الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر قتل المسترشد بالله وخلافة الراشد بالله

            لما قبض المسترشد بالله أبو منصور بن الفضل بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد - على ما ذكرناه - أنزله السلطان مسعود في خيمة ، ووكل به من يحفظه ، وقام بما يجب من الخدمة ، وترددت الرسل بينهما في الصلح وتقرير القواعد على مال يؤديه الخليفة وأن لا يعود يجمع العساكر ، وأن لا يخرج من داره ، فأجاب السلطان إلى ذلك ، وأركب الخليفة ، وحمل الغاشية بين يديه ، ولم يبق إلا أن يعود إلى بغداد .

            فوصل الخبر أن الأمير قران خوان قد قدم رسولا من السلطان سنجر ، فتأخر مسير المسترشد لذلك ، وخرج الناس والسلطان مسعود إلى لقائه ، وفارق الخليفة بعض من كان موكلا به ، وكانت خيمته منفردة عن العسكر ، فقصده أربعة وعشرون رجلا من الباطنية ، ودخلوا عليه فقتلوه ، وجرحوه ما يزيد على عشرين جراحة ، ومثلوا به فجدعوا أنفه وأذنيه ، وتركوه عريانا ، وقتل معه نفر من أصحابه ، منهم أبو عبد الله بن سكينة ، وكان قتله يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة على باب مراغة ، وبقي حتى دفنه أهل مراغة .

            وأما الباطنية فقتل منهم عشرة ، وقيل :

            بل قتلوا جميعهم ، والله أعلم .

            وكان عمره لما قتل ثلاثا وأربعين سنة وثلاثة أشهر ، وكانت خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يوما ، وأمه أم ولد ، وكان شهما شجاعا ، كثير الإقدام ، بعيد الهمة ، وأخباره المذكورة تدل على ما ذكرناه .

            وكان فصيحا بليغا حسن الخط ، ولقد رأيت خطه في غاية الجودة ، ورأيت أجوبته على الرقاع من أحسن ما يكتب وأفصحه . الصلاة على المسترشد بالله

            فلما كان يوم الجمعة تاسع ذي الحجة صلى على المسترشد في بيت النوبة ، ونودي في بغداد بالصلاة عليه ، فحضر الناس فلم يسعهم المكان ، وأم الناس الراشد ، وخرج الناس في العيد على العادة وتكاثر البكاء على المسترشد عند رؤية الأعلام والموكب . ذكر شيء من ترجمة المسترشد رحمه الله

            كان المسترشد شجاعا مقداما بعيد الهمة ، فصيحا بليغا عذب الكلام حسن الإيراد مليح الخط ، كثير العبادة ، محببا إلى العامة والخاصة ، وهو آخر خليفة رئي خطيبا ، قتل وعمره ثلاث وأربعون سنة ، وثلاثة أشهر ، وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يوما ، وكانت أمه أم ولد من الأتراك . ذكر شيء من شعر المسترشد

            ومن شعره:


            أنا الأشقر المدعو بي في الملاحم ومن يملك الدنيا بغير مزاحم     ستبلغ أرض الروم خيلي وتنتضى
            بأقصى بلاد الصين بيض صوارمي

            ومن شعره لما أسر:


            ولا عجبا للأسد إن ظفرت بها     كلاب الأعادي من فصيح وأعجم
            فحربة وحشي سقت حمزة الردى     وموت علي من حسام ابن ملجم

            وله لما كسر، وأشير عليه بالهزيمة فلم يفعل، وثبت حتى أسر:


            قالوا تقيم وقد أحا     ط بك العدو ولا تفر
            فأجبتهم: المرء ما     لم يتعظ بالوعظ غر
            لا نلت خيرا ما حييـ     ـت ولا عداني الدهر شر
            إن كنت أعلم أن غيـ     ـر الله ينفع أو يضر

            خطبة المسترشد في عيد أضحى ومدح أبي المظفر له

            قال الذهبي : وقد خطب الناس يوم عيد أضحى فقال: الله أكبر ما سحت الأنواء، وأشرق الضياء، وطلعت ذكاء، وعلت على الأرض السماء.

            الله أكبر ما همع سحاب، ولمع سراب، وأنجح طلاب، وسر قادما إياب... وذكر خطبة بليغة.

            ثم جلس، ثم قام فخطب وقال: اللهم; أصلحني في ذريتي، وأعني على ما وليتني، وأوزعني شكر نعمتك، ووفقني وانصرني، فلما أنهاها وتهيأ للنزول... بدره أبو المظفر الهاشمي، فأنشده:


            عليك سلام الله يا خير من علا     على منبر قد حف أعلامه النصر
            وأفضل من أم الأنام وعمهم     بسيرته الحسنى وكان له الأمر
            وأفضل أهل الأرض شرقا ومغربا     ومن جده من أجله نزل القطر
            لقد شنفت أسماعنا منك خطبة     وموعظة فصل يلين لها الصخر
            ملأت بها كل القلوب مهابة     فقد رجفت من خوف تخويفها مصر
            وزدت بها عدنان مجدا مؤثلا     فأضحى لها بين الأنام بك الفخر
            وسدت بني العباس حتى لقد غدا     يباهي بك السجاد والعلم البحر
            فلله عصر أنت فيه إمامه     ولله دين أنت فيه لنا الصدر
            بقيت على الأيام والملك كلما     تقادم عصر أنت فيه أتى عصر
            وأصبحت بالعيد السعيد مهنأ     تشرفنا فيه صلاتك والنحر

            وقال وزيره جلال الدين الحسن بن علي بن صدقة يمدحه:


            وجدت الورى كالماء طعما ورقة     وأن أمير المؤمنين زلاله
            وصورت معنى العقل شخصا مصورا     وأن أمير المؤمنين مثاله
            ولولا مكان الدين والشرع والتقى     لقلت من الإعظام: جل جلاله

            التالي السابق


            الخدمات العلمية