الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر وقعة أبي حمزة الخارجي بقديد

            في هذه السنة لسبع بقين من صفر كانت الوقعة بقديد بين أهل المدينة وأبي حمزة الخارجي .

            قد ذكرنا أن عبد الواحد بن سليمان ضرب البعث على أهل المدينة ، واستعمل عليهم عبد العزيز بن عبد الله ، فخرجوا ، فلما كانوا بالحرة لقيتهم جزر منحورة فتقدموا ، فلما كانوا بالعقيق تعلق لواؤهم بسمرة فانكسر الرمح ، فتشاءم الناس بالخروج ، وأتاهم رسل أبي حمزة يقولون : إننا والله ما لنا بقتالكم حاجة ، دعونا نمض إلى عدونا . فأبى أهل المدينة ولم يجيبوه إلى ذلك ، وساروا حتى نزلوا قديدا ، وكانوا مترفين ليسوا بأصحاب حرب ، فلم يشعروا إلا وقد خرج عليهم أصحاب أبي حمزة من الفضاض فقتلوهم ، وكانت المقتلة بقريش ، وفيهم كانت الشوكة ، فأصيب منهم عدد كثير ، وقدم المنهزمون المدينة فكانت المرأة تقيم النوائح على حميمها ومعها النساء ، فما تبرح النساء حتى تأتيهن الأخبار عن رجالهن ، فيخرجن امرأة امرأة ، كل واحدة منهن تذهب لقتل رجلها ، فلا تبقى عندها امرأة لكثرة من قتل .

            وقيل : إن خزاعة دلت أبا حمزة على أصحاب قديد ، وقيل : كان عدة القتلى سبعمائة . ذكر دخول أبي حمزة المدينة

            وفي هذه السنة دخل أبو حمزة المدينة ثالث عشر صفر ، ومضى عبد الواحد منها إلى الشام ، وكان أبو حمزة قد أعذر إليهم وقال لهم : ما لنا بقتالكم حاجة ، دعونا نمض إلى عدونا . فأبى أهل المدينة ، فلقيهم فقتل منهم خلقا كثيرا ، ودخل المدينة فرقي المنبر وخطبهم وقال لهم : يا أهل المدينة ! مررت زمان الأحول ، يعني هشام بن عبد الملك ، وقد أصاب ثماركم عاهة فكتبتم إليه تسألونه أن يضع عنكم خراجكم ففعل ، فزاد الغني غنى والفقير فقرا ، فقلتم له : جزاك الله خيرا ، فلا جزاكم الله خيرا ولا جزاه خيرا ! واعلموا يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديارنا أشرا ولا بطرا ولا عبثا ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه ، ولا لثأر قديم نيل منا ، ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد عطلت ، وعنف القائل بالحق ، وقتل القائم بالقسط ، ضاقت علينا الأرض بما رحبت ، وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن ، فأجبنا داعي الله ، ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض ، فأقبلنا من قبائل شتى ، ونحن قليلون مستضعفون في الأرض ، فآوانا وأيدنا بنصره فأصبحنا بنعمته إخوانا ، ثم لقينا رجالكم [ بقديد ] فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن ، فدعونا إلى طاعة الشيطان وحكم بني مروان ، فشتان لعمر الله ما بين الغي والرشد ، ثم أقبلوا يهرعون وقد ضرب الشيطان فيهم بجرانه وغلت بدمائهم مراجله وصدق عليهم ظنه ، وأقبل أنصار الله - عز وجل - عصائب وكتائب بكل مهند ذي رونق ، فدارت رحانا واستدارت رحاهم بضرب يرتاب به المبطلون ، وأنتم يا أهل المدينة إن تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ويشف صدور قوم مؤمنين . يا أهل المدينة أولكم خير أول ، وآخركم شر آخر ! يا أهل المدينة أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله - عز وجل - في كتابه على القوي والضعيف ، فجاء تاسع ليس له فيها سهم فأخذها لنفسه مكابرا محاربا ربه .

            يا أهل المدينة بلغني أنكم تنتقصون أصحابي ! قلتم شباب أحداث وأعراب حفاة ! ويحكم ! وهل كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا شبابا أحداثا وأعرابا حفاة ؟ [ هم ] والله مكتهلون في شبابهم ، غضيضة عن الشر أعينهم ، ثقيلة عن الباطل أقدامهم . وأحسن السيرة مع أهل المدينة واستمال حتى سمعوه يقول : من زنى فهو كافر ، ومن سرق فهو كافر ، ومن شك في كفرهما فهو كافر .

            وأقام أبو حمزة بالمدينة ثلاثة أشهر . ذكر قتل أبي حمزة الخارجي

            ثم إن أبا حمزة ودع أهل المدينة وقال لهم : يا أهل المدينة إنا خارجون إلى مروان ، فإن نظفر نعدل في إخوانكم ونحملكم على سنة نبيكم ، وإن يكن ما تتمنون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .

            ثم سار نحو الشام ، وكان مروان قد انتخب من عسكره أربعة آلاف فارس ، واستعمل عليهم عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي ، سعد هوازن ، وأمره أن يجد السير ، وأمره أن يقاتل الخوارج ، فإن هو ظفر بهم يسير حتى يبلغ اليمن ويقاتل عبد الله بن يحيى طالب الحق .

            فسار ابن عطية فالتقى أبا حمزة بوادي القرى ، فقال أبو حمزة لأصحابه : لا تقاتلوهم حتى تختبروهم . فصاحوا بهم : ما تقولون في القرآن والعمل به ؟ فقال ابن عطية : نضعه في جوف الجوالق . فقال : فما تقولون في مال اليتيم ؟ قال ابن عطية : نأكل ماله ونفجر بأمه ، في أشياء سألوه عنها . فلما سمعوا كلامه قاتلوه حتى أمسوا وصاحوا : ويحك يابن عطية ! إن الله قد جعل الليل سكنا فاسكن . فأبى وقاتلهم حتى قتلهم ، وانهزم أصحاب أبي حمزة ، من لم يقتل ، وأتوا المدينة ، فلقيهم فقتلهم ، وسار ابن عطية إلى المدينة فأقام شهرا .

            وفيمن قتل مع أبي حمزة عبد العزيز القارئ المدني المعروف بيشبكست النحوي ، وكان من أهل المدينة ، يكتم مذهب الخوارج ، فلما دخل أبو حمزة المدينة انضم إليه ، فلما قتل الخوارج قتل معهم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية