الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            انهزام الفرنج بحطين  

            وفي سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة

            كانت وقعة حطين
             التي كانت أمارة ومقدمة وبشارة لفتح بيت المقدس على المؤمنين ، واستنقاذه من أيدي الكافرين وقد أصبح صلاح الدين والمسلمون يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر ، فركبوا وتقدموا إلى الفرنج ، فتواجه هنالك الجيشان وتقابل الفريقان ، وأسفر وجه الإيمان ، واغبر وأقتم وجه الكفران والخسران وذلك عشية يوم الجمعة ، وبات الناس على مصافهم وكان يوما عسيرا على أهل يوم الأحد ، وذلك لخمس بقين من ربيع الآخر في شدة الحر ، وطلعت الشمس على وجوه النصارى وهم من شدة الحر سكارى وما هم بسكارى ، وكان تحت أقدام خيولهم هشيم حشيش ، فأمر السلطان النفاطة ، فرموه فتأجج تحت سنابك خيولهم نارا ، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش ، وحر النار من تحت أرجلهم ، وحر رشق السهام عن القسي القاسية ، فتبارز الشجعان في حومة الوغى ، ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة ، فكان النصر من الله عز وجل ، فمنحهم الله أكتاف الكفرة الفجرة ودنا بعضهم من بعض ، إلا أن الفرنج قد اشتد بهم العطش وانخذلوا ، فاقتتلوا ، واشتد القتال ، وصبر الفريقان ، ورمى جاليشية المسلمين من النشاب ما كان كالجراد المنتشر ، فقتلوا من خيول الفرنج كثيرا .

            هذا القتال بينهم ، والفرنج قد جمعوا نفوسهم براجلهم وهم يقاتلون سائرين ، نحو طبرية ، لعلهم يردون الماء .

            فلما علم صلاح الدين مقصدهم صدهم عن مرادهم ، ووقف بالعسكر في وجوههم ، وطاف بنفسه على المسلمين يحرضهم ، ويأمرهم بما يصلحهم ، وينهاهم عما يضرهم ، والناس يأتمرون لقوله ، ويقفون عند نهيه .

            فحمل مملوك من مماليكه الصبيان حملة منكرة على صف الفرنج ، فقاتل قتالا عجب منه الناس . ثم تكاثر الفرنج عليه فقتلوه ، فحين قتل حمل المسلمون حملة منكرة فضعضعوا الكفار وقتلوا منهم كثيرا .

            فلما رأى القمص شدة الأمر علم أنهم لا طاقة لهم بالمسلمين ، فاتفق هو وجماعته وحملوا على من يليهم ، وكان المقدم من المسلمين ، في تلك الناحية ، تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين ، فلما رأى حملة الفرنج حملة مكروب ، علم أنه لا سبيل إلى الوقوف في وجوههم . فأمر أصحابه أن يفتحوا لهم طريقا يخرجون منه ، ففعلوا فخرج القمص وأصحابه ثم التأم الصف .

            فلما انهزم القمص سقط في أيديهم وكادوا يستسلمون ، ثم علموا أنهم لا ينجيهم من الموت إلا الإقدام عليه ، فحملوا حملات متداركة كادوا يزيلون [ بها ] المسلمين ، على كثرتهم ، عن مواقفهم لولا لطف الله بهم .

            إلا أن الفرنج لا يحملون حملة فيرجعون إلا وقد قتل منهم ، فوهنوا لذلك وهنا عظيما ، فأحاط بهم المسلمون إحاطة الدائرة بقطرها ، فارتفع من بقي من الفرنج إلى تل بناحية حطين ، وأرادوا أن ينصبوا خيامهم ، ويحموا نفوسهم به ، فاشتد القتال عليهم من سائر الجهات ، ومنعوهم عما أرادوا ، ولم يتمكنوا من نصب خيمة غير خيمة ملكهم .

            وأخذ المسلمون صليبهم الأعظم الذي يسمونه صليب الصلبوت ، الذي يزعمون أنه الذي صلب عليه المصلوب ، وقد غلفوه بالذهب واللآلئ والجواهر النفسية ، وكان يوما على الكافرين عسيرا ، ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله ، ودمغ الباطل وذله ، حتى إنه ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم وهو يقود نيفا وثلاثين أسيرا من الفرنج ، قد ربطهم بطنب خيمة ، وباع بعضهم أسيرا بنعل لبسها في رجله ، وجرت أمور لم يسمع بمثلها ولا وقعت العيون على شكلها ، فلله الحمد دائما حمدا كثيرا طيبا . هذا والقتل والأسر يعملان في فرسانهم ورجالتهم ، فبقي الملك على التل في مقدار مائة وخمسين فارسا من الفرسان المشهورين والشجعان المذكورين .

            فحكي لي عن الملك الأفضل - ولد صلاح الدين - قال : كنت إلى جانب أبي في ذلك المصاف ، وهو أول مصاف شاهدته ، فلما صار ملك الفرنج على التل في تلك الجماعة حملوا حملة منكرة على من بإزائهم من المسلمين حتى ألحقوهم بوالدي .

            قال : فنظرت إليه ، وقد علته كآبة ، واربد لونه ، وأمسك بلحيته ، وتقدم ، وهو يصيح : كذب الشيطان ، قال : فعاد المسلمون على الفرنج ، فرجعوا إلى التل ، فلما رأيت الفرنج قد عادوا ، والمسلمون يتبعونهم ، صحت من فرحي : هزمناهم ! فعاد الفرنج فحملوا حملة ثانية مثل الأولى حتى ألحقوا المسلمين بوالدي ، وفعل مثل ما فعل أولا .

            وعطف المسلمون عليهم فألحقوهم بالتل ، فصحت أنا أيضا : هزمناهم ! فالتفت والدي إلي وقال : اسكت ! ما نهزمهم حتى تسقط تلك الخيمة ، قال : فهو يقول لي ، وإذا الخيمة قد سقطت ، فنزل السلطان وسجد شكرا لله تعالى ، وبكى من فرحه .

            وكان سبب سقوطها أن الفرنج لما حملوا تلك الحملات ازدادوا عطشا ، وقد كانوا يرجون الخلاص في بعض تلك الحملات مما هم فيه ، فلما لم يجدوا إلى الخلاص طريقا ، نزلوا عن دوابهم وجلسوا على الأرض ، فصعد المسلمون إليهم ، فألقوا خيمة الملك ، وأسروهم على بكرة أبيهم ، وفيهم الملك وأخوه ، والبرنس أرناط ، صاحب الكرك ، ولم يكن للفرنج أشد منه عداوة للمسلمين .

            وأسروا أيضا صاحب جبيل ، وابن هنفري ، ومقدم الداوية ، وكان من أعظم الفرنج شأنا ، وأسروا أيضا جماعة من الداوية ، وجماعة من الاسبتارية ، وكثر القتل والأسر فيهم ، فكان من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحدا ، ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا أحدا ، وما أصيب الفرنج ، منذ خرجوا إلى الساحل ، وهو سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى الآن ، بمثل هذه الوقعة .

            ولما تمت هذه الوقعة العظيمة والنعمة العميمة الجسيمة ، أمر السلطان بضرب مخيم عظيم ، وجلس فيه على سرير المملكة وعن يمينه أسرة وعن يساره مثلها ، وجيء بالأسارى تتهادى في قيودها ، فضربت أعناق جماعة من مقدمي الداوية والإسبتارية بين يديه صبرا ، ولم يترك منهم من كان يذكر الناس عنه ذكرا ، ثم جيء بالملوك فأجلسوا عن يمينه ويساره على مراتبهم ، فأجلس ملكهم الكبير عن يمينه ، وتحته أرناط إبرنس الكرك - قبحه الله تعالى - وبين يديه بقية الملوك وعن يساره ، فجيء السلطان بشراب مثلوج من الجلاب ، فشرب ثم ناول الملك فشرب ، ثم ناول ملكهم أرناط فشرب ، فغضب السلطان ، وقال : إنما سقيتك ولم آمرك أن تسقيه ، هذا لا عهد له عندي . ثم تحول السلطان إلى خيمة داخل الخيمة واستدعى أرناط ، فلما أوقف بين يديه قام إليه بالسيف وقال : نعم أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتصار لأمته . ثم دعاه إلى الإسلام فامتنع ، فقتله وأرسل برأسه إلى الملوك ، وقال : إن هذا تعرض لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلته ، ثم قتل السلطان جميع من كان من الأسارى من الداوية والإسبتارية صبرا ، وأراح الله المسلمين من هذين الجنسين الخبيثين ، ولم يسلم ممن عرض عليه الإسلام إلا القليل ، فيقال : إنه بلغت القتلى ثلاثين ألفا ، وكذلك الأسارى كانوا ثلاثين ألفا ، وكان جملة جيش الفرنج ثلاثة وستين ألفا ، ومن سلم منهم - مع قلتهم - أكثرهم جرحى ، فماتوا ببلادهم بعد رجوعهم ، وممن مات كذلك قومص طرابلس فإنه انهزم جريحا فمات ببلده بعد مرجعه ، لعنه الله ، ثم أرسل برؤساء الأسارى ورءوس أعيان القتلى ، وبصليب الصلبوت صحبة القاضي ابن أبي عصرون إلى دمشق ليودعوا في قلعتها ، فدخل بالصليب منكوسا ، فكان يوما مشهودا ، ولله الحمد والمنة . مدح صلاح الدين بسبب انتصار حطين وقد امتدح الشعراء الملك صلاح الدين بسبب وقعة حطين فقالوا وأكثروا ، وأطابوا وأطنبوا ، وكتب إليه القاضي الفاضل من دمشق - وكان مقيما بها لمرض ناله - : ليهن المولى أن الله قد أقام به الدين القيم ، وأنه كما قيل : أصبحت مولاي ومولى كل مسلم . وأنه قد أسبغ عليه النعمتين ; الباطنة والظاهرة ، وأورثه الملكين ; ملك الدنيا وملك الآخرة ، كتب المملوك الخدمة ، والرءوس إلى الآن لم ترفع من سجودها ، والدموع لم تمسح من خدودها ، وكلما فكر المملوك أن البيع تعود وهي مساجد ، والمكان الذي كان يقال فيه : إن الله ثالث ثلاثة ، يقال اليوم فيه : إنه الواحد . جدد لله شكرا تارة يفيض من لسانه ، وتارة يفيض من أجفانه ، وجزى الله يوسف خيرا عن إخراجه من سجنه ، والمماليك ينتظرون أمر المولى ، فكل من أراد أن يدخل الحمام بدمشق قد عول على دخول حمام طبرية .


            تلك المكارم لا قعبان من لبن وذلك الفتح لا عمان واليمن


            وذلك السيف لا سيف ابن ذي يزن

            ثم قال : وللألسنة بعد في هذا الفتح سبح طويل وقول جليل .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية