الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            عود صلاح الدين إلى بلد الموصل والصلح بينه وبين أتابك عز الدين

            لما فرغ صلاح الدين من أمر ميافارقين ، وأحكم قواعدها ، وقرر إقطاعاتها وولاياتها فوصل إلى كفر زمار ، أجمع على العود إلى الموصل ، فسار نحوها ، وجعل طريقه على نصيبين ، فوصل إلى كفر زمار ، والزمان شتاء .

            فنزلها في عساكره ، وعزم على المقام بها وإقطاع جميع بلاد الموصل ، وأخذ غلالها ودخلها ، وإضعاف الموصل بذلك ، إذ علم أنه لا يمكنه التغلب عليها ، وكان نزوله في شعبان ، وأقام بها شعبان ورمضان ، وترددت الرسل بينه وبين عز الدين ، صاحب الموصل ، وصار مجاهد الدين يراسل ويتقرب ، وكان قوله مقبولا عند سائر الملوك لما علموا من صحته .

            فبينما الرسل تتردد في الصلح ، إذ مرض صلاح الدين ، مرضا شديدا ، وهو يتجلد ولا يظهر شيئا من التألم حتى قوي عليه الأمر وتزايد الحال ، حتى وصل إلى حران فخيم هنالك من شدة ألمه ، وشاع ذلك في البلاد ، فخاف الناس عليه وأرجف الكفرة والملحدون ، وخاف أهل البر والمؤمنون ، وقصده أخوه أبو بكر العادل من حلب بالأطباء والأدوية ، فوجده في غاية الضعف ، وأشار عليه بأن يوصي ويعهد ، فقال : ما أبالي وأنا أترك من بعدي أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - يعني أخاه العادل صاحب حلب وتقي الدين عمر صاحب حماة وهو إذ ذاك نائب مصر وهو بها مقيم ، وابنيه العزيز عثمان والأفضل عليا - ثم نذر لله تعالى لئن شفاه الله من مرضه هذا ليصرفن همته كلها إلى قتال الكفار ، ولا يقاتل بعد ذلك مسلما ، وليجعلن أكبر همه فتح بيت المقدس ولو صرف في سبيل ذلك جميع ما يملكه من الأموال والذخائر وليقتلن البرنس صاحب الكرك بيده ; وذلك لأنه نقض العهد الذى عاهد السلطان عليه فغدر بقافلة من تجار مصر ، فأخذ أموالهم ، وضرب رقابهم صبرا بين يديه ، وهو يقول : أين محمدكم ينصركم ؟ وكان هذا النذر كله بإشارة القاضي الفاضل ، رحمه الله ، وهو الذي أرشده إلى ذلك وحثه عليه ، حتى عقده مع الله عز وجل ، فشفاه الله عز وجل ، وعافاه مما كان ابتلاه به من ذلك المرض الذي كان فيه ; كفارة لذنوبه ورفع لدرجته ونصرة للإسلام وأهله ، وجاءت البشائر بذلك من كل ناحية ، وزينت البلاد ، ولله الحمد والمنة .

            وكتب القاضي الفاضل من دمشق وهو مقيم بها إلى المظفر تقي الدين عمر نائب مصر لعمه الناصر ; أن العافية الناصرية قد استفاضت أخبارها ، وأنوارها وآثارها ، وولت العلة ، ولله الحمد ، وأطفئت نارها ، وانجلى غبارها ، وخمد شرارها ، وما كانت إلا فلتة وقى الله شرها ، وعظيمة كفى الله الإسلام أمرها ، ونوبة امتحن الله بها نفوسنا ، فرأى أقل ما عندها صبرها ، وما كان الله ليضيع الدعاء وقد أخلصته القلوب ، ولا ليوقف الإجابة وإن سدت طريقها الذنوب ، ولا ليخلف وعد فرج وقد أيس الصاحب والمصحوب .


            نعي زاد فيه الدهر ميما فأصبح بعد بؤساه نعيما     وما صدق النذير به لأني
            رأ‍يت الشمس تطلع والنجوما

            وقد استقبل مولانا السلطان الملك الناصر العافية غضة جديدة ، والعزمة ماضية حديدة ، والنشاط إلى الجهاد ، والجنة مبسوطة البساط ، وقد انقضى الحساب وجزنا الصراط ، وعرضنا نحن على الأهوال التي من خوفها كاد الجمل يلج في سم الخياط . وسار صلاح الدين من كفر زمار عائدا إلى حران ، فلحقه الرسل بالإجابة إلى ما طلب ، فتقرر الصلح ، وحلف على ذلك ، وكانت القاعدة أن يسلم إليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية القرابلي ، وجميع ما وراء الزاب من الأعمال .

            وأن يخطب له على منابر بلاده ، ويضرب اسمه على السكة ، فلما حلف أرسل رسله فحلف عز الدين له ، وتسلموا البلاد التي استقرت القاعدة على تسميتها .

            ووصل صلاح الدين إلى حران ، فأقام بها مريضا ، وأمنت الدنيا ، وسكنت الدهماء ، وانحسمت مادة الفتن ، وكان ذلك بتوصل مجاهد الدين قايماز ، رحمه الله .

            وأما صلاح الدين فإنه طال مرضه بحران ، وكان عنده من أهله أخوه الملك العادل ، وله حينئذ حلب ، وولده الملك العزيز عثمان ، واشتد مرضه حتى أيسوا من عافيته ، فحلف الناس لأولاده ، وجعل لكل منهم شيئا من البلاد معلوما ، وجعل أخاه العادل وصيا على الجميع ، ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق في المحرم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة .

            ولما كان مريضا بحران كان عنده ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه ، وله من الأقطاع حمص والرحبة ، فسار من عنده إلى حمص ، فاجتاز بحلب وأحضر جماعة من أحداثها وأعطاهم مالا ، ولما وصل إلى حمص راسل جماعة من الدمشقيين وواعدهم على تسليم البلد إليه إذا مات صلاح الدين ، وأقام بحمص ينتظر موته ليسير إلى دمشق فيملكها ، فعوفي وبلغه الخبر على جهته .

            فلم يمض غير قليل حتى مات ابن شيركوه ليلة عيد الأضحى فإنه شرب الخمر وأكثر منها ، فأصبح ميتا ، فذكروا ، والعهدة عليهم ، أن صلاح الدين وضع عليه إنسانا يقال له الناصح بن العميد ، وهو من دمشق ، فحضر عنده ، ونادمه وسقاه سما .

            فلما أصبحوا من الغد لم يروا الناصح ، فسألوا عنه ، فقيل : إنه سار من ليلته إلى صلاح الدين ، فكان هذا مما قوى الظن ، فلما توفي أعطى أقطاعه لولده شيركوه ، وعمره اثنتا عشرة سنة ، وخلف ناصر الدين من الأموال والخيل والآلات شيئا كثيرا ، فحضر صلاح الدين في حمص واستعرض تركته ، وأخذ أكثرها ولم يترك إلا ما لا خير فيه .

            وبلغني أن شيركوه بن ناصر الدين حضر عند صلاح الدين ، بعد موت أبيه بسنة ، فقال له : إلى أين بلغت من القرآن ؟ فقال : إلى قوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا فعجب صلاح الدين والحاضرون من ذكائه .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية