الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            فتح أنطاكية على يد السلطان الملك الظاهر  

            وهي مدينة عظيمة كثيرة الخير ، يقال : إن دور سورها اثنا عشر ميلا ، وعدد بروجها مائة وستة وثلاثون برجا ، وعدد شرفاتها أربعة وعشرون ألف شرفة ، كان نزوله عليها في مستهل شهر رمضان ، فخرج إليه أهلها يطلبون منه الأمان ، وشرطوا شروطا عليهم له ، فأبى أن يجيبهم وردهم خائبين ، وصمم على حصارها ، ففتحها يوم السبت رابع شهر رمضان بحول الله وقوته وتأييده ونصره ، وغنم منها شيئا كثيرا وأطلق للأمراء أموالا جزيلة ، ووجد من أسارى المسلمين من الحلبيين فيها خلقا كثيرا ، كل هذا في مقدار أربعة أيام . وقد كان الأفريس صاحبها وصاحب طرابلس من أشد الناس أذية للمسلمين ، حين ملك التتار حلب وفر الناس منها ، فانتقم الله سبحانه منه بمن أقامه للإسلام ناصرا وللصليب دامغا وكاسرا ، ولله الحمد والمنة ، وجاءت البشارة بذلك مع البريدية ، فجاوبتها البشائر من القلعة المنصورة ، وأرسل أهل بغراس حين سمعوا بقصد السلطان إليهم يطلبون منه أن يبعث إليهم من يتسلمها ، فأرسل إليهم أستاذ داره الأمير آقسنقر الفارقاني في ثالث عشر رمضان فتسلمها ، وتسلموا حصونا كبيرة وقلاعا كثيرة ، وعاد السلطان مؤيدا منصورا ، فدخل دمشق في السابع والعشرين من رمضان من هذه السنة في أبهة عظيمة وهيبة هائلة ، وقد زينت له البلد ، ودقت له البشائر فرحا بنصرة الإسلام على الكفرة الطغام ، لكنه كان قد عزم على أخذ أراض كثيرة من القرى والبساتين التي بأيدي ملاكها  بزعم أنه قد كانت التتار استحوذوا عليها ثم استنقذها منهم ، وقد أفتاه بعض الفقهاء من الحنفية بذلك ، تفريعا على أن الكفار إذا أخذوا شيئا من أموال المسلمين ملكوها ، فإذا استرجعت لم ترد إلى أصحابها   ; لحديث العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم  حين استرجعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان أخذها المشركون ، استدلوا بهذا وأمثاله على أبي حنيفة رحمه الله تعالى . وقال بعض العلماء : إذا أخذ الكفار أموال المسلمين وأسلموا وهي في أيديهم استقرت على أملاكهم . واستدل على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام : وهل ترك لنا عقيل من رباع وقد كان استحوذ على أملاك المسلمين الذين هاجروا ، وأسلم عقيل وهي في يده ، فلم تنتزع من يده  ، وأما إذا انتزعت من أيديهم قبل ، فإنها ترد إلى أربابها لحديث العضباء .

            والمقصود أن الظاهر عقد مجلسا اجتمع فيه القضاة والفقهاء من سائر المذاهب ، وتكلموا في ذلك ، وصمم السلطان على ذلك اعتمادا على ما بيده من الفتاوى ، وخاف الناس من غائلة ذلك ، فتوسط الصاحب فخر الدين بن الوزير بهاء الدين بن الحنا ، وكان قد درس بالشافعي بعد ابن بنت الأعز ، فقال : يا خوند ، أهل البلد يصالحونك عن ذلك كله بألف ألف درهم تقسط; كل سنة مائتا ألف درهم . فأبى إلا أن تكون معجلة بعد أيام ، وخرج متوجها إلى الديار المصرية ، وقد أجاب إلى تقسيطها ، وجاءت البشارة بذلك وقرئت على المنبر ، ففرح الناس بذلك ، ورسم أن يعجلوا من ذلك أربعمائة ألف درهم ، وأن تعاد إليهم الغلات التي كانوا قد احتاطوا عليها في زمن القسم والثمار ، وكانت هذه الفعلة مما شعثت خواطر الناس على السلطان .

            ولما استقر أمر أبغا على التتار أمر باستمرار وزيره نصير الدين الطوسي ، واستناب على بلاد الروم البرواناه ، وارتفع قدره عنده جدا ، واستقل بتدبير تلك البلاد ، وعظم شأنه فيها .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية