا لمن بعدهم من أولادهم ، قطعت ما أمر الله به أن يوصل إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم ، فأدخلتها في بيت المال جورا وعدوانا ، ولن تترك على هذا ، فلما قرأ كتابه كتب إليه:

            بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمر بن الوليد ، السلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ، أما بعد ، فإنني بلغني كتابك وسأجيبك بنحو منه: أما أول شأنك ابن الوليد كما زعم فأمك بنانة أمة السكون ، كانت تطوف في سوق حمص وتدخل في حوانيتها ، ثم الله أعلم بما اشتراها ذبيان من فيء المسلمين ، فأهداها لأبيك ، فحملت بك ، فبئس المحمول وبئس المولود . ثم نشأت فكنت جبارا عنيدا ، أتزعم أني من الظالمين لما حرمتك وأهل بيتك فيء الله عز وجل الذي فيه حق القرابة والمساكين والأرامل ، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعملك صبيا سفيها على جند المسلمين تحكم فيهم برأيك ، ولم تكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده ، فويل لك وويل لأبيك ، ما أكثر خصماءكما يوم القيامة ، وكيف ينجو أبوك من خصمائه .

            وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل الحجاج بن يوسف يسفك الدم الحرام ، ويأخذ المال الحرام . وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل قرة بن شريك أعرابيا جافيا على مصر أذن له في المعازف واللهو والشرب . وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من جعل لعالية البربرية سهما في خمس فيء العرب فرويدا يا ابن بنانة ، فلو التفت حلقتا البطان ورد الفيء إلى أهله لتفرغت لك ولأهل بيتك فوضعتهم على المحجة البيضاء ، فطالما تركتم الحق وأخذتم في بنيات الطريق ، ومن وراء هذا ما أرجو أن أكون رأيته بيع رقبتك وقسم ثمنك بين اليتامى والمساكين والأرامل فإن لكل فيك حقا ، والسلام علينا ولا ينال سلام الله الظالمين . بلد .

            وبلغ عبد العزيز بن الوليد ، وكان غائبا ، عن موت سليمان ، ولم يعلم ببيعة عمر ، فعقد لواء ودعا إلى نفسه ، فبلغه بيعة عمر بعهد سليمان ، وأقبل حتى دخل عليه ، فقال له عمر : بلغني أنك بايعت من قبلك وأردت دخول دمشق ! فقال : قد كان ذاك ، وذلك أنه بلغني أن سليمان لم يكن عهد لأحد ، فخفت على الأموال أن تنهب . فقال عمر : لو بايعت وقمت بالأمر لم أنازعك فيه ولقعدت في بيتي . فقال عبد العزيز : ما أحب أنه ولي هذا الأمر غيرك ، وبايعه ، وكان يرجى لسليمان بتوليته عمر بن عبد العزيز وترك ولده .

            فلما استقرت البيعة لعمر بن عبد العزيز قال لامرأته فاطمة بنت عبد الملك : إن أردت صحبتي فردي ما معك من مال وحلي وجوهر إلى بيت مال المسلمين ، فإنه لهم ، فإني لا أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد . فردته جميعه .

            فلما توفي عمر وولي أخوها يزيد رده عليها ، وقال : أنا أعلم أن عمر ظلمك . قالت : كلا والله . وامتنعت من أخذه ، وقالت : ما كنت أطيعه حيا وأعصيه ميتا . فأخذه يزيد وفرقه على أهله . وكان مما بادر إليه عمر عقب توليه الخلافة أن بعث إلى مسلمة بن عبد الملك ومن معه من المسلمين وهم بأرض الروم محاصرو القسطنطينية وقد اشتد عليهم الحال وضاق عليهم المجال; لأنهم عسكر كثير فكتب إليهم يأمرهم بالرجوع إلى الشام إلى منازلهم ، وبعث إليهم بطعام كثير وخيول كثيرة عتاق يقال : خمسمائة فرس . ففرح الناس بذلك .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية