الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            فتح كوكب

            لما كان صلاح الدين يحاصر صفد ، اجتمع من بصور من الفرنج ، وقالوا : إن فتح المسلمون قلعة صفد لم تبق كوكب ، ولو أنها معلقة بالكوكب ، وحينئذ ينقطع طمعنا من هذا الطرف من البلاد ، فاتفق رأيهم على إنفاذ نجدة لها سرا من رجال وسلاح وغير ذلك ، فأخرجوا مائتي رجل من شجعان الفرنج وأجلادهم ، فساروا الليل مستخفين ، وأقاموا النهار مكمنين .

            فاتفق من قدر الله تعالى أن رجلا من المسلمين الذين يحاصرون كوكب خرج متصيدا ، فلقي رجلا من تلك النجدة ، فاستغربه بتلك الأرض ، فضربه ليعلمه بحاله ، وما الذي أقدمه إلى هناك ، فأقر بالحال ، ودله على أصحابه .

            فعاد الجندي المسلم إلى قايماز النجمي ، وهو مقدم ذلك العسكر ، فأعلمه الخبر ، والفرنجي معه ، فركب في طائفة من العسكر إلى الموضع الذي قد اختفى فيه الفرنج ، فكبسهم ، فأخذهم ، وتتبعهم في الشعاب والكهوف ، فلم يفلت منهم أحد .

            فكان معهم مقدمان من فرسان الاسبتار ، فحملا إلى صلاح الدين وهو على صفد ، فأحضرهما ليقتلهما ، وكانت عادته قتل الداوية والاسبتارية لشدة عداوتهم للمسلمين وشجاعتهم ، فلما أمر بقتلهما قال له أحدهما : ما أظن ينالنا سوء وقد نظرنا إلى طلعتك المباركة ووجهك الصبيح . وكان - رحمه الله - كثير العفو ، يفعل الاعتذار والاستعطاف فيه ، فيعفو ويصفح ، فلما سمع كلامهما لم يقتلهما ، وأمر بهما فسجنا .

            ولما فتح صفد سار عنها إلى كوكب ونازلها وحصرها ، وأرسل إلى من بها من الفرنج يبذل لهم الأمان إن سلموا ، ويتهددهم بالقتل والسبي والنهب إن امتنعوا ، فلم يسمعوا قوله ، وأصروا على الامتناع ، فجد في قتالهم ، ونصب عليهم المجانيق ، وتابع رمي الأحجار إليهم ، وزحف مرة بعد مرة .

            وكانت الأمطار كثيرة ، لا تنقطع ليلا ولا نهارا ، فلم يتمكن المسلمون من القتال على الوجه الذي يريدونه ، وطال مقامهم عليها .

            وفي آخر الأمر زحفوا إليها دفعات متناوبة في يوم واحد ، ووصلوا إلى باشورة القلعة ، ومعهم النقابون والرماة يحمونهم بالنشاب عن قوس اليد والجروخ ، فلم يقدر أحد منهم أن يخرج رأسه من أعلى السور ، فنقبوا الباشورة فسقطت ، وتقدموا إلى السور الأعلى ، فلما رأى الفرنج ذلك أذعنوا بالتسليم ، وطلبوا الأمان فأمنهم ، وتسلم الحصن منهم منتصف ذي القعدة ، وسيرهم إلى صور ، فوصلوا إليها .

            واجتمع بها من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد ، فاشتدت شوكتهم ، وحميت جمرتهم ، وتابعوا الرسل إلى من بالأندلس وصقلية وغيرهما من جزائر البحر يستغيثون ويستنجدون ، والأمداد كل قليل تأتيهم ، وكان ذلك كله بتفريط صلاح الدين في إطلاق كل من حصره ، حتى عض بنانه ندما وأسفا حيث لم ينفعه ذلك .

            واجتمع للمسلمين بفتح كوكب وصفد من حد أيلة إلى أقصى أعمال بيروت ، لا يفصل بينه غير مدينة صور ، وجميع أعمال أنطاكية سوى القصير ، وكان القاضي الفاضل معه في هذه المواقف شاهدا مرتقبا ، وكتب القاضي الفاضل عن السلطان إلى أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن يستدعيه إلى الشام لنصرة أهل الإسلام وقتل الكفرة اللئام ، فإنه قد عزم على حصار أنطاكية ويكون تقي الدين عمر محاصرا لطرابلس إذا انسلخ هذا العام . ثم عزم القاضي الفاضل على الدخول إلى الديار المصرية ، فسار السلطان معه لتوديعه ثم عدل إلى القدس الشريف ، فصلى فيه الجمعة ، وعيد فيه عيد الأضحى بالصخرة من الأقصى ، ثم سار ومعه أخوه العادل إلى عسقلان ثم أقطع أخاه الكرك عوضا عن عسقلان وأمره بالانصراف ليكون عونا لابنه العزيز على حوادث الزمان ، وعاد السلطان فأقام بمدينة عكا حتى انسلخت هذه السنة .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية