ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وستمائة
فيها كانت وفاة الأشرف ، ثم أخيه الكامل ، أما باني دار الحديث الأشرفية وجامع التوبة وجامع جراح ، فإنه توفي في يوم الخميس رابع المحرم من هذه السنة ، بالقلعة المنصورة ، ودفن بها حتى نجزت تربته التي بنيت له شمالي الكلاسة ، ثم حول إليها - رحمه الله تعالى - في جمادى الأولى . وقد كان ابتداء مرضه في رجب من السنة الماضية ، واختلفت عليه الأدواء حتى كان الجرائحي يخرج العظام من رأسه ، وهو يسبح الله عز وجل ، فلما كان آخر السنة تزايد به المرض . واعتراه إسهال مفرط ، فخارت قوته ، فشرع في التهيؤ للقاء الله تعالى ، فأعتق مائتي غلام وجارية ، ووقف دار فرخشاه التي يقال لها : دار السعادة . وبستانه بالنيرب على ابنته ، وتصدق بأموال جزيلة ، وأحضر له كفنا كان قد أعده من ملابس الفقراء والمشايخ الذين لقيهم من الصالحين . وقد كان رحمه الله ، شهما شجاعا كريما جوادا محبا للعلم وأهله ، لاسيما لأهل الحديث ، ومقادسة الصالحية ، وقد بنى لهم دار حديث بالسفح ، وبالمدينة للشافعية أخرى ، وجعل فيها نعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ما زال حريصا على تحصيله من النظام ابن أبي الحديد التاجر . وقد كان النظام ضنينا به ، فعزم الأشرف على أخذ قطعة منه; خوفا من أن يذهب بالكلية ، فقدر الله موت ابن أبي الحديد بدمشق ، فأوصى للملك الأشرف به ، فجعله الأشرف بدار الحديث ، ونقل إليها كتبا سنية نفيسة ، وبنى جامع التوبة بالعقيبة ، وقد كان خانا للزنجاري ، فيه من المنكرات شيء كثير ، وبنى مسجد القصب وجامع جراح ومسجد دار السعادة ، وقد كان مولده في سنة ست وسبعين وخمسمائة ، ونشأ بالقدس الشريف بكفالة الأمير فخر الدين عثمان الزنجاري ، وكان أبوه يحبه ، وكذلك أخوه المعظم ، ثم استنابه أبوه على مدن كثيرة بالجزيرة; منها الرها وحران ، ثم اتسعت مملكته حين ملك خلاط . وكان من أعف الناس وأحسنهم سيرة وسريرة ، لا يعرف غير نسائه وجواريه ، مع أنه قد كان يعاني الشراب ، وهذا من أعجب الأمور . الأشرف موسى بن العادل
حكى السبط عنه قال : كنت يوما بهذه المنظرة من خلاط إذ دخل الخادم فقال : بالباب امرأة تستأذن . فدخلت فإذا صورة لم أر أحسن منها ، وإذا هي ابنة الملك الذي كان بخلاط قبلي ، فذكرت أن الحاجب قد استحوذ على قرية لها ، وأنها قد احتاجت إلى بيوت الكراء ، وأنها إنما تتقوت من عمل النقوش للنساء ، فأمرت برد ضيعتها إليها ، وأمرت لها بدار تسكنها ، وقد كنت قمت لها حين دخلت ، وأجلستها بين يدي ، وأمرتها بستر وجهها حين أسفرت عنه ، ومعها عجوز ، فحين قضت شغلها قلت لها : انهضي على اسم الله تعالى .
فقالت العجوز : يا خوند ، إنما جاءت لتحظى بخدمتك هذه الليلة . فقلت : معاذ الله ، لا يكون هذا . واستحضرت في ذهني ابنتي ربما يصيبها نظير ما أصاب هذه ، فقامت وهي تقول : سترك الله مثل ما سترتني ، وقلت لها : مهما كان لك من حاجة فأنهيها إلي أقضها لك . فدعت لي وانصرفت . فقالت لي نفسي : ففي الحلال مندوحة عن الحرام ، فتزوجها . فقلت : والله لا كان هذا أبدا ، أين الحياء والكرم والمروءة؟!
قال : ومات مملوك من مماليكي ، وترك ولدا ليس يكون في الناس بتلك البلاد أحسن شبابا ولا أحلى شكلا منه ، فأحببته وقربته ، وكان من لا يفهم أمري يتهمني به ، فاتفق أنه عدا على إنسان ، فضربه حتى قتله ، فاشتكى عليه إلي أولياء المقتول ، فقلت : أثبتوا أنه قتله . فأثبتوا ذلك ، وحاجفت عنه مماليكي ، وأرادوا إرضاءهم بعشر ديات ، فلم يقبلوا ، ووقفوا لي في الطريق وقالوا : قد أثبتنا أنه قتله . فقلت : خذوه . فتسلموه ، فقتلوه ، ولو طلبوا مني ملكي فداء له لدفعته إليهم ، ولكن استحييت من الله أن أعارض شرعه بحظ نفسي . رحمه الله تعالى .
ولما ملك دمشق في سنة ست وعشرين وستمائة نادى مناديه بها أن لا يشتغل أحد من الفقهاء بشيء من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه ، ومن اشتغل بالمنطق وعلوم الأوائل نفي من البلد ، وكان البلد به في غاية الأمن والعدل ، وكثرة الصدقات والخيرات; كانت القلعة لا تغلق في ليالي رمضان كلها ، وصحون الحلاوات خارجة منها إلى الجامع والخوانق والربط والصالحية ، إلى الصالحين والفقراء والرؤساء وغيرهم . وكان أكثر جلوسه بمسجد أبي الدرداء الذي جدده وزخرفه بالقلعة ، وكان ميمون النقيبة ، ولم تكسر له راية قط ، وقد استدعى الزبيدي من بغداد حتى سمع هو والناس عليه " صحيح البخاري " وغيره ، وكان له ميل كثير إلى الحديث وأهله ، ولما توفي رحمه الله رآه بعضهم في المنام ، وعليه ثياب خضر ، وهو يطير مع جماعة من الصالحين ، فقالوا له : ما هذا وقد كنت تعاني الشراب في الدنيا؟ فقال : ذاك البدن الذي كنا نفعل به ذاك عندكم في الدنيا ، وهذه الروح التي كنا نحب بها هؤلاء ، فهي معهم . ولقد صدق ، رحمه الله; قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . المرء مع من أحب
الصلح بين الصالح إسماعيل والكامل
وقد كان أوصى بالملك من بعده لأخيه الصالح إسماعيل ، فلما توفي أخوه ركب في أبهة الملك ، ومشى الناس بين يديه ، وركب إلى جانبه صاحب حمص وعز الدين أيبك المعظمي حامل الغاشية على رأسه ، ثم إنه صادر جماعة من الدماشقة الذين قيل عنهم : إنهم مع الكامل . منهم العلم تعاسيف ، وأولاد ابن مزهر ، وحبسهم ببصرى ، وأطلق الحريري من قلعة عزتا ، وشرط عليه أن لا يدخل دمشق ، ثم قدم الكامل من مصر ، وانضاف إليه الناصر داود صاحب الكرك ونابلس والقدس ، فحاصروا دمشق حصارا شديدا ، وقد حصنها الصالح إسماعيل ، وقطعت المياه ، ورد الكامل ماء بردى إلى ثورا ، وأحرقت العقيبة وقصر حجاج ، فافتقر خلق كثير ، واحترق آخرون ، وجرت خطوب كثيرة ، ثم آل الحال في آخر جمادى الأولى إلى أن سلم الصالح إسماعيل دمشق إلى أخيه الكامل ، على أن له بعلبك وبصرى ، وسكن الأمر ، وكان الصلح بينهما على يدي القاضي محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي ، اتفق أنه كان بدمشق قد قدم في رسلية من جهة الخليفة إلى دمشق ، فجزاه الله تعالى خيرا . دخول الكامل دمشق
ودخل الكامل دمشق ، وأطلق الفلك بن المسيري من سجن الحيات بالقلعة الذي كان أودعه فيه الأشرف ، ونقل الأشرف إلى تربته ، وأمر الكامل في يوم الاثنين سادس جمادى الآخرة أئمة الجامع أن لا يصلي أحد منهم المغرب سوى الإمام الكبير; لما كان يقع من التشويش والاختلاف بسبب اجتماعهم في وقت واحد ، ولنعم ما فعل - رحمه الله تعالى - وقد فعل هذا في زماننا في صلاة التراويح ، اجتمع الناس على قارئ واحد ، وهو الإمام الكبير في المحراب المقدم عند المنبر ، ولم يبق به إمام حينئذ سوى الذي بالحلبية عند مشهد علي ، ولو ترك لكان حسنا . والله أعلم . ذكر وفاة الملك الكامل محمد بن العادل
تملك الكامل مدة شهرين ، ثم أخذته أمراض مختلفة ، من ذلك سعال وإسهال ونزلة في حلقه ، ونقرس في رجليه ، فاتفق موته في بيت صغير من دار القصبة ، وهو البيت الذي توفي فيه عمه الملك الناصر صلاح الدين . ولم يكن عند الكامل أحد عند موته من شدة هيبته ، بل دخلوا فوجدوه ميتا - رحمه الله تعالى - . وقد كان مولده في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة ، وكان أكبر أولاد العادل بعد مودود ، وإليه أوصى العادل لعلمه بثباته ، وكمال عقله ، ووفور معرفته . وقد كان جيد الفهم يحب العلماء ، ويسألهم أسئلة مشكلة ، وله كلام جيد على صحيح مسلم ، وكان ذكيا ، مهيبا ، ذا بأس شديد ، عادلا منصفا ، له حرمة وافرة ، وسطوة قوية ، ملك مصر ثلاثين سنة كاملة ، وكانت الطرقات في زمانه آمنة ، والرعايا متناصفة ، لا يتجاسر أحد أن يظلم أحدا ، شنق جماعة من الأجناد أخذوا شعيرا لبعض الفلاحين بأرض آمد ، واشتكى إليه بعض الركبدارية أن أستاذه استعمله ستة أشهر بلا أجرة ، فأحضر الجندي وألبسه ثياب الركبدارية ، وألبس الركبدار ثياب الجندي ، وأمر الجندي أن يخدم الركبدار ستة أشهر على هذه الهيئة ، ويحضر الركبدار الموكب والخدمة حتى ينقضي الأجل ، فتأدب الناس بذلك غاية الأدب ، رحمه الله تعالى . وكانت له اليد البيضاء في رد ثغر دمياط إلى المسلمين بعد أن استحوذ عليه الفرنج - لعنهم الله - فرابطهم أربع سنين ، حتى استنقذه منهم ، وكان يوم أخذه له واسترجاعه إياه يوما مشهودا ، كما ذكرنا مفصلا ، ولله الحمد والمنة .
وكانت وفاته في ليلة الخميس الثاني والعشرين من رجب من هذه السنة ، ودفن بالقلعة حتى كملت تربته التي بالحائط الشمالي من الجامع ذات الشباك الذي هناك قريبا من مقصورة ابن سنان ، وهي الكندية التي عند الحلبية ، نقل إليها ليلة الجمعة الحادي والعشرين من رمضان من هذه السنة .
ومن شعره يستحث أخاه الملك الأشرف من بلاد الجزيرة حين كان محاصرا بدمياط :
يا مسعفي إن كنت حقا مسعفي فارحل بغير تقيد وتوقف واطو المنازل والديار ولا تنخ
إلا على باب المليك الأشرف قبل يديه لا عدمت وقل له
عني بحسن تعطف وتلطف إن تأت صنوك عن قريب تلقه
ما بين حد مهند ومثقف أو تبط عن إنجاده فلقاؤه
يوم القيامة في عراض الموقف