الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وفاة الملك الصالح وملك ابن عمه عز الدين مسعود مدينة حلب  

            في سنة سبع وسبعين وخمسمائة، في رجب ، توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب ، وعمره نحو تسع عشرة سنة وكانت بقلعة حلب ودفن بها ، وكان سبب وفاته - فيما قيل - أن الأمير علم الدين سليمان بن جندر سقاه سما في عنقود عنب في الصيد ، وقيل : بل سقاه ياقوت الأسدي في شراب . وقيل : في خشكنانجة . فاعتراه قولنج فما زال كذلك حتى مات ، رحمه الله ، وهو شاب حسن الصورة ، بهي المنظر ، ولم يبلغ عشرين سنة ، وكان من أعف الملوك ، ومن أشبه أباه فما ظلم ، وصف له الأطباء في مرضه شرب الخمر ، فاستفتى بعض الفقهاء في شربها تداويا ، فأفتاه بذلك ، فقال له : أيزيد شربها في أجلي ، أو ينقص منه شيئا ؟ قال : لا . قال : فوالله لا أشربها فألقى الله وقد شربت ما حرمه علي . فلما أيس من نفسه ، أحضر الأمراء ، وسائر الأجناد ، ووصاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي ، واستحلفهم على ذلك ، فقال له بعضهم : إن عماد [ الدين ] ابن عمك أيضا ، وهو زوج أختك ، وكان والدك يحبه ويؤثره ، وهو تولى تربيته ، وليس له غير سنجار ، فلو أعطيته البلد لكان أصلح ، وعز الدين له [ من البلاد ] من الفرات إلى همذان ، ولا حاجة به إلى بلدك ، فقال له : إن هذا لم يغب عني ، ولكن قد علمتم أن صلاح الدين قد تغلب على عامة بلاد الشام سوى ما بيدي ، ومتى سلمت حلب إلى عماد الدين يعجز عن حفظها وإن ملكها صلاح الدين لم يبق لأهلنا معه مقام ، وإن سلمتها إلى عز الدين أمكنه حفظها بكثرة عساكره وبلاده .

            فاستحسنوا قوله وعجبوا من جودة فطنته مع شدة مرضه وصغر سنه .

            ثم مات ، وكان حليما كريما ، عفيف اليد والفرج واللسان ، ملازما للدين ، لا يعرف له شيء مما يتعاطاه الملوك والشباب من شرب خمر أو غيره ، حسن السيرة في رعيته عادلا فيهم .

            ولما قضى نحبه أرسل الأمراء إلى أتابك عز الدين يستدعونه إلى حلب ، فسار هو ومجاهد الدين قايماز إلى الفرات ، وأرسل فأحضر الأمراء عنده من حلب ، فحضروا ، وساروا جميعا إلى حلب ، ودخلها في العشرين من شعبان ، وكان صلاح الدين حينئذ بمصر ، ولولا ذلك لزاحمهم عليها وقاتلهم ، فلما اجتاز في طريقه إليها من الفرات كان تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين بمدينة منبج ، فسار عنها هاربا إلى حماة ، وثار أهل حماة ، ونادوا بشعار عز الدين ، فأشار عسكر حلب على عز الدين بقصد دمشق ، وأطمعوه فيها وفي غيرها من بلاد الشام ، وأعلموه محبة أهلها له ولأهل بيته ، فلم يفعل ، وقال : بيننا يمين فلا نغدر به ، وأقام بحلب عدة شهور ، وتزوج بأم الملك الصالح في شوال ، ثم سار إلى الرقة فنزلها.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية