الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وقعة للمسلمين والفرنج على عكا

            وفي سنة ست وثمانين وخمسمائة في العشرين من جمادى الآخرة خرجت الفرنج فارسها وراجلها من وراء خنادقهم ، وتقدموا إلى المسلمين ، وهم كثير لا يحصى عددهم ، وقصدوا نحو عسكر مصر ، ومقدمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب ، وكان المصريون قد ركبوا واصطفوا للقاء الفرنج ، فالتقوا ، واقتتلوا قتالا شديدا .

            فانحاز المصريون عنهم ، ودخل الفرنج خيامهم ، ونهبوا أموالهم فعطف المصريون عليهم ، فقاتلوهم من وسط خيامهم فأخرجوهم عنها .

            وتوجهت طائفة من المصريين نحو خنادق الفرنج ، فقطعوا المدد عن أصحابهم الذين خرجوا ، وكانوا متصلين ، كالنمل ، فلما انقطعت أمدادهم ألقوا بأيديهم ، وأخذتهم السيوف من كل ناحية فلم ينج منهم إلا الشريد ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، يزيد عدد القتلى على عشرة آلاف قتيل .

            وكانت عساكر الموصل قريبة من عسكر مصر ، وكان مقدمهم علاء الدين خرمشاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل ، فحملوا أيضا على الفرنج ، وبالغوا في قتالهم ، ونالوا منهم نيلا كثيرا ، هذا جميعه ، ولم يباشر القتال أحد من الحلقة الخاص التي مع صلاح الدين ، ولا أحد من الميسرة ، وكان بها عماد الدين زنكي ، صاحب سنجار وعسكر إربل وغيرهم .

            ولما جرى على الفرنج هذه الحادثة خمدت جمرتهم ، ولانت عريكتهم ، وأشار المسلمون على صلاح الدين بمباكرتهم القتال ، ومناجزتهم وهم على هذه الحال من الهلع والجزع ، فاتفق أنه وصله من الغد كتاب من حلب يخبر فيه بموت ملك الألمان ، وما أصاب أصحابه من الموت والقتل والأسر ، وما صار أمرهم إليه من القلة والذلة .

            واشتغل المسلمون بهذه البشرى والفرح بها عن قتال من بإزائهم ، وظنوا أن الفرنج إذا بلغهم هذا الخبر ازدادوا وهنا على وهنهم ، وخوفا على خوفهم ، فلما كان بعد يومين أتت الفرنج أمداد في البحر مع كند كبير من الكنود البحرية يقال له الكند هري ابن أخي ملك إفرنسيس لأبيه ، وابن أخي ملك إنكلتار لأمه .

            ووصل معه من الأموال شيء كثير يفوق الإحصاء ، فوصل إلى الفرنج ، فجند الأجناد ، وبذل الأموال فعادت نفوسهم فقويت واطمأنت ، وأخبرهم أن الأمداد واصلة إليهم يتلو بعضها بعضا ، فتماسكوا وحفظوا مكانهم .

            ثم أظهروا أنهم يريدون الخروج إلى لقاء المسلمين وقتالهم ، فانتقل صلاح الدين من مكانه إلى الخروبة في السابع والعشرين من جمادى الآخرة ، ليسع المجال ، وكانت المنزلة قد أنتنت بريح القتلى .

            ثم إن الكند هري نصب منجنيقا ودبابات وعرادات ، فخرج من بعكا من المسلمين فأخذوها ، وقتلوا عندها كثيرا من الفرنج ، ثم إن الكند هري بعد أخذ مجانيقه أراد أن ينصب منجنيقا ، فلم يتمكن من ذلك لأن المسلمين بعكا كانوا يمنعون من عمل ستائر يستتر بها من يرمي من المنجنيق ، فعمل تلا من تراب بالبعد من البلد .

            ثم إن الفرنج كانوا ينقلون التل إلى البلد بالتدريج ، ويستترون به ، ويقربونه إلى البلد ، فلما صار من البلد بحيث يصل من عنده حجر منجنيق ، نصبوا وراءه منجنيقين ، وصار التل سترة لهما .

            وجاءت كتب صاحب الروم من القسطنطينية يعتذر إلى صلاح الدين من جهة ملك الألمان وأنه لم يجاوز ملكه ولا بلده باختياره وأنه تجاوزه لكثرة جنوده ولذلك بشر السلطان بأن الله سيهلكهم في كل مكان وكذلك وقع ولله الحمد القديم الإحسان وأرسل إلى السلطان يقول له : إني سأقيم عندي للمسلمين جمعة وخطيبا فأرسل السلطان مع رسوله خطيبا ومنبرا فكان يوم دخولهم إليه يوما مشهودا ومشهدا محمودا فأقيمت الخطبة ودعا للخليفة العباسي واجتمع فيها من هناك من المسلمين والتجار والمسافرين ولله الحمد رب العالمين وكتب متولي عكا من جهة السلطان صلاح الدين وهو الأمير بهاء الدين قراقوش في العشر الأول من شعبان إلى السلطان : إنه لم يبق عندهم في المدينة من الأقوات إلا ما يبلغهم إلى ليلة النصف من شعبان فلما وصل الكتاب إلى السلطان أسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لأحد خوفا من شيوع ذلك فيبلغ العدو فيقووا على المسلمين وتضعف القلوب ، فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمرهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا ، فتأخر سيره ثم وصلت ثلاث بطس ليلة النصف فيها من الميرة ما يكفي أهل البلد طول الشتاء وهي في صحبة الأمير الحاجب لؤلؤ فلما أشرفت على البلد نهض إليها أسطول الفرنج ليحول بينها وبين البلد ويتلف ما فيها فاقتتلوا في البحر قتالا شديدا عظيما والمسلمون في البر يبتهلون إلى الله عز وجل في سلامتها والفرنج أيضا تصرخ برا وبحرا ، وقد ارتفع الضجيج فنصر الله المسلمين وسلم مراكبهم وطابت الريح للبطس فسارت فاخترقت المراكب الفرنجية المحيطة بالميناء ودخلت البلد سالمة ، ففرح بها أهل البلد والجيش فرحا شديدا ولله الحمد .

            وكان السلطان قد جهز قبل هذه الثلاث بطس المصريات بطسة عظيمة من بيروت فيها أربعمائة غرارة وشيء كثير من الجبن والبصل والشحم والقديد والنشاب والنفط وكانت هذه البطسة من بطس الفرنج المغنومة وأمر من فيها من البحارة أن يتزيوا بزي الفرنج حتى إنهم حلقوا لحاهم وشدوا الزنانير واستصحبوا معهم في البطسة شيئا من الخنازير وقدموا بها على مراكب الفرنج فاعتقدوا أنهم منهم وهي سائرة كأنها السهم إذا خرج من الرمية فحذرهم الفرنج غائلة الميناء من ناحية المسلمين فاعتذروا بأنهم مغلوبون معها والريح قوية لا يمكنهم أن يقفوا ولا ينصرفوا وما زالوا كذلك حتى ولجوا الميناء وأفرغوا ما كان معهم من الميرة - والحرب خدعة - فعبرت الميناء وعين الكفر عبرى فامتلأ الثغر بها خيرا وسرورا وأثرى مؤنتهم إلى أن قدمت عليهم تلك البطس الثلاث المصرية وكان ميناء البلد يكتنفها برجان يقال لأحدهما : برج الذبان فاتخذت الفرنج بطسة عظيمة لها خرطوم وفيه حركات إذا أرادوا أن يضعوه على شيء من الأسوار والأبرجة قلبوه فوصل إلى ما أرادوا فعظم أمر هذه البطسة على المسلمين ولم يزالوا في أمرها محتالين حتى أرسل الله عليها شواظا من نار فأحرقها وأغرقها وذلك أن الفرنج أعدوا فيها نفطا كثيرا وحطبا جزلا وأخرى خلفها فيها حطب محض حتى إذا أراد المسلمون المحاجنة على الميناء بمراكبهم أرسلوا النفط على بطسة الحطب فاحترقت وهي سائرة بين بطس المسلمين فتحرقها وكان في بطسة أخرى لهم مقاتلة تحت قبو قد أحكموه فيها ، فلما أرسلوا النفط على برج الذبان انعكس الأمر عليهم بقدرة الله تعالى ، وذلك لشدة الهواء تلك الليلة فما تعدت النار بطستهم فاحترقت وتعدى الحريق إلى الأخرى فغرقت ووصل إلى بطسة المقاتلة فتلفت وهلكت بمن فيها فأشبهوا من سلف من الكافرين كما قال تعالى في كتابه المبين يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين [ الحشر : 2 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية