ذكر
في هذه السنة سار ملك الألمان من بلاده في خلق كثير وجمع عظيم من الفرنج عازما على قصد بلاد الإسلام ، وهو لا يشك في ملكها بأيسر قتال لكثرة جموعه ، وتوفر أمواله وعدده ، فلما وصل إلى الشام قصده من به من الفرنج وخدموه ، وامتثلوا أمره ونهيه ، فأمرهم بالمسير معه إلى دمشق ليحصرها ويملكها بزعمه ، فساروا معه ونازلوها وحصروها ، وكان صاحبها مجير الدين أبق بن بوري بن طغدكين ، وليس له من الأمر شيء ، وإنما الحكم في البلد لمعين الدين أنر مملوك جده طغدكين ، وهو الذي أقام مجير الدين ; وكان معين الدين عاقلا ، وعادلا ، خيرا ، حسن السيرة ، فجمع العساكر وحفظ البلد . حصر الفرنج دمشق وما فعل سيف الدين غازي بن زنكي
وأقام الفرنج يحاصرونهم ، ثم إنهم زحفوا سادس ربيع الأول بفارسهم وراجلهم ، فخرج إليهم أهل البلد والعسكر فقاتلوهم ، وصبروا لهم ، وفيمن خرج للقتال الفقيه حجة الدين يوسف بن دي ناس الفندلاوي المغربي ، وكان شيخا كبيرا ، فقيها عالما ، فلما رآه معين الدين ، وهو راجل ، قصده وسلم عليه ، وقال له : يا شيخ ، أنت معذور لكبر سنك ، ونحن نقوم بالذب عن المسلمين ، وسأله أن يعود ، فلم يفعل وقال له : قد بعت واشترى مني ، فوالله لا أقلته ولا استقلته ، فعنى قول الله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة .
وتقدم فقاتل حتى قتل عند النيرب نحو نصف فرسخ عن دمشق .
وقوي الفرنج وضعف المسلمون ، فتقدم ملك الألمان حتى نزل بالميدان الأخضر ، فأيقن الناس بأنه يملك البلد . وكان معين الدين قد أرسل إلى سيف الدين غازي بن أتابك زنكي يدعوه إلى نصرة المسلمين ، وكف العدو عنهم ، فجمع عساكره وسار إلى الشام ، واستصحب معه أخاه نور الدين محمودا من حلب ، فنزلوا بمدينة حمص ، وأرسل إلى معين الدين يقول له : قد حضرت ومعي كل من يحمل السلاح في بلادي ، فأريد أن يكون نوابي بمدينة دمشق لأحضر وألقى الفرنج ، فإن انهزمت دخلت أنا وعسكري البلد واحتمينا به ، وإن ظفرت فالبلد لكم لا أنازعكم فيه .
فأرسل إلى الفرنج يتهددهم إن لم يرحلوا عن البلد ، فكف الفرنج عن القتال خوفا من كثرة الجراح ، وربما اضطروا إلى قتال سيف الدين ، فأبقوا على نفوسهم ، فقوي أهل البلد على حفظه ، واستراحوا من لزوم الحرب ، وأرسل معين الدين إلى الفرنج الغرباء : إن ملك المشرق قد حضر ، فإن رحلتم ، وإلا سلمت البلد إليه ، وحينئذ تندمون ; وأرسل إلى فرنج الشام يقول لهم : بأي عقل تساعدون هؤلاء علينا ، وأنتم تعلمون أنهم إن ملكوا دمشق أخذوا ما بأيديكم من البلاد الساحلية ، وأما أنا فإن رأيت الضعف عن حفظ البلد سلمته إلى سيف الدين ، وأنتم تعلمون أنه ملك دمشق لا يبقى لكم معه مقام في الشام ، فأجابوه إلى التخلي عن ملك الألمان ، وبذل لهم تسليم حصن بانياس إليهم .
واجتمع الساحلية بملك الألمان ، وخوفوه من سيف الدين وكثرة عساكره وتتابع الأمداد إليه ، وأنه ربما أخذ دمشق وتضعف عن مقاومته ، ولم يزالوا به حتى رحل عن البلد ، وتسلموا قلعة بانياس ، وعاد الفرنج الألمانية إلى بلادهم من وراء القسطنطينية ، وكفى الله المؤمنين شرهم .
وقد ذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق : أن بعض العلماء حكى له أنه رأى الفندلاوي في المنام ، فقال له : ما فعل الله بك : وأين أنت ؟ فقال : غفر لي ، وأنا في جنات عدن على سرر متقابلين . ومدينة دمشق لا سبيل للأعداء من الكفرة عليها ; لأنها المحلة التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها معقل الإسلام عند الملاحم والفتن ، وبها ينزل عيسى ابن مريم ، وقد كان الفرنج قتلوا خلقا كثيرا من أهل دمشق وممن قتلوا : الفقيه الكبير الملقب حجة الدين شيخ المالكية بها أبو الحجاج يوسف بن دوناس الفندلاوي بأرض النيرب ، ودفن بمقابر باب الصغير .