لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد الشعراء إليه ، فأقاموا ببابه أياما لا يؤذن لهم . فبينا هم كذلك وقد أزمعوا على الرحيل إذ مر بهم رجاء بن حيوة - وكان من خطباء أهل الشام - فلما رآه جرير داخلا على عمر أنشأ يقول:
يا أيها الرجل المرخي عمامته هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
قال: فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئا ، ثم مر بهم عدي بن أرطاة ، فقال له جرير :يا أيها الرجل المرخي مطيته هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه أني لدى الباب كالمصفود في قرن
لا تنس حاجتنا لقيت مغفرة قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
كيف؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع بها لسانه ، قال:
أو تروي من قوله شيئا؟ قال: نعم ، فأنشده يقول:
رأيتك يا خير البرية كلها نشرت كتابا جاء بالحق معلما
[شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا عن الحق لما أصبح الحق مظلما]
ونورت بالتبيان أمرا مدلسا وأطفأت بالقرآن نارا تضرما
فمن مبلغ عني النبي محمدا وكل امرئ يجزى بما كان قدما
أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه وكان قديما ركنه قد تهدما
تعالى علوا فوق عرش إلهنا وكان مكان الله أعلا وأعظما
ثم نبهنها فهبت كعابا طفلة ما تبين رجع الكلام
ساعة ثم إنها بعد قالت ويلتا قد عجلت يا ابن الكرام
أعلى غير موعد جئت تسري تتخطى إلي رءوس النيام
هما دلياني من ثمانين قامة كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا أحي يرجى أم مثيل نحاذره
ولست بصائم رمضان طوعا ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عيسا بكور إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بزائر بيتا بعيدا بمكة أبتغي فيه صلاحي
ولست بقائم كالعير أدعو قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولا وأسجد عند منبلج الصباح
الله بيني وبين سيدها يفر مني بها وأتبعه
ألا ليتنا نحيا جميعا وإن أمت يوافق في الموتى ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب إذا قيل قد سوي عليها صفيحها
طرقتك صائدة القلوب فليس ذا حين الزيارة فارجعي بسلام
إن الذي بعث النبي محمدا جعل الخلافة للإمام العادل
وسع الخلائق عدله ووفاؤه حتى ارعوى فأقام ميل المائل
إني لأرجو منك خيرا عاجلا والنفس مولعة بحب العاجل
أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت أم قد كفاني بما بلغت من خبري
كم باليمامة من شعثاء أرملة ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن يعدك تكفي فقد والده كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
يدعوك دعوة ملهوف كأن به خبلا من الجن أو مسا من البشر
خليفة الله ماذا تأمرون بنا لسنا إليكم ولا في دار منتظر
ما زلت بعدك في هم يؤرقني قد طال في الحي إصعادي ومنحدري
لا ينفع الحاضر المجهود بادينا ولا يعود لنا باد على حضر
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا من الخليفة ما نرجو من المطر
نال الخلافة إذ كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
الخير ما دمت حيا لا يفارقنا بوركت يا عمر الخيران من عمر
قال: وقد ذكر أنه قال له: ويحك يا جرير لقد ولينا هذا الأمر وما نملك إلا ثلاثمائة درهم ، فمائة أخذها عبد الله ، ومائة أخذتها أم عبيد الله ، يا غلام أعطه المائة الباقية .
قال: فأخذها وقال: والله لهي أحب من كل ما اكتسبته .
قال: ثم خرج ، فقال له الشعراء: ما وراءك؟ قال: ما يسركم ، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويعطي الشعراء ، وإني عنه لراض ، وأنشأ يقول:
رأيت رقى الشيطان لا يستفزه وقد كان شيطاني من الجن راقيا
ثم قال: أعوذ بالله ، أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر عيبتي ، وتبدو مسكنتي في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق . ثم بكى حتى ظننا أنه قاض نحبه ، وارتج المسجد بالبكاء والعويل ، فرجعت إلى أصحابي فقلت: خذوا في شرح من الشعر غير ما [كنا] نقول لعمه وآبائه ، فإن الرجل أخروي وليس بدنيوي إلى أن استأذن لنا مسلمة يوم جمعة ، فأذن لنا بعد ما أذن للعامة ، فلما دخلت سلمت ، ثم قلت: يا أمير المؤمنين ، طال الثواء وقلت الفائدة ، وتحدثت بجفائك إيانا وفود العرب ، فقال: يا كثير ، إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل أفي واحد من هؤلاء أنت؟ فقلت:
ابن سبيل منقطع [به] وأنا صاحبك ، قال: أولست ضيف أبي سعيد؟ قلت: بلى ، [قال:] ما أرى من كان ضيفه منقطعا به ، قلت: أفتأذن لي في الإنشاد يا أمير المؤمنين؟ قال: [قل] ولا تقل إلا حقا ، فقلت:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف بريا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي أتيت فأمسى راضيا كل مسلم
وقد لبست لبس الهلوك ثيابها تراءى لك الدنيا بوجه ومعصم
وتومض أحيانا بعين مريضة وتبسم عن مثل الجمان المنظم
فأعرضت عنها مشمئزا كأنما سقتك مذوقا من سمام وعلقم
وقد كنت من أجبالها في ممنع ومن بحرها في مزبد الموج مفعم
فلما أتاك الملك عفوا ولم يكن لطالب دنيا بعده من تكلم
تركت الذي يفنى وإن كان مونقا وآثرت ما يبقى برأي مصمم
سما لك هم في الفؤاد مؤرق بلغت به أعلى البناء المقدم
فما بين شرق الأرض والغرب كلها مناد ينادي من فصيح وأعجم
يقول: أمير المؤمنين ظلمتني بأخذ لدينار ولا أخذ درهم
ولا بسط كف بامرئ غير مجرم ولا السفك منه ظالما ملء محجم
فأ?ربح بها من صفقة لمتابع وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم
وما الشعر إلا خطبة من مؤلف بمنطق حق أو بمنطق باطل
فلا تقبلن إلا الذي وافق الرضا ولا ترجعنا كالنساء الأرامل
رأيناك لم تعدل عن الحق يمنة ولا شامة فعل الظلوم المجادل
ولكن أخذت القصد جهدك كله تقفو مثال الصالحين الأوائل
فقلنا ولم نكذب بما قد بدا لنا ومن ذا يرد الحق من قول قائل
ومن ذا يرد السهم بعد مضائه على فوقه إن عار من نزع نابل
ولولا الذي قد عودتنا خلائف غطاريف كانت كالليوث البواسل
لما وخدت شهرا برجلي رسلة تغل متون البيد بين الرواحل
فإن لم يكن للشعر عندك موضع وإن كان مثل الدر من قول قائل
فإن لنا قربى ومحض مودة وميراث آباء مشوا بالمناصل
فذادوا عمود الشرك عن عقر دارهم وأرسوا عمود الدين بعد التمايل
وقبلك ما أعطى هنيدة جلة على الشعر كعبا من سديس وبازل
رسول الإله المستضاء بنوره عليه سلام بالضحى والأصائل
فكل الذي عددت يكفيك بعضه ونيلك خير من بحور سوائل