الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ملك ولده الملك الصالح

            لما توفي نور الدين قام ابنه الملك الصالح إسماعيل بالملك بعده . وكان عمره إحدى عشرة سنة ، فاختلف الأمراء ، وحارت الآراء ، وظهرت الشرور ، وكثرت الخمور ، وانتشرت الفواحش حتى إن ابن أخيه سيف الدين غازي بن مودود صاحب الموصل لما تحقق موت عمه - وكان محصورا منه - نادى مناديه بالبلد بالمسامحة في اللعب واللهو والشراب والطرب ، ومع المنادي دف وقدح ومزمار ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وقد كان ابن أخيه هذا وغيره من الملوك والأمراء الذين له حكم عليهم لا يستطيع أحد منهم أن يفعل شيئا من المناكر والفواحش ، فلما مات مرج أمرهم وعاثوا في الأرض فسادا وتحقق قول الشاعر :


            ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر

            وطمعت الأعداء من كل جانب في المسلمين. وحلف له - الملك الصالح إسماعيل - الأمراء والمقدمون بدمشق ، وأقام بها ، وأطاعه الناس بالشام وصلاح الدين بمصر ، وخطب له بها ، وضرب السكة باسمه ، وتولى تربيته الأمير شمس [ الدين ] محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم ، وصار مدبر دولته . فقال له كمال الدين بن الشهرزوري ولمن معه من الأمراء : قد علمتم أن صلاح الدين صاحب مصر هو من مماليك نور الدين ونوابه أصحاب نور الدين ، والمصلحة أن نشاوره في الذي نفعله ، ولا نخرجه من بيننا فيخرج عن طاعتنا ، ويجعل ذلك حجة علينا ، وهو أقوى منا ، لأنه قد انفرد اليوم بملك مصر ، فلم يوافق هذا القول أغراضهم ، وخافوا أن يدخل صلاح الدين ويخرجهم ، فلم يمض غير قليل حتى وردت كتب صلاح الدين إلى الملك الصالح يعزيه ويهنئه بالملك ، وأرسل دنانير مصرية عليها اسمه ويعرفه أن الخطبة والطاعة له كما كانت لأبيه .

            فلما سار سيف الدين غازي ، صاحب الموصل ، وملك البلاد الجزرية ، على ما نذكره ، أرسل صلاح الدين أيضا إلى الملك الصالح يعتبه حيث لم يعلمه قصد سيف الدين بلاده وأخذها ، ليحضر في خدمته ويكف سيف الدين ، وكتب إلى كمال الدين والأمراء يقول : لو أن نور الدين يعلم أن فيكم من يقوم مقامي ، أو يثق به مثل ثقته بي لسلم إليه مصر التي هي أعظم ممالكه وولاياته ، ولو لم يعجل عليه الموت لم يعهد إلى أحد بتربية ولده والقيام بخدمته غيري ، وأراكم قد تفردتم بمولاي وابن مولاي دوني ، وسوف أصل إلى خدمته ، وأجازي إنعام والده بخدمة يظهر أثرها ، وأجازي كلا منكم على سوء صنيعه في ترك الذب عن بلاده .

            وتمسك ابن المقدم وجماعة الأمراء بالملك الصالح ، ولم يرسلوه إلى حلب ، خوفا أن يغلبهم عليه شمس الدين علي بن الداية ، فإنه أكبر الأمراء النورية ، وإنما منعه من الاتصال به والقيام بخدمته مرض لحقه ، وكان هو وإخوته بحلب ، وأمرها إليهم ، وعساكرها معهم في حياة نور الدين وبعده ، ولما عجز عن الحركة أرسل إلى الملك الصالح يدعوه إلى حلب ليمنع به البلاد الجزرية من سيف الدين ابن عمه قطب الدين ، فلم يمكنه الأمراء الذين معه من الانتقال إلى حلب .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية