قال محمد بن يحيى الذهلي :بسنده عن الزهري قال : كان لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، فلما ولي معاوية ورث المسلم من الكافر ، ولم يورث الكافر من المسلم ، وأخذ بذلك الخلفاء من بعده ، فلما قام عمر بن عبد العزيز راجع السنة الأولى ، وتبعه في ذلك يزيد بن عبد الملك فلما قام هشام أخذ بسنة الخلفاء . يعني أنه ورث المسلم من الكافر .
وقال الوليد بن مسلم ، عن ابن جابر قال : بينما نحن عند مكحول إذ أقبل يزيد بن عبد الملك فهممنا أن نوسع له ، فقال مكحول : دعوه يجلس حيث انتهى به المجلس ، يتعلم التواضع .
وقد كان يزيد هذا يكثر من مجالسة العلماء قبل أن يلي الخلافة ، فلما ولي عزم أن يتأسى بعمر بن عبد العزيز فما تركه قرناء السوء ، وحسنوا له الظلم ، كما قال حرملة بسنده عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال : لما ولي يزيد بن عبد الملك قال : سيروا بسيرة عمر . فمكث كذلك أربعين ليلة ، فأتي بأربعين شيخا ، فشهدوا له أنه ما على الخلفاء من حساب ولا عذاب .
وقد اتهمه بعضهم في الدين ، وليس بصحيح ، إنما ذاك ولده الوليد بن يزيد ، أما هذا فما كان به بأس ، وقد كتب إليه عمر بن عبد العزيز : أما بعد ، فإني لا أراني إلا لما بي ، وما أرى الأمر إلا سيفضي إليك ، فالله الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ; فإنك عما قليل ميت ، فتدع الدنيا لمن لا يحمدك ، وتفضي إلى من لا يعذرك ، والسلام .
وكتب يزيد بن عبد الملك إلى أخيه هشام : أما بعد ، فإن أمير المؤمنين قد بلغه أنك استبطأت حياته ، وتمنيت وفاته ، ورمت الخلافة . وكتب في آخره :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد وقد علموا لو ينفع العلم عندهم
متى مت ما الباغي علي بمخلد منيته تجري لوقت وحتفه
يصادفه يوما على غير موعد فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى
تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
وكان يزيد من فتيانهم ، فقال يوما وقد طرب وعنده حبابة وسلامة القس : دعوني أطير . قالت حبابة : على من تدع الأمة ؟ قال : عليك ، قيل وغنته يوما :
وبين التراقي واللهاة حرارة ما تطمئن وما تسوغ فتبردا
فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد
وكل خليل زارني فهو قائل من أجلك هذا هامة اليوم أو غد
كفى حزنا بالهائم الصب أن يرى منازل من يهوى معطلة قفرا
ولما مات يزيد لم يعلم بموته حتى ناحت سلامة فقالت :
لا تلمنا إن خشعنا أو هممنا بخشوع قد لعمري بت ليلي كأخي الداء الوجيع
ثم بات الهم مني دون من لي بضجيع للذي حل بنا اليوم من الأمر الفظيع
كلما أبصرت ربعا خاليا فاضت دموعي قد خلا من سيد كان لنا غير مضيع
وأخبار يزيد مع سلامة وحبابة كثيرة ، ليس هذا موضع ذكرها .
وإنما قيل لسلامة [ سلامة ] القس ، لأن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار أحد بني جشم بن معاوية بن بكير كان فقيها عابدا مجتهدا في العبادة ، وكان يسمى القس لعبادته ، مر يوما بمنزل مولاها ، فسمع غناءها ، فوقف يسمعه ، فرآه مولاها ، فقال له : هل لك أن تنظر وتسمع ؟ فأبى ، فقال : أنا أقعدها بمكان لا تراها ، وتسمع غناءها ، فدخل معه فغنته ، فأعجبه غناؤها ، ثم أخرجها مولاها إليه ، فشغف بها وأحبها ، وأحبته هي أيضا ، وكان شابا جميلا . فقالت له يوما على خلوة : أنا والله أحبك ! قال : وأنا والله أحبك ! قالت : وأحب أن أقبلك ! قال : وأنا والله ! قالت : وأحب أن أضع بطني على بطنك ! قال : وأنا والله ! قالت : فما يمنعك ؟ قال : قول الله تعالى : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين وأنا أكره أن تؤول خلتنا إلى عداوة ، ثم قام ، وانصرف عنها ، وعاد إلى عبادته ، وله فيها أشعار ، منها :
ألم ترها لا يبعد الله دارها إذا طربت في صوتها كيف تصنع
تمد نظام القول ثم ترده إلى صلصل من صوتها يترجع
ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر
ألا ليت أني حيث صارت بها النوى جليس لسلمى كلما عج مزهر
إذا أخذت في الصوت كاد جليسها يطير إليها قلبه حين ينظر