وللزمخشري:
لا تعجبن لجهول حلته فذاك ميت وثوبه كفن
واستدل بالآية على وجوب وعن إجابته صلى الله تعالى عليه وسلم إذا نادى أحدا وهو في الصلاة، أن ذلك لا يبطلها لأنها أيضا إجابة، وحكى الشافعي أنها لا تجب الصلاة بها، وقيل: إنه يقطع الصلاة إذا كان الدعاء لأمر يفوت بالتأخير كما إذا رأى أعمى وصل إلى بئر ولو لم يحذره لهلك، وأيد القول بالوجوب بما أخرجه الروياني الترمذي عن والنسائي أبي هريرة: وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال: ما منعك من إجابتي؟ قال: كنت أصلي. قال: ألم تخبر فيما أوحي: أبي بن كعب استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم قال: بلى. ولا أعود إن شاء الله تعالى. ثم إنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال له: لأعلمنك سورة أعظم سورة في القرآن: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني». أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مر علىوأنت تعلم أنه لا دلالة فيه على أن إجابته صلى الله تعالى عليه وسلم لا تقطع الصلاة، وقال بعضهم: إن ذلك الدعاء كان لأمر مهم لا يحتمل التأخير، وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله، وفيه نظر، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه عطف على استجيبوا، وأصل الحول كما قال الراغب تغير الشيء وانفصاله عن غيره، وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول وباعتبار الانفصال قيل: حال بينهما كذا، وهذا غير متصور في حق الله تعالى؛ فهو مجاز عن غاية القرب من العبد لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر؛ لاتصاله بهما وانفصال أحدهما عن الآخر، وظاهر كلام كثير أن الكلام من باب الاستعارة التمثيلية، ويجوز أن يكون هناك استعارة تبعية، فمعنى يحول يقرب، ولا بعد في أن يكون من باب المجاز المرسل المركب لاستعماله في لازم معناه وهو القرب، بل ادعي أنه الأنسب، وإرادة هذا المعنى هو المروي عن الحسن فالآية نظير قوله سبحانه: وقتادة، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد .
وفيها تنبيه على وجوز أن يكون المراد من ذلك الحث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها، فمعنى يحول بينه وبين قلبه يميته فيفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليما كما يريد الله تعالى، فكأنه سبحانه بعد أن أمرهم بإجابة الرسول عليه الصلاة والسلام أشار لهم إلى اغتنام الفرصة من إخلاص القلوب للطاعة وشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه الذي به يعقل في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه، وإلى هذا ذهب أنه تعالى مطلع من مكنونات القلوب على ما قد يغفل عنه أصحابها، الجبائي.
وقال غير واحد: إنه استعارة تمثيلية لتمكنه تعالى من قلوب العباد فيصرفها كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبها فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويلهمه رشده ويزيغ عن الصراط السوي قلبه ويبدله بالأمن خوفا وبالذكر نسيانا، وذلك كمن حال بين شخص ومتاعه فإنه القادر على التصرف فيه دونه وهذا كما في حديث عن شهر بن حوشب أم سلمة وقد أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله تعالى، فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ. سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن إكثاره الدعاء: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقال لها: يا
ويؤيد هذا التفسير ما أخرجه عن ابن مردويه رضي الله تعالى عنهما قال: ابن عباس سألت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن هذه الآية فقال عليه الصلاة والسلام: يحول بين المؤمن والكفر ويحول بين الكافر والهدى.
ولعل ذلك منه عليه الصلاة والسلام اقتصار على الأمرين اللذين هما أعظم مدار للسعادة والشقاوة وإلا [ ص: 192 ] فهذا من فروع التمكن الذي أشرنا إليه ولا يختص أمره بما ذكر، وقد حال سبحانه بين العدلية وبين اعتقاد هذا فعدلوا عن سواء السبيل، وبين بعض الأفاضل ربط الآيات على ذلك بأنه تعالى لما نص بقوله عز من قائل: ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم إلخ، على أن الإسماع لا ينفع فيهم تسجيلا على أولئك الصم البكم من على المؤمنين بما منحهم من الإيمان ويسر لهم من الطاعة، كأنه قيل: إنكم لستم مثل أولئك المطبوعين على قلوبهم؛ فإنهم إنما امتنعوا عن الطاعة لأنهم ما خلقوا إلا للكفر فما تيسر لهم الاستجابة، وكل ميسر لما خلق له، فأنتم لما منحتم الإيمان ووفقتم للطاعة فاستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما فيه حياتكم من مجاهدة الكفار وطلب الحياة الأبدية واغتنموا تلك الفرصة، واعلموا أن الله تعالى قد يحول بين المرء وقلبه بأن يحول بينه وبين الإيمان وبينه وبين الطاعة ثم يجازيه في الآخرة بالنار، وتلخيصه: أوليتكم النعمة فاشكروها ولا تكفروها لئلا أزيلها عنكم اهـ.
ولا يخفى ما فيه من التكليف، وقيل: إن القوم لما دعوا إلى القتال والجهاد وكانوا في غاية الضعف والقلة خافت قلوبهم وضاقت صدورهم فقيل لهم: قاتلوا في سبيل الله تعالى إذا دعيتم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيبدل الأمن خوفا والجبن جرأة. وقرئ: (بين المر) بتشديد الراء على حذف الهمزة ونقل حركتها إليها وإجراء الوصل مجرى الوقف وأنه أي الله عز وجل أو الشأن إليه تحشرون لا إلى غيره فيجازيكم بحسب مراتب أعمالكم التي لم يخف عليه شيء منها فسارعوا إلى طاعته وطاعة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وبالغوا في الاستجابة، وقيل: المعنى: أنه تحشرون إليه تعالى دون غيره فيجازيكم فلا تألوا جهدا في انتهاز الفرصة، أو المعنى: أنه المتصرف في قلوبكم في الدنيا ولا مهرب لكم عنه في الآخرة فسلوا الأمر إليه عز شأنه ولا تحدثوا أنفسكم بمخالفته.
وزعم بعضهم أنه سبحانه لما أشار في صدر الآية إلى أن السعيد من أسعده والشقي من أضله وأن القلوب بيده يقلبها كيفما يشاء ويخلق فيها الدواعي والعقائد حسبما يريد ختمها بما يفيد أن الحشر إليه ليعلم أنه مع كون العباد مجبورين خلقوا مثابين معاقبين إما للجنة وإما للنار لا يتركون مهملين معطلين، وأنت تعلم أن الآية لا دلالة فيها على الجبر بالمعنى المشهور، وليس فيها عند من أنصف بعد التأمل أكثر من انتهاء الأمور بالآخرة إليه عز شأنه.