رحيل الفرنج إلى نطرون
لما رأى صلاح الدين أن الفرنج قد لزموا يافا ولم يفارقوها ، وشرعوا في عمارتها ، رحل من منزلته إلى النطرون ثالث عشر رمضان ، وخيم به ، فراسله ملك إنكلتار يطلب المهادنة ، يقول له : إن الأمر قد طال وهلك الفرنج والمسلمون ، وإنما مقصودنا ثلاثة أشياء لا سواها : رد الصليب وبلاد الساحل وبيت المقدس لا نرجع عن هذه الثلاثة ، ومنا عين تطرف فأرسل إليه السلطان جواب ذلك أشد جواب وأسوأ خطاب فكانت الرسل تتردد إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب أخي صلاح الدين .
فاستقرت القاعدة أن ملك إنكلتار يزوج أخته من العادل ، ويكون القدس وما بأيدي المسلمين ، من بلاد الساحل للعادل ، وتكون عكا وما بيد الفرنج من البلاد لأخت ملك إنكلتار ، مضافا إلى مملكة كانت لها داخل البحر قد ورثتها من زوجها .
وأن يرضى الداوية بما يقع الاتفاق عليه ، فعرض العادل ذلك على صلاح الدين ، فأجاب إليه ، فلما ظهر الخبر اجتمع القسيسون ، والأساقفة ، والرهبان إلى أخت ملك إنكلتار وأنكروا عليها فامتنعت من الإجابة ، وقيل كان المانع منه غير ذلك ، والله أعلم .
وكان العادل وملك إنكلتار يجتمعان بعد ذلك ويتجاريان حديث الصلح ، وطلب من العادل أن يسمعه غناء المسلمين ، فأحضر له مغنية تضرب بالجنك ، فغنت له ، فاستحسن ذلك ، ولم يتم بينهما صلح ، وكان ملك إنكلتار يفعل ذلك خديعة ومكرا .
ثم إن الفرنج أظهروا العزم على قصد البيت المقدس ، فسار صلاح الدين إلى الرملة ، جريدة ، وترك الأثقال بالنطرون ، وقرب من الفرنج ، وبقي عشرين يوما ينتظرهم ، فلم يبرحوا ، فكان بين الطائفتين ، مدة المقام ، عدة وقعات في كلها ينتصر المسلمون على الفرنج .
وعاد صلاح الدين إلى النطرون ، ورحل الفرنج من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة ، على عزم قصد البيت المقدس ، فقرب بعضهم من بعض فعظم الخطب واشتد الحذر ، فكان كل ساعة يقع الصوت في العسكرين بالنفير فلقوا من ذلك شدة شديدة ، وأقبل الشتاء ، وحالت الأوحال والأمطار بينهما .