الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وممن توفي فيها من الأعيان :

            أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح عمر بن السيد القدوة الناسك

            الشيخ الصالح ، العابد الناسك ، الورع الزاهد القدوة ، بقية السلف وقدوة الخلف ، أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح عمر بن السيد القدوة الناسك الكبير العارف أبي بكر بن قوام بن علي بن قوام البالسي ، ولد سنة خمسين وستمائة ببالس ، وسمع من أصحاب ابن طبرزد ، وكان شيخا جليلا بشوش الوجه ، حسن السمت ، مقصدا لكل أحد ، كثير الوقار ، عليه سيما العبادة والخير ، وكان يوم قازان في جملة من كان مع الشيخ تقي الدين ابن تيمية لما تكلم مع قازان ، فحكى عن كلام شيخ الإسلام تقي الدين لقازان وشجاعته ، وجرأته عليه ، وأنه قال لترجمانه : قل لقازان : أنت تزعم أنك مسلم ومعك مؤذنون ، وقاض ، وإمام ، وشيخ ، على ما بلغنا ، فغزوتنا ، ودخلت بلادنا على ماذا ؟ وأبوك وجدك هولاكو كانا كافرين ، وما غزوا بلاد الإسلام ، بل عاهدا فوفيا ، وأنت عاهدت فغدرت ، وقلت فما وفيت . قال : وجرت له مع قازان ، وقطلوشاه ، وبولاي ، أمور ونوب ، قام ابن تيمية فيها كلها لله ، وقال الحق ، ولم يخش إلا الله عز وجل . قال : وقرب إلى الجماعة طعام فأكلوا منه إلا ابن تيمية ، فقيل له : ألا تأكل؟ فقال : كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس ، وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس ؟ قال : ثم إن قازان طلب منه الدعاء ، فقال في دعائه : اللهم إن كان عبدك هذا محمود إنما يقاتل لتكون كلمتك هي العليا ، وليكون الدين كله لك - فانصره ، وأيده ، وملكه البلاد والعباد ، وإن كان إنما قام رياء وسمعة ، وطلبا للدنيا ، ولتكون كلمته هي العليا ، وليذل الإسلام وأهله ، فاخذله ، وزلزله ، ودمره ، واقطع دابره . قال : وقازان يؤمن على دعائه ، ويرفع يديه . قال : فجعلنا نجمع ثيابنا خوفا من أن تتلوث بدمه إذا أمر بقتله . قال : فلما خرجنا من عنده ، قال له قاضي القضاة نجم الدين ابن صصرى وغيره : كدت أن تهلكنا ، وتهلك نفسك ، والله لا نصحبك من هنا . فقال : وأنا والله لا أصحبكم . قال : فانطلقنا عصبة ، وتأخر هو في خاصة نفسه ، ومعه جماعة من أصحابه ، فتسامعت به الخواتين والأمراء من أصحاب قازان ، فأتوه يتبركون بدعائه ، وهو سائر إلى دمشق ، وينظرون إليه ، قال : والله ما وصل إلى دمشق إلا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه ، وكنت أنا من جملة من كان معه ، وأما أولئك الذين أبوا أن يصحبوه ، فخرج عليهم جماعة من التتر ، فشلحوهم عن آخرهم . هذا الكلام أو نحوه . وقد سمعت هذه الحكاية من جماعة غيره ، وقد تقدم ذلك .

            توفي الشيخ محمد بن قوام ليلة الاثنين الثاني والعشرين من صفر بالزاوية المعروفة بهم غربي الصالحية والناصرية والعادلية ، وصلي عليه بها ، ودفن فيها ، وحضر جنازته ودفنه خلق كثير وجم غفير ، وكان في جملة الجمع الشيخ تقي الدين ابن تيمية ؛ لأنه كان يحبه كثيرا ، ولم يكن للشيخ محمد مرتب على الدولة ، ولا لزاويته مرتب ولا وقف ، وقد عرض عليه ذلك غير مرة فلم يقبل ، وكان يزار ، وكان لديه علم وفضائل جمة ، وكان فهمه صحيحا ، وكانت له معرفة تامة ، وكان حسن العقيدة ، وطويته صحيحة ، وكان محبا للحديث وآثار السلف ، كثير التلاوة والجمعية على الله عز وجل ، وقد صنف جزءا فيه أخبار جيدة ، رحمه الله ، وبل ثراه بوابل الرحمة ، آمين . تقي الدين أبو محمد عبد الله بن الشيخ أحمد بن تمام بن حسان التلي

            الشيخ الصالح ، الأديب البارع ، الشاعر المجيد ، تقي الدين أبو محمد عبد الله بن الشيخ أحمد بن تمام بن حسان التلي ثم الصالحي الحنبلي ، أخو الشيخ محمد بن تمام ، ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة ، وسمع الحديث ، وصحب الفضلاء ، وكان حسن الشكل والخلق ، طيب النفس ، مليح المجاورة والمجالسة ، كثير المفاكهة ، أقام مدة بالحجاز ، واجتمع بابن سبعين وبالتقي الحوراني ، وأخذ النحو عن ابن مالك ، وابنه بدر الدين ، وصحبه مدة ، وقد صحبه الشهاب محمود مدة خمسين سنة ، وكان يثني عليه بالزهد والفراغ من الدنيا ، توفي ليلة السبت الثالث من ربيع الآخر ، ودفن بالسفح ، وقد أورد الشيخ علم الدين البرزالي في ترجمته قطعة من شعره ، فمن ذلك قوله :

            أسكان المعاهد من فؤادي لكم في خافق منه سكون     أكرر فيكم أبدا حديثي
            فيحلو والحديث له شجون     وأنظمه عقودا من دموعي
            فتنثره المحاجر والجفون     وأبتكر المعاني في هواكم
            وفيكم كل قافية تهون     وأسأل عنكم الباكين سرا
            وسر هواكم سر مصون     وأعتبق النسيم ؛ لأن فيه
            شمائل من معاطفكم تبين     فكم لي في محبتكم غرام
            وكم لي في الغرام بكم فنون

            زين الدين علي بن مخلوف بن ناهض بن مسلم بن منعم

            قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف بن ناهض بن مسلم بن منعم بن خلف النويري المالكي ، الحاكم بالديار المصرية ، ولد سنة أربع وثلاثين وستمائة ، وسمع الحديث ، واشتغل ، وحصل ، وولي الحكم بعد ابن شاس سنة خمس وثمانين ، وطالت أيامه إلى هذا العام ، وكان غزير المروءة والاحتمال والإحسان إلى الفقهاء والشهود ومن يقصده ، توفي ليلة الأربعاء حادي عشر جمادى الآخرة ، ودفن بسفح المقطم بمصر ، وتولى الحكم بعده بمصر تقي الدين الأخنائي المالكي . ابن شعلان

            الشيخ إبراهيم بن أبي العلاء المقرئ الصيت المشهور المعروف بابن شعلان ، وكان رجلا جيدا في شهود المسمارية ، ويقصد للختمات لطيب صوته ، توفي وهو كهل يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الآخرة ، ودفن بسفح قاسيون . أبو الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن محمد

            الشيخ الإمام العالم الزاهد أبو الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي جعفر أحمد بن خلف بن إبراهيم بن أبي عيسى بن الحاج التجيبي القرطبي ثم الإشبيلي ، ولد بإشبيلية سنة ثمان وثلاثين وستمائة ، وقد كان أهله بيت العلم والخطابة والقضاء بمدينة قرطبة ، فلما أخذها الفرنج انتقلوا إلى إشبيلية ، وتمحقت أموالهم وكتبهم ، وصادر ابن الأحمر جده القاضي بعشرين ألف دينار ، ومات أبوه وجده سنة إحدى وأربعين وستمائة ، ونشأ يتيما ، ثم حج وأقبل إلى الشام ، فأقام بدمشق من سنة أربع وثمانين ، وسمع من ابن البخاري وغيره ، وكتب بيده نحوا من مائة مجلد إعانة لولديه أبي عمرو وأبي عبد الله على الاشتغال ، ثم كانت وفاته بالمدرسة الصلاحية يوم الجمعة وقت الأذان ثامن عشر رجب ، وصلي عليه بعد العصر ، ودفن عند الفندلاوي بباب الصغير بدمشق ، وحضر جنازته خلق كثير . كمال الدين بن الشريشي

            الشيخ كمال الدين بن الشريشي ، أحمد بن الإمام العلامة جمال الدين أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن سحمان البكري الوائلي الشريشي ، كان أبوه مالكيا كما تقدم ، واشتغل هو في مذهب الشافعي ، فبرع ، وحصل علوما كثيرة ، وكان خبيرا بالكتابة مع ذلك ، وسمع الحديث ، وكتب الطباق وقرأه بنفسه ، وأفتى ، ودرس ، وناظر ، وباشر عدة مدارس ومناصب كبار ، أول ما باشر مشيخة الحديث بتربة أم الصالح بعد والده من سنة خمس وثمانين وستمائة إلى أن توفي ، وناب في الحكم عن ابن جماعة ، ثم ترك ذلك وولي وكالة بيت المال ، وقضاء العسكر ، ونظر الجامع مرات ، ودرس بالشامية البرانية ، ودرس بالناصرية عشرين سنة ، ثم انتزعها من يده ابن جماعة وزين الدين الفارقي ، فاستعادها منهما ، وباشر مشيخة الرباط الناصري بقاسيون ، مدة ومشيخة دار الحديث الأشرفية ثمان سنين ، وكان مشكور السيرة فيما تولاه من الجهات كلها ، وقد عزم في هذه السنة على الحج ، فخرج بأهله ، فأدركته منيته بالحسا في سلخ شوال من هذه السنة ، ودفن هناك ، رحمه الله ، وتولى بعده الوكالة جمال الدين بن القلانسي ، ودرس في الناصرية كمال الدين بن الشيرازي ، وبدار الحديث الأشرفية الحافظ جمال الدين المزي ، وبأم الصالح الشيخ شمس الدين الذهبي ، وبالرباط الناصري ولده جمال الدين . الشهاب المقرئ أحمد بن أبي بكر بن أحمد البغدادي

            الشهاب المقرئ أحمد بن أبي بكر بن أحمد البغدادي ، نقيب المتعممين ، كان عنده فضائل جمة نظما ونثرا ، مما يناسب الوقائع وما يحضر فيه من التهاني والتعازي ، ويعرف الموسيقى ، والشعبذة ، وضرب الرمل ، ويحضر المجالس المشتملة على اللهو ، والمسكر ، واللعب ، والبسط ، ثم انقطع عن ذلك كله لكبر سنه ، وهو مما يقال فيه وفي أمثاله : .


            ذهبت عن توبته سائلا     وجدتها توبة إفلاس

            وكان مولده بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وستمائة ، وتوفي ليلة السبت خامس ذي القعدة ، ودفن بمقابر باب الصغير في قبر أعده لنفسه ، عن خمس وثمانين سنة ، سامحه الله . قاضي القضاة فخر الدين أبو العباس أحمد بن تاج الدين

            قاضي القضاة فخر الدين أبو العباس أحمد بن تاج الدين أبي الخير سلامة بن زين الدين أبي العباس أحمد بن سلامة الإسكندري المالكي ، ولد سنة إحدى وسبعين وستمائة ، وبرع في علوم كثيرة ، وولي نيابة الحكم في الإسكندرية ، فحمدت سيرته ، وديانته ، وصرامته ، ثم قدم على قضاء الشام للمالكية في السنة الماضية ، فباشرها أحسن مباشرة سنة ونصفا ، إلى أن توفي بالصمصامية بكرة الأربعاء مستهل ذي الحجة ، ودفن إلى جانب الفندلاوي بباب الصغير ، وحضر جنازته خلق كثير ، وشكره الناس ، وأثنوا عليه ، رحمه الله تعالى .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية