الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين باطنا  

            في سنة سبع وستين وخمسمائة جرت أمور أوجبت أن تأثر نور الدين من صلاح الدين ، ولم يظهر ذلك ، وكان سببه أن صلاح الدين يوسف بن أيوب سار عن مصر في صفر من هذه السنة إلى بلاد الفرنج غازيا ، ونازل حصن الشوبك ، وبينه وبين الكرك يوم ، وحصره ، وضيق على من به من الفرنج ، وأدام القتال ، وطلبوا الأمان واستمهلوه عشرة أيام ، فأجابهم إلى ذلك .

            فلما سمع نور الدين بما فعله صلاح الدين سار عن دمشق قاصدا بلاد الفرنج أيضا ليدخل إليها من جهة أخرى ، فقيل لصلاح الدين : إن دخل نور الدين بلاد الفرنج ، وهم على هذه الحال : أنت من جانب ونور الدين من جانب ، ملكها ، ومتى زال الفرنج عن الطريق وأخذ ملكهم لم يبق بديار مصر مقام مع نور الدين ، وإن جاء نور الدين إليك وأنت ها هنا ، فلا بد لك من الاجتماع به ، وحينئذ يكون هو المتحكم فيك بما شاء ، إن شاء تركك ، وإن شاء عزلك ، فقد لا تقدر على الامتناع عليه ، والمصلحة الرجوع إلى مصر .

            فرحل عن الشوبك عائدا إلى مصر ، ولم يأخذه من الفرنج ، وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال البلاد المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعته العلويين ، وأنهم عازمون على الوثوب بها ، فإنه يخاف عليها من البعد عنها أن يقوم أهلها على من تخلف بها ، فيخرجوهم وتعود ممتنعة ، وأطال الاعتذار ، فلم يقبلها نور الدين منه ، وتغير عليه وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها .

            وتولية غيره ولما بلغ هذا الخبر صلاح الدين ضاق بذلك ذرعه ، وذكر ذلك بحضرة الأمراء والكبراء فبادر ابن أخيه تقي الدين عمر فقال : والله لو قصدنا نور الدين لنقاتلنه ، فشتمه الأمير نجم الدين أيوب والد الملك صلاح الدين وأسكته ثم قال لابنه اسمع ما أقول لك : والله ما هاهنا أحد أشفق عليك مني ومن خالك هذا ، يعني شهاب الدين الحارمي ، ولو رأينا نور الدين لبادرنا إليه ولقبلنا الأرض بين يديه ، وكذلك بقية الأمراء ، ولو كتب إلي أن أبعثك إليه مع نجاب لفعلت ، ثم أمر من هنالك بالانصراف والذهاب ، فلما خلا بابنه ، قال له : أما لك عقل ؟ تذكر مثل هذا بحضرة هؤلاء ، فيقول عمر مثل هذا الكلام فتقره عليه فلا يبقى عند نور الدين أهم من قصدك وقتالك ، ولو قد رآه هؤلاء لم يبق معك منهم أحد ، ولكن ابعث إليه ، وترفق له ، وتواضع عنده ، وقل له : وأي حاجة إلى مجيء مولانا ؟ ابعث إلي بنجاب حتى أجيء معه إلى بين يديك ، فبعث إليه بذلك ، فلما سمع نور الدين مثل هذا الكلام لان قلبه له ، وانصرفت همته عنه ، واشتغل بغيره ، وكان أمر الله قدرا مقدورا

            التالي السابق


            الخدمات العلمية