إلا الذين عاهدتم من المشركين استثناء على ما في الكشاف من المقدر في قوله : ( فسيحوا في الأرض ) إلخ لأن الكلام خطاب مع المسلمين على أن المعنى براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم سيحوا إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقصوكم فأتموا إليهم عهدهم ، وهو بمعنى الاستدراك كأنه قيل : فلا تمهلوا الناكثين غير أربعة أشهر ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجرى الناكثين ، واعترض بأنه كيف يصح الاستثناء وقد تخلل بين المستثنى والمستثنى منه جملة أجنبية أعني قوله سبحانه : ( وأذان من الله ) فإنه كما قرر عطف على ( براءة ) ، وأجيب بأن تلك الجملة ليست أجنبية من كل وجه لأنها في معنى الأمر بالإعلام كأنه قيل : فقولوا لهم سيحوا واعلموا أن الله تعالى بريء منهم لكن الذين عاهدتم إلخ ، وجعله بعضهم استدراكا من النبذ السابق الذي أخر فيه القتال أربعة أشهر والمآل واحد ، وقيل : هو استثناء من المشركين الأول وإليه ذهب ، ورد بأن بقاء التعميم في قوله تعالى : ( الفراء أن الله بريء من المشركين ) ينافيه ، وقيل : هو استثناء من المشركين الثاني ، ورد بأن بقاء التعميم في الأول ينافيه ، والقول بالرجوع إليهما والمستثنى منهما في الجملتين ليستا على نسق واحد لا يحسن ، وجعل الثاني معهودا وهم المشركون المستثنى منهم هؤلاء فقيل: مجيء الاستثناء يبعد ارتكابه في النظم المعجز ، وقوله سبحانه : ( فأتموا إليهم ) حينئذ لا بد من أن يجعل جزاء شرط محذوف وهو أيضا خلاف الظاهر والظاهر الخبرية ، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، وكون المراد به أناسا بأعيانهم فلا يكون علما فيشبه الشرط فتدخل الفاء في خبره على تقدير تسليمه غير مضر فقد ذهب إلى زيادة الفاء في خبر الموصول من غير اشتراط العموم ، واستدل القطب لما في الكشاف بأن هاهنا جملتين يمكن أن يعلق بهما الاستثناء جملة البراءة وجملة الإمهال ، لكن تعليق الاستثناء بجملة البراءة يستلزم أن لا براءة عن بعض المشركين، فتعين تعلقه بجملة الإمهال أربعة أشهر ، وفيه غفلة عن أن المراد البراءة عن عهود المشركين لا عن أنفسهم ، ولا كلام في أن المعاهدين الغير الناكثين ليس الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بريئين من عهودهم وإن برئا عن أنفسهم بضرب من التأويل فافهم ، وقال الأخفش ابن المنير : يجوز أن يكون قوله سبحانه : ( فسيحوا ) خطابا للمشركين غير مضمر قبله القول ويكون الاستثناء على هذا من قوله تعالى : ( إلى الذين عاهدتم ) كأنه قيل : براءة من الله تعالى ورسوله إلى المعاهدين إلا الباقين على العهد فأتموا إليهم أيها المسلمون عهدهم ، ويكون فيه خروج من خطاب المسلمين في ( إلا الذين عاهدتم ) إلى خطاب المشركين في ( فسيحوا ) ثم التفات من التكلم إلى الغيبة في واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله [ ص: 49 ] والأصل غير معجزي وإني ، وفي هذا الالتفات بعد الالتفات الأول افتنان في أساليب البلاغة وتفخيم للشأن وتعظيم للأمر ، ثم يتلو هذا الالتفات العود إلى الخطاب في قوله سبحانه : إلا الذين عاهدتم إلخ وكل هذا من حسنات الفصاحة انتهى ، ولا يخفى ما فيه من كثرة التعسف و ( من ) قيل بيانية ، وقيل : تبعيضية ، وثم في قوله تعالى : ثم لم ينقصوكم شيئا للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة وينقصوا بالصاد المهملة كما قرأ الجمهور يجوز أن يتعدى إلى واحد فيكون شيئا منصوبا على المصدرية أي لم ينقصوكم شيئا من النقصان لا قليلا ولا كبيرا ، ويجوز أن يتعدى إلى اثنين فيكون ( شيئا ) مفعوله الثاني أي لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد وأدوها لكم بتمامها ، وقرأ ، عكرمة ( ينقضوكم ) بالضاد المعجمة ، والكلام حينئذ على حذف مضاف أي لم ينقضوا عهودكم شيئا من النقض وهي قراءة مناسبة للعهد إلا أن قراءة الجمهور أوقع لمقابلة التمام مع استغنائها عن ارتكاب الحذف ( وعطاء شيئا ولم يظاهروا ) أي : لم يعاونوا ( عليكم أحدا ) من أعدائكم كما عدت بنو بكر على خزاعة فظاهرتهم قريش بالسلاح كما تقدم ( فأتموا إليهم عهدهم ) أي أدوه إليهم كاملا ( إلى مدتهم ) أي إلى انقضائها ولا تجروهم مجرى الناكثين قيل : بقي لبني ضمرة ، وبني مدلج حيين من كنانة من عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم ، وأخرج أنه قال : هؤلاء ابن أبي حاتم قريش عاهدوا نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم زمن الحديبية وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر فأمر الله تعالى شأنه نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم ذلك إلى مدتهم وهو خلاف ما تظافرت به الروايات من أن قريشا نقضوا العهد على ما علمت والمعتمد هو الأول ( إن الله يحب المتقين ) تعليل لوجوب الامتثال وتنبيه على أن مراعاة العهد من باب التقوى وأن التسوية بين الغادر والوفي منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا .