الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين باطنا
في سنة سبع وستين وخمسمائة جرت أمور أوجبت أن تأثر نور الدين من صلاح الدين ، ولم يظهر ذلك ، وكان سببه أن صلاح الدين يوسف بن أيوب سار عن مصر في صفر من هذه السنة إلى بلاد الفرنج غازيا ، ونازل حصن الشوبك ، وبينه وبين الكرك يوم ، وحصره ، وضيق على من به من الفرنج ، وأدام القتال ، وطلبوا الأمان واستمهلوه عشرة أيام ، فأجابهم إلى ذلك .
فلما سمع نور الدين بما فعله صلاح الدين سار عن دمشق قاصدا بلاد الفرنج أيضا ليدخل إليها من جهة أخرى ، فقيل لصلاح الدين : إن دخل نور الدين بلاد الفرنج ، وهم على هذه الحال : أنت من جانب ونور الدين من جانب ، ملكها ، ومتى زال الفرنج عن الطريق وأخذ ملكهم لم يبق بديار مصر مقام مع نور الدين ، وإن جاء نور الدين إليك وأنت ها هنا ، فلا بد لك من الاجتماع به ، وحينئذ يكون هو المتحكم فيك بما شاء ، إن شاء تركك ، وإن شاء عزلك ، فقد لا تقدر على الامتناع عليه ، والمصلحة الرجوع إلى مصر .
فرحل عن الشوبك عائدا إلى مصر ، ولم يأخذه من الفرنج ، وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال البلاد المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعته العلويين ، وأنهم عازمون على الوثوب بها ، فإنه يخاف عليها من البعد عنها أن يقوم أهلها على من تخلف بها ، فيخرجوهم وتعود ممتنعة ، وأطال الاعتذار ، فلم يقبلها نور الدين منه ، وتغير عليه وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها .
وتولية غيره ولما بلغ هذا الخبر صلاح الدين ضاق بذلك ذرعه ، وذكر ذلك بحضرة الأمراء والكبراء فبادر ابن أخيه تقي الدين عمر فقال : والله لو قصدنا نور الدين لنقاتلنه ، فشتمه الأمير نجم الدين أيوب والد الملك صلاح الدين وأسكته ثم قال لابنه اسمع ما أقول لك : والله ما هاهنا أحد أشفق عليك مني ومن خالك هذا ، يعني شهاب الدين الحارمي ، ولو رأينا نور الدين لبادرنا إليه ولقبلنا الأرض بين يديه ، وكذلك بقية الأمراء ، ولو كتب إلي أن أبعثك إليه مع نجاب لفعلت ، ثم أمر من هنالك بالانصراف والذهاب ، فلما خلا بابنه ، قال له : أما لك عقل ؟ تذكر مثل هذا بحضرة هؤلاء ، فيقول عمر مثل هذا الكلام فتقره عليه فلا يبقى عند نور الدين أهم من قصدك وقتالك ، ولو قد رآه هؤلاء لم يبق معك منهم أحد ، ولكن ابعث إليه ، وترفق له ، وتواضع عنده ، وقل له : وأي حاجة إلى مجيء مولانا ؟ ابعث إلي بنجاب حتى أجيء معه إلى بين يديك ، فبعث إليه بذلك ، فلما سمع نور الدين مثل هذا الكلام لان قلبه له ، وانصرفت همته عنه ، واشتغل بغيره ، وكان أمر الله قدرا مقدورا