وخبرتماني أنما الموت في القرى فكيف وهاتا هضبة وقليب
يريد فكيف مات والحال ما ذكر ، والمراد هنا كيف يكون لهم عهد معتد به عند الله وعند رسوله عليه الصلاة والسلام ( و ) حالهم أنهم ( إنهم إن يظهروا عليكم ) أي يظفروا بكم ( لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) أي : لم يراعوا في شأنكم ذلك ، وأصل الرقوب النظر بطريق الحفظ والرعاية ومنه الرقيب ثم استعمل في مطلق الرعاية ، والمراقبة أبلغ منه كالمراعاة ، وفي نفي الرقوب من المبالغة ما ليس في نفيهما ، وما ألطف ذكر الرقوب مع الظهور و ( الإل ) بكسر الهمزة وقد يفتح على ما روي عن الرحم والقرابة وأنشد قول ابن عباس : حسان
لعمرك إن إلك من قريش كإل السقب من رأل النعام
[ ص: 56 ] وأخرج ، ابن المنذر عن وأبو الشيخ ، عكرمة أن الإل بمعنى الله عز وجل ، ومنه ما روي أن ومجاهد رضي الله تعالى عنه قرئ عليه كلام أبا بكر مسيلمة، فقال: لم يخرج هذا من إل فأين تذهب بكم؟ قيل : ومنه اشتق الإل بمعنى القرابة كما اشتقت الرحم من الرحمن ، والظاهر أنه ليس بعربي إذ لم يسمع في كلام العرب إل بمعنى إله ، ومن هنا قال بعضهم : إنه عبري ومنه جبرال : وأيده بأنه قرئ إيلا وهو عندهم بمعنى الله أو الإله أي لا يخافون الله ولا يراعونه فيكم ، والذمة الحق الذي يعاب ويذم على إغفاله، أو العهد وسمي به لأن نقضه يوجب الذم ، وهي في قولهم: في ذمتي كذا محل الالتزام ومن الفقهاء من قال : هو معنى يصير به الآدمي على الخصوص أهلا لوجوب الحقوق عليه ، وقد تفسر بالأمان والضمان وهي متقاربة ، وزعم بعضهم أن الإل والذمة كلاهما هنا بمعنى العهد، والعطف للتفسير ، ويأباه إعادة لا ظاهرا فليس هو نظير :
فألفى قولها كذبا ومينا
فالحق المغايرة بينهما ، والمراد من الآية قيل : بيان أنهم أسراء الفرصة فلا عهد لهم ، وقيل : الإرشاد إلى أن وجوب مراعاة حقوق العهد على كل من المتعاهدين مشروط بمراعاة الآخر لها، فإذا لم يراعها المشركون فكيف تراعونها فهو على منوال قوله :
علام تقبل منهم فدية وهم لا فضة قبلوا منا ولا ذهبا
ولم أجد لهؤلاء مثلا من هذه الحيثية المشار إليها بقوله سبحانه : ( وإن يظهروا ) إلخ إلا أناسا متزينين بزي العلماء وليسوا منهم، ولا قلامة ظفر فإنهم معي وحسبي الله وكفى على هذا الطرز فرفعهم الله تعالى لا قدرا وحطهم ولا حط عنهم وزرا، وقوله سبحانه : ( يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم ) استئناف للكشف عن حقيقة شؤونهم الجلية والخفية دافع لما يتوهم من تعليق عدم رعاية العهد بالظفر أنهم يراعونه عند عدم ذلك حيث بين فيه أنهم في حالة العجز أيضا ليسوا من الوفاء في شيء، وأن ما يظهرونه أخفاهم الله تعالى مداهنة لا مهادنة ، وكيفية إرضائهم المؤمنين أنهم يبدون لهم الوفاء والمصافاة ويعدونهم بالإيمان والطاعة ويؤكدون ذلك بالأيمان الفاجرة، والمؤمن غر كريم إذا قال صدق وإذا قيل له صدق، ويتعللون لهم عند ظهور خلاف ذلك بالمعاذير الكاذبة .
وتقييد الإرضاء بالأفواه للإيذان بأن كلامهم مجرد ألفاظ يتفوهون بها من غير أن يكون لها مصداق في قلوبهم ، وأكد هذا بمضمون الجملة الثانية وزعم بعضهم أن الجملة حالية من فاعل ( يرقبوا ) لا استئنافية ، ورد بأن الحال تقتضي المقارنة والإرضاء قبل الظهور الذي هو قبل عدم الرقوب الواقع جزاء، فأين المقارنة ؟ وأيضا إن بين الحالتين منافاة ظاهرة فإن الإرضاء بالأفواه حالة إخفاء الكفر والبغض مداراة للمؤمنين وحالة عدم المراعاة والوقوف حالة مجاهرة بالعداوة لهم، وحيث تنافيا لا معنى لتقييد إحداهما بالأخرى ( وأكثرهم فاسقون ) خارجون عن الطاعة متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردهم، وتخصيص الأكثر لما في بعض الكفرة من التحامي عن العذر والتعفف عما يجر أحدوثة السوء ، ووصف الكفرة بالفسق في غاية الذم .