وقرأ ( النسي ) بإبدال الهمزة ياء وإدغامها في الياء ، والمراد به تأخير حرمة شهر إلى آخر ، وذلك أن العرب كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر فيستحلون المحرم ويحرمون صفرا فإن احتاجوا أيضا أحلوه وحرموا ربيعا الأول، وهكذا كانوا يفعلون حتى استدار التحريم على شهور السنة كلها ، وكانوا يعتبرون في التحريم مجرد العدد لا خصوصية الأشهر المعلومة ، وربما زادوا في عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت ويجعلوا أربعة أشهر من السنة حراما أيضا ، ولذلك نص على العدد المعين في الكتاب والسنة ، وكان يختلف وقت حجهم لذلك ، وكان في السنة التاسعة من الهجرة التي حج بها نافع رضي الله تعالى عنه بالناس في ذي القعدة وفي حجة الوداع في ذي الحجة وهو الذي كان على عهد أبو بكر إبراهيم عليه السلام ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام ، ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم : " " الحديث ، وفي رواية أنهم كانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي الحجة عامين وفي المحرم عامين وهكذا ، ووافقت حجة ألا إن الزمان قد استدار في ذي القعدة من سنتهم الثانية ، وكانت حجة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الوقت الذي كان من قبل ولذا قال ما قال ، أي إنما ذلك التأخير ( الصديق زيادة في الكفر ) الذي هم عليه لأنه تحريم ما أحل الله تعالى وقد استحلوه واتخذوه شريعة وذلك كفر ضموه إلى كفرهم .
وقيل : إنه معصية ضمت إلى الكفر وكما يزداد الإيمان بالطاعة يزداد الكفر بالمعصية .
وأورد عليه بأن المعصية ليست من الكفر بخلاف الطاعة فإنها من الإيمان على رأي ، وأجيب عنه بما لا يصفو عن الكدر ( يضل به الذين كفروا ) إضلالا على إضلالهم القديم ، وقرئ ( يضل ) على البناء للفاعل [ ص: 94 ] من الأفعال على أن الفاعل هو الله تعالى ، أي يخلق فيهم الضلال عند مباشرتهم لمباديه وأسبابه وهو المعنى على قراءة الأولى أيضا ، وقيل الفاعل في القراءتين الشيطان ، وجوز على القراءة الثانية أن يكون الموصول فاعلا والمفعول محذوف أي أتباعهم ، وقيل : الفاعل الرؤساء والمفعول الموصول ، وقرئ ( يضل ) بفتح الياء والضاد من ضلل يضلل ، و ( نضل ) بنون العظمة ( يحلونه ) أي : الشهر المؤخر ، وقيل : الضمير للنسيء على أنه فعيل بمعنى مفعول ( عاما ) من الأعوام ويحرمون مكانه شهرا آخر مما ليس بحرام ( ويحرمونه ) أي يحافظون على حرمته كما كانت ، والتعبير عن ذلك بالتحريم باعتبار إحلالهم في العام الماضي أو لإسنادهم له إلى آلهتهم كما سيجيء إن شاء الله تعالى ( عاما ) آخر إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم ، قال : أول من فعل ذلك رجل من الكلبي كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان إذا هم الناس بالصدور من الموسم يقوم فيخطب ويقول لا مرد لما قضيت أنا الذي لا أعاب ولا أخاب فيقول له المشركون : لبيك، ثم يسألونه أن ينسئهم شهرا يغزون فيه فيقول : إن صفر العام حرام، فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة وإن قال: حلال عقدوا الأوتار وركبوا الأزجة وأغاروا .
وعن أنه الضحاك جنادة بن عوف الكناني وكان مطاعا في الجاهلية وكان يقوم على جمل في الموسم فينادي بأعلى صوته إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم يقوم في العام القابل فيقول : إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه ، وأخرج عن ابن مردويه رضي الله تعالى عنهما قال : كانت النساءة حيا من ابن عباس بني مالك بن كنانة وكان آخرهم رجلا يقال له القلمس وهو الذي أنسأ المحرم وكان ملكا في قومه وأنشد شاعرهم :
ومنا ناسئ الشهر القلمس
وقال الكميت :
ونحن الناسئون على معد شهور الحل نجعلها حراما
وفي رواية أخرى عن رضي الله تعالى عنهما أن أول من سن النسيء ابن عباس عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف ، والجملتان تفسير للضلال فلا محل لهما من الإعراب ، وجوز أن تكونا في محل نصب على أنهما حال من الموصول والعامل عامله ( ليواطئوا ) أي ليوافقوا ، وقرأ ( ليوطئوا ) بالتشديد ( الزهري عدة ما حرم الله من الأشهر الأربعة ، واللام متعلقة بـ " يحرمونه " أي يحرمونه لأجل موافقة ذلك أو بما دل عليه مجموع الفعلين أي فعلوا ما فعلوا لأجل الموافقة ، وجعله بعضهم من التنازع ( فيحلوا ما حرم الله ) بخصوصه من الأشهر المعينة ، والحاصل أنه كان الواجب عليهم العدة والتخصيص فحيث تركوا التخصيص فقد استحلوا ما حرم الله تعالى : ( زين لهم سوء أعمالهم ) وقرئ على البناء للفاعل وهو الله تعالى أي جعل أعمالهم مشتهاة للطبع محبوبة للنفس ، وقيل : خذلهم حتى رأوا حسنا ما ليس بالحسن ، وقيل : المزين هو الشيطان وذلك بالوسوسة والإغواء بالمقدمات الشعرية ( والله لا يهدي القوم الكافرين ) هداية موصلة للمطلوب البتة وإنما يهديهم إلى ما يوصل إليه عند سلوكه وهم قد صدوا عنه بسوء اختيارهم فتاهوا في تيه الضلال ، والمراد من الكافرين إما المتقدمون ففيه وضع الظاهر موضع الضمير أو الأعم ويدخلون فيه دخولا أوليا .