الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر وفاته وترجمته ، رحمه الله .

            اسمه ونسبه وشيء من صفته وصفاته هو هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ، أبو الوليد القرشي الأموي الدمشقي ، أمير المؤمنين . وأمه أم هشام بنت هشام بن إسماعيل المخزومي وكانت داره بدمشق عند باب الخواصين وبعضها اليوم مدرسة نور الدين الشهيد التي يقال لها : النورية الكبيرة . وتعرف بدار القبابين يعني الذين يبيعون القباب . وهي الخيام ، والله أعلم . وقد بويع له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن عبد الملك بعهد منه إليه ، وذلك يوم الجمعة لأربع بقين من شعبان سنة خمس ومائة ، وكان له من العمر يومئذ أربع وثلاثون سنة ، وكان جميلا أبيض أحول ، يخضب بالسواد ، وهو الرابع من ولد عبد الملك لصلبه الذين ولوا الخلافة ، وقد كان عبد الملك رأى في المنام كأنه بال في المحراب أربع مرات ، فدس إلى سعيد بن المسيب من سأله عنها ، ففسرها له بأنه يلي الخلافة من ولده أربعة ، فوقع ذلك ، فكان هشام آخرهم ، وكان في خلافته حازم الرأي ، جماعا للأموال يبخل ، وكان ذكيا مدبرا ، له بصر بالأمور جليلها وحقيرها ، وكان فيه حلم وأناة ، شتم مرة رجلا من الأشراف ، فقال : أتشتمني وأنت خليفة الله في الأرض ؟ فاستحيا وقال : اقتص مني بدلها . أو قال : بمثلها . فقال : إذن أكون سفيها مثلك . قال : فخذ عوضا منها . قال : لا أفعل . قال : فاتركها لله . قال : هي لله ، ثم لك . فقال هشام عند ذلك : والله لا أعود إلى مثلها .

            وقال الأصمعي : أسمع رجل هشاما كلاما ، فقال له : أتقول لي مثل هذا وأنا خليفتك ؟

            وغضب مرة على رجل ، فقال له : اسكت وإلا ضربتك سوطا .

            وكان علي بن الحسين قد اقترض من مروان بن الحكم مالا ; أربعة آلاف دينار ، فلم يتعرض له أحد من بني مروان حتى استخلف هشام فقال : ما فعل حقنا قبلك ؟ قال : موفور مشكور . فقال : هو لك .

            وكان هشام من أكره الناس لسفك الدماء ، ولقد دخل عليه من مقتل زيد بن علي وابنه يحيى أمر شديد ، وقال : وددت أني افتديتهما بجميع ما أملك .

            مواقفه وآثاره وعن بشر مولى هشام قال : أتي هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط . فقال : اكسرو الطنبور على رأسه وقرنه . فبكى الشيخ . قال بشر : فضربه ، فقلت له وأنا أعزيه : عليك بالصبر .

            فقال : أتراني أبكي للضرب ، إنما أبكي لاحتقاره البربط حتى سماه طنبورا .

            قال : وأغلظ لهشام رجل يوما في الكلام فقال : ليس لك أن تقول هذا لإمامك .

            قال : وتفقد أحد ولده يوم الجمعة ، فبعث إليه : ما لك لم تشهد الجمعة ؟ فقال : إن بغلتي عجزت عني . فبعث إليه : أما كان يمكنك المشي . ومنعه أن يركب سنة .

            وذكر المدائني أن رجلا أهدى إلى هشام طيرين ، فأوردهما السفير إلى هشام وهو جالس على سرير في وسط داره ، فقال له : أرسلهما في الدار . فأرسلهما ، ثم قال : جائزتي يا أمير المؤمنين . فقال : ويحك ! وما جائزتك على هدية طيرين ؟ خذ أحدهما . فجعل الرجل يسعى خلف أحدهما ، فقال : ويحك ! ما لك ؟ فقال : أختار أجودهما . قال : وتختار أيضا الجيد وتترك الرديء ؟ ثم أمر له بأربعين أو خمسين درهما .

            وعن قحذم كاتب يوسف بن عمر قال : بعثني يوسف إلى هشام بياقوتة حمراء ولؤلؤة كانتا لرائقة جارية خالد بن عبد الله القسري مشترى الياقوتة ثلاثة وسبعون ألف دينار . قال : فدخلت عليه وهو على سرير فوقه فرش لم أر رأس هشام من علو تلك الفرش ، فأوردتها له ، فقال : كم زنتهما ؟ فقلت : إن مثل هذه لا مثل لها . فسكت .

            قالوا : ورأى قوما يفرطون الزيتون ، فقال : القطوه لقطا ، ولا تنفضوه نفضا ، فتفقأ عيونه وتنكسر غصونه .

            وكان يقول : ثلاثة لا يضعن الشريف ; تعاهد الصنيعة ، وإصلاح المعيشة ، وطلب الحق وإن قل .

            وقال أبو بكر الخرائطي : يقال : إن هشاما لم يقل من الشعر سوى هذا البيت :


            إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى إلى كل ما فيه عليك مقال

            وقد روي له شعر غير هذا .

            ورعه عن أموال المسلمين وزهده فيها وعن عقال بن شبة قال : دخلت على هشام وعليه قباء فنك أخضر ، فوجهني إلى خراسان 72 ، ثم جعل يوصيني وأنا أنظر إلى القباء ، ففطن ، فقال : ما لك ؟ قلت : رأيت عليك قباء فنك أخضر قبل أن تلي الخلافة ، فجعلت أتأمل هذا ; أهو ذاك أم غيره ؟ قال : هو والله الذي لا إله غيره ذاك ، ما لي قباء غيره ، وأما ما ترون من جمعي لهذا المال وصونه فإنه لكم . قال عقال : وكان هشام محشوا عقلا.

            وقال عبد الله بن علي عم السفاح : جمعت دواوين بني أمية فلم أر أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام .

            وقال المدائني ، عن غسان بن عبد الحميد : لم يكن أحد من بني مروان أشد نظرا في أمر أصحابه ودواوينه ، ولا أشد مبالغة في الفحص عنهم من هشام .

            قتل هشام غيلان القدري وهو الذي قتل غيلان القدري  ولما أحضر بين يديه قال له : ويحك ! قل ما عندك ، إن كان حقا اتبعناه ، وإن كان باطلا رجعت عنه . فناظره ميمون بن مهران فقال لميمون : أشاء الله أن يعصى ؟ فقال له ميمون : أيعصى الله كارها  ؟ فسكت غيلان ، فقيده حينئذ هشام وقتله .

            وقال الأصمعي ، عن أبي الزناد ، عن منذر بن أبي ثور قال : أصبنا في خزائن هشام اثني عشر ألف قميص ، كلها قد أثر بها .

            وشكى هشام إلى أبيه ثلاثا ; إحداها أنه يهاب الصعود على المنبر ، والثانية ، قلة تناول الطعام ، والثالثة ، أن عنده في القصر مائة جارية لا يكاد يصل إلى واحدة منهن . فكتب إليه أبوه : أما صعودك على المنبر فإذا علوت فوقه فارم ببصرك إلى مؤخر الناس فإنه أهون عليك ، وأما قلة الطعام فمر الطباخ فليكثر الألوان ، فلعلك أن تتناول من كل لون لقمة ، وعليك بكل بيضاء بضة ذات جمال وحسن .

            ما ورد في ذكر مدة ملك هشام وقال أبو بكر بن أبي خيثمة بسنده عن عمر بن علي قال : مشيت مع محمد بن علي - يعني ابن الحسين بن علي بن أبي طالب - إلى داره عند الحمام ، فقلت له : إنه قد طال ملك هشام وسلطانه ، وقد قرب من العشرين سنة ، وقد زعم الناس أن سليمان سأل ربه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فزعم الناس أنها العشرون . فقال : ما أدري ما أحاديث الناس ، ولكن أبي حدثني ، عن أبيه ، عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لن يعمر الله ملكا في أمة نبي مضى قبله ما بلغ ذلك النبي من العمر في أمته فإن الله عمر نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة بمكة وعشرا بالمدينة .

            وقال أبو بكر بن أبي خيثمة : ليس حديث فيه توقيت غير هذا، وقد رواه ابن جرير في " تاريخه"

            وعن عبد الله بن الزبير ، أنه سمع عليا يقول : هلاك ملك بني أمية على يد رجل أحول . يعني هشاما .

            وقال أبو عبد الله الشافعي : لما بنى هشام بن عبد الملك الرصافة قال : أحب أن أخلو بها يوما لا يأتيني فيه خبر غم . فما انتصف النهار حتى أتته ريشة دم من بعض الثغور فقال : ولا يوما واحدا ؟ ورويت هذه الحكاية من وجه آخر ، وأنه لم يمكث بعد ذلك إلا شهرا واحدا .

            وقال سفيان بن عيينة : كان هشام لا يكتب إليه بكتاب فيه ذكر الموت .

            وروى أبو بكر بن أبي الدنيا بسنده عن سالم كاتب هشام بن عبد الملك قال : خرج علينا يوما هشام وعليه كآبة ، وقد ظهر عليه الحزن ، فاستدعى الأبرش بن الوليد فجاءه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما لي أراك هكذا ؟ فقال : ما لي لا أكون وقد زعم أهل العلم بالنجوم أني أموت إلى ثلاث وثلاثين من يومي هذا . قال : فكتبنا ذلك ، فلما كان آخر ليلة من ذلك جاءني رسوله في الليل يقول : أحضر معك دواء للذبحة ، وكانت قد أصابته قبل ذلك فاستعمل منه فعوفي ، فذهبت إليه ومعي ذلك الدواء ، فتناوله وهو في وجع شديد ، واستمر فيه عامة الليل ، ثم قال : يا سالم اذهب إلى منزلك فقد وجدت خفة ، وذر الدواء عندي . فذهبت ، فما هو إلا أن وصلت إلى منزلي حتى سمعت الصياح عليه ، فإذا هو قد مات .

            وذكر غيره أن هشاما نظر إلى أولاده وهم يبكون حوله ، فقال : جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء ، وترك لكم ما جمع ، وتركتم عليه ما كسب ، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له .

            وفاة هشام بن عبد الملك وعمره ومدة خلافته وكانت وفاته بالرصافة يوم الأربعاء لست بقين من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة ، وهو ابن بضع وخمسين سنة ، وقيل : إنه جاوز الستين . وصلى عليه الوليد بن يزيد بن عبد الملك الذي ولي الخلافة بعده ، وكانت خلافة هشام تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وأحد عشر يوما . وقيل : وثمانية أشهر وأيام . فالله أعلم .

            وكان نقش خاتمه : الحكم للحكم الحكيم .

            وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ترفع زينة الدنيا سنة خمس وعشرين ومائة قال ابن أبي فديك : زينتها نور الإسلام وبهجته. وقال غيره: يعني الرجال . والله أعلم .

            قلت : لما مات هشام تولى ملك بني أمية واضطرب أمرهم جدا ، وإن كان قد تأخرت أيامهم بعده نحوا من سبع سنين ، ولكن في اختلاف وهيج ، وما زالوا حتى خرجت عليهم بنو العباس فاستلبوهم نعمتهم وملكهم ، وقتلوا منهم خلقا ، وسلبوهم الخلافة.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية