وعلى ما نقل عن الإمام يكون المسكين أسوأ حالا من الفقير ، واستدل بقوله تعالى : ( أو مسكينا ذا متربة ) أي [ ص: 121 ] ألصق جلده بالتراب في حفرة استتر بها مكان الإزار، وألصق بطنه به لفرط الجوع فإنه يدل على غاية الضرر والشدة ولم يوصف الفقير بذلك ، وبأن ، الأصمعي وأبا عمرو بن العلاء وغيرهما من أهل اللغة فسروا المسكين بمن لا شيء له ، والفقير بمن له بلغة من العيش ، وأجيب بأن تمام الاستدلال بالآية موقوف على أن الصفة كاشفة وهو خلاف الظاهر ، وأن النقل عن بعض أهل اللغة معارض بالنقل عن البعض الآخر ، وقال عليه الرحمة : الشافعي ، الفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته ، فالفقير عنده أسوأ حالا من المسكين ، واستدل له بقوله تعالى : ( والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه أما السفينة فكانت لمساكين ) فأثبت للمسكين سفينة ، وبما رواه عن الترمذي ، أنس وابن ماجه عن والحاكم قالا : " قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبي سعيد " مع ما رواه اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين عن أبو داود أبي بكرة أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو بقوله : " " وخبر " الفقر فخري " كذب لا أصل له ، وبأن الله تعالى قدم الفقير في الآية ولو لم تكن حاجته أشد لما بدأ به ، وبأن الفقير بمعنى المفقور أي مكسور الفقار أي عظام الصلب فكان أسوأ ، وأجيب عن الأول بأن السفينة لم تكن ملكا لهم بل هم أجراء فيها أو كانت عارية معهم أو قيل لهم مساكين ترحما كما في الحديث: " اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر مساكين أهل النار " .
وقوله :
مساكين أهل الحب حتى قبورهم عليها تراب الذل بين المقابر
وهذا أولى ، وعن الثاني بأن الفقر المتعوذ منه ليس إلا فقر النفس لما روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يسأل العفاف والغنى والمراد به غنى النفس لا كثرة الدنيا ، وعن الثالث بأن التقديم لا دليل فيه إذ له اعتبارات كثيرة في كلامهم ، وعن الرابع بأنا لا نسلم أن الفقير مأخوذ من الفقار لجواز كونه من فقرت له فقرة من مالي إذا قطعتها فيكون له شيء ، وأيا ما كان فهما صنفان ، وقال : إنهما صنف واحد والعطف للاختلاف في المفهوم ، وروي ذلك عن الجبائي محمد ، وأبي يوسف ، وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أوصى بثلث ماله مثلا لفلان وللفقراء والمساكين، فمن قال : إنهما صنف واحد جعل لفلان النصف ومن قال : إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك ( والعاملين عليها ) وهم الذين يبعثهم الإمام لجبايتها ، وفي البحر أن العامل يشمل العاشر والساعي ، والأول من نصبه الإمام على الطريق ليأخذ الصدقات من التجار المارين بأموالهم عليه .
والثاني هو الذي يسعى في القبائل ليأخذ صدقة المواشي في أماكنها ، ويعطي العامل ما يكفيه وأعوانه بالوسط مدة ذهابهم وإيابهم ما دام المال باقيا، إلا إذا استغرقت كفايته الزكاة فلا يزاد على النصف لأن التصنيف عين الإنصاف .
وعن أنه يعطى الثمن لأن القسمة تقتضيه وفيه نظر ، وقيد بالوسط لأنه لا يجوز أن يتبع شهوته في المأكل والمشرب والملبس لكونه إسرافا محضا ، وعلى الإمام أن يبعث من يرضى بالوسط من غير إسراف ولا تقتير ، وببقاء المال لأنه لو أخذ الصدقة وضاعت من يده بطلت عمالته ولا يعطي من بين المال شيئا وما يأخذه صدقة ، ومن هنا قالوا : لا تحل العمالة لهاشمي لشرفه ، وإنما حلت للغني مع حرمة الصدقة عليه لأنه فرغ نفسه لهذا العمل فيحتاج إلى الكفاية ، والغنى لا يمنع من تناولها عند الحاجة كابن السبيل كذا في البدائع ، والتحقيق أن في ذلك شبها بالأجرة وشبها بالصدقة ، فبالاعتبار الأول حلت للغني ولذا لا يعطى لو أداها صاحب المال إلى الإمام ، وبالاعتبار الثاني لا تحل للهاشمي ، وفي النهاية رجل من الشافعي بني هاشم استعمل على الصدقة فأجري له منها [ ص: 122 ] رزق فإنه لا ينبغي له أن يأخذ من ذلك ، وإن عمل فيها ورزق من غيرها فلا بأس به ، وهو يفيد صحة توليته وأن أخذه منها مكروه لا حرام ، وصرح في الغاية بعدم صحة كون العامل هاشميا أو عبدا أو كافرا ، ومنه يعلم حرمة تولية اليهود على بعض الأعمال وقد تقدمت نبذة من الكلام على ذلك ( والمؤلفة قلوبهم ) وهم كانوا ثلاثة أصناف ، صنف كان يؤلفهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليسلموا ، وصنف أسلموا لكن على ضعف كعيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، والعباس بن مرداس السلمي فكان عليه الصلاة والسلام يعطيهم لتقوى نيتهم في الإسلام ، وصنف كانوا يعطون لدفع شرهم عن المؤمنين ، وعد منهم من يؤلف قلبه بإعطاء شيء من الصدقات على قتال الكفار ومانعي الزكاة ، وفي الهداية أن هذا الصنف من الأصناف الثمانية قد سقط وانعقد إجماع الصحابة على ذلك في خلافة رضي الله تعالى عنه ، روي أن الصديق عيينة والأقرع جاءا يطلبان أرضا من فكتب بذلك خطا فمزقه أبي بكر رضي الله تعالى عنه وقال : هذا شيء يعطيكموه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تأليفا لكم فأما اليوم فقد أعز الله تعالى الإسلام وأغني عنكم فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف ، فرجعوا إلى عمر فقالوا : أنت الخليفة أم أبي بكر بذلت لنا الخط ومزقه عمر؟ ، فقال رضي الله تعالى عنه : هو إن شاء ووافقه ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع احتمال أن فيه مفسدة كارتداد بعض منهم وإثارة ثائرة ، واختلف كلام القوم في وجه سقوطه بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ثبوته بالكتاب إلى حين وفاته بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام فمنهم من ارتكب جواز نسخ ما ثبت بالكتاب بالإجماع بناء على أن الإجماع حجة قطعية كالكتاب وليس بصحيح من المذهب; ومنهم من قال : هو من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته كانتهاء جواز الصوم بانتهاء وقته وهو النهار ، ورد بأن الحكم في البقاء لا يحتاج إلى علة كما في الرمل والاضطباع في الطواف فانتهاؤها لا يستلزم انتهاءه وفيه بحث ، وقال عمر علاء الدين عبد العزيز : والأحسن أن يقال : هذا تقرير لما كان في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من حيث المعنى ، وذلك أن المقصود بالدفع إليهم كان إعزاز الإسلام لضعفه في ذلك الوقت لغلبة أهل الكفر وكان الإعزاز بالدفع ، ولما تبدلت الحال بغلبة أهل الإسلام صار الإعزاز في المنع ، وكان الإعطاء في ذلك الزمان والمنع في هذا الزمان بمنزلة الآلة لإعزاز الدين والإعزاز هو المقصود وهو باق على حاله فلم يكن ذلك نسخا ، كالمتيمم وجب عليه استعمال التراب للتطهير لأنه آلة متعينة لحصول التطهير عند عدم المار فإذا تبدلت حاله فوجد الماء سقط الأول ووجب استعمال الماء؛ لأنه صار متعينا لحصول المقصود لا يكون هذا نسخا للأول فكذا هذا وهو نظير إيجاب الدية على العاقلة، فإنها كانت واجبة على العشيرة في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وبعده عليه الصلاة والسلام على أهل الديوان لأن الإيجاب على العاقلة بسبب النصرة والاستنصار في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان بالعشيرة وبعده عليه الصلاة والسلام بأهل الديوان ، فإيجابها عليهم لم يكن نسخا بل كان تقريرا للمعنى الذي وجبت الدية لأجله وهو الاستنصار ا هـ . واستحسنه في النهاية .
وتعقبه ابن الهمام بأن هذا لا ينفي النسخ لأن إباحة الدفع إليهم حكم شرعي كان ثابتا وقد ارتفع ، وقال بعض المحققين : إن ذلك نسخ ولا يقال : نسخ الكتاب بالإجماع لا يجوز على الصحيح لأن الناسخ دليل الإجماع لا هو بناء على أنه لا إجماع إلا عن مستند فإن ظهر وإلا وجب الحكم بأنه ثابت ، على أن الآية التي أشار إليها رضي الله تعالى عنه وهي قوله سبحانه : ( عمر وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) يصلح لذلك وفيه نظر ، فإنه إنما يتم لو ثبت نزول هذه الآية بعد هذه ولم يثبت ، وقال قوم : لم يسقط سهم هذا الصنف ، وهو قول الزهري وأبي جعفر [ ص: 123 ] محمد بن علي ، وأبي ثور ، وروي ذلك عن ، وقال الحسن : يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك . أحمد
وقال البعض : إن المؤلفة قلوبهم مسلمون وكفار والساقط سهم الكفار فقط ، وصحح أنه عليه الصلاة والسلام كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله صلى الله تعالى عليه وسلم ( وفي الرقاب ) أي للصرف في فك الرقاب بأن يعان المكاتبون بشيء منها على أداء نجومهم ، وقيل : بأن يبتاع منها الرقاب فتعتق ، وقيل : بأن يفدى الأسارى ، وإلى الأول ذهب ، النخعي والليث ، ، والزهري ، وهو المروي عن والشافعي وعليه أكثر الفقهاء ، وإلى الثاني ذهب سعيد بن جبير ، مالك ، وأحمد وإسحاق ، وعزاه الطيبي إلى ، وفي تفسير الحسن أن الأول هو المنقول عنه ( الطبري والغارمين ) أي : الذين عليهم دين ، والدفع إليهم كما في الظهيرية أولى من الدفع إلى الفقير وقيدوا الدين بكونه في غير معصية كالخمر والإسراف فيما لا يعنيه ، لكن قال النووي في المنهاج قلت : والأصح أن من استدان للمعصية يعطى إذا تاب وصححه في الروضة ، والمانع مطلقا قال : إنه قد يظهر التوبة للأخذ ، واشترط أن لا يكون لهم ما يوفون به دينهم فاضلا عن حوائجهم ومن يعولونه ، وإلا فمجرد الوفاء لا يمنع من الاستحقاق ، وهو أحد قولين عند الشافعية وهو الأظهر .
وقيل : لا يشترط لعموم الآية ، وأطلق القدوري ، وصاحب الكنز من أصحابنا المديون في باب المصرف ، وقيده في الكافي بأن لا يملك نصابا فضلا عن دينه، وذكر في البحر أنه في الآية إذ هو في اللغة من عليه دين ولا يجد قضاء كما ذكره العتبي ، واعتذر عن عدم التقييد بأن الفقر شرط في الأصناف كلها إلا العامل وابن السبيل إذا كان له في وطنه مال فهو بمنزلة الفقير ، وهل يشترط حلول الدين أولا قولان للشافعية ، ويعطى عندهم من استدان لإصلاح ذات البين، كأن يخاف فتنة بين قبيلتين تنازعتا في قتيل لم يظهر قاتله أو ظهر فأعطي الدية تسكينا للفتنة ، ويعطى مع الغنى مطلقا ، وقيل : إن كان غنيا بنقد لا يعطى . المراد بالغارم
( وفي سبيل الله ) أريد بذلك عند أبي يوسف منقطعو الغزاة ، وعند محمد منقطعو الحجيج ، وقيل : المراد طلبة العلم، واقتصر عليه في الفتاوى الظهيرية ، وفسره في " البدائع " بجميع القرب فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله تعالى وسبل الخيرات ، قال في البحر : ولا يخفى أن قيد الفقر لا بد منه على الوجوه كلها فحينئذ لا تظهر ثمرته في الزكاة ، وإنما تظهر في الوصايا والأوقاف انتهى ، وفي النهاية فإن قيل : إن قوله سبحانه ( وفي سبيل الله ) مكرر سواء أريد منقطع الغزاة أو غيره لأنه إما أن يكون له في وطنه مال أم لا، فإن كان فهو ابن السبيل وإن لم يكن فهو فقير ، فمن أين يكون العدد سبعة على ما يقول الأصحاب أو ثمانية على ما يقول غيرهم ، وأجيب بأنه فقير إلا أنه ازداد فيه شيء آخر سوى الفقر وهو الانقطاع في عبادة الله تعالى من جهاد أو حج فلذا غاير الفقير المطلق فإن المقيد يغاير المطلق لا محالة ، ويظهر أثر التغاير في حكم آخر أيضا وهو زيادة التحريض والترغيب في رعاية جانبه، وإذا كان كذلك لم تنقص المصارف عن سبعة وفيه تأمل انتهى ، ولا يخفى وجهه ، وذكر بعضهم أن التحقيق ما ذكره الجصاص في الأحكام أن من كان غنيا في بلده بداره وخدمه وفرسه وله فضل دراهم حتى لا تحل له الصدقة فإذا عزم على سفر جهاد احتاج لعدة وسلاح لم يكن محتاجا له في إقامته فيجوز أن يعطى من الصدقة وإن كان غنيا في مصره، وهذا معنى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : " الصدقة تحل للغازي الغني " فافهم [ ص: 124 ] ولا تغفل ( وابن السبيل ) وهو المسافر المنقطع عن ماله ، والاستقراض له خير من قبول الصدقة على ما في الظهيرية ، وفي " فتح القدير " أنه لا يحل له أن يأخذ أكثر من حاجته ، وألحق به كل من هو غائب عن ماله وإن كان في بلده ، وفي المحيط وإن كان تاجرا له دين على الناس لا يقدر على أخذه ولا يجد شيئا يحل له أخذ الزكاة لأنه فقير يدا كابن السبيل ، وفي الخانية تفصيل في هذا المقام قال : والذي له دين مؤجل على إنسان إذا احتاج إلى النفقة يجوز له أن يأخذ من الزكاة قدر كفايته إلى حلول الأجل ، وإن كان الدين غير مؤجل، فإن كان من عليه الدين معسرا يجوز له أن يأخذ الزكاة في أصح الأقاويل؛ لأنه بمنزلة ابن السبيل ، وإن كان المديون موسرا معترفا لا يحل له أخذ الزكاة وكذا إذا كان جاحدا وله عليه بينة عادلة ، وإن لم تكن عادلة لا يحل له الأخذ أيضا ما لم يرفع الأمر إلى القاضي فيحلفه فإذا حلفه يحل له الأخذ بعد ذلك ا هـ ، والمراد من الدين ما يبلغ نصابا كما لا يخفى .
وفي " فتح القدير " ولو دفع إلى فقيرة لها مهر دين على زوجها يبلغ نصابا وهو موسر بحيث لو طلبت أعطاها لا يجوز ، وإن كان بحيث لا يعطي لو طلبت جاز ا هـ ، وهو مقيد لعموم ما في الخانية ، والمراد من المهر ما تعورف تعجيله لأن ما تعورف تأجيله فهو دين مؤجل لا يمنع أخذ الزكاة ، ويكون في الأول عدم إعطائه بمنزلة إعساره ، ويفرق بينه وبين سائر الديون بأن رفع الزوج للقاضي مما لا ينبغي للمرأة بخلاف غيره ، لكن في البزازية دفع الزكاة إلى أخته وهي تحت زوج إن كان مهرها المعجل أقل من النصاب أو أكثر لكن الزوج معسر له أن يدفع إليها الزكاة وإن كان موسرا والمعجل قدر النصاب لا يجوز عندهما وبه يفتى للاختياط ، وعند الإمام يجوز مطلقا هذا ، والعدول عن اللام إلى ( في ) في الأربعة الأخيرة على ما قال الزمخشري للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق الصدقة ممن سبق ذكره لما أن ( في ) للظرفية المنبئة عن إحاطتهم بها وكونهم محلها ومركزها وعليه فاللام لمجرد الاختصاص ، وفي الانتصاف أن ثم سرا آخر هو أظهر وأقرب وذلك أن الأصناف الأوائل ملاك لما عساه أن يدفع إليهم وإنما يأخذونه تملكا، فكان دخول اللام لائقا بهم ، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون لما يصرف نحوهم بل ولا يصرف إليهم ولكن يصرف في مصالح تتعلق بهم ، فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون أو البائعون فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بملكهم لما يصرف نحوهم، وإنما هم محال لهذا الصرف ولمصالحه المتعلقة به ، وكذلك الغارمون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم ، وأما في سبيل الله فواضح فيه ذلك ، وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجا في سبيل الله ، وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعا .
وعطفه على المجرور باللام ممكن ولكن عطفه على القريب أقرب ، وما أشار إليه من أن المكاتب لا يملك وإنما يملك المكاتب هو الذي أشار إليه بعض أصحابنا ، ففي المحيط قالوا : إنه لا يجوز إعطاء الزكاة لمكاتب هاشمي لأن الملك يقع للمولى من وجه والشبهة ملحقة بالحقيقة في حقهم، وفي " البدائع " ما هو ظاهر في أن الملك يقع للمكاتب وحينئذ فبقية الأربعة بالطريق الأولى .
والمشهور أن اللام للملك عند الشافعية وهو الذي يقتضيه مذهبهم حيث قالوا : لا بد من صرف الزكاة إلى جميع الأصناف إذا وجدت ولا تصرف إلى صنف مثلا ولا إلى أقل من ثلاثة من كل صنف بل إلى ثلاثة أو أكثر إذا وجد ذلك ، وعندنا يجوز للمالك أن يدفع الزكاة إلى كل واحد [ ص: 125 ] منهم وله أن يقتصر على صنف واحد لأن المراد بالآية بيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم لا تعيين الدفع لهم ، ويدل له قوله تعالى : ( وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أتاه مال من الصدقة فجعله في صنف واحد وهو المؤلفة قلوبهم ثم أتاه مال آخر فجعله في الغارمين، فدل ذلك على أنه يجوز الاقتصار على صنف واحد ، ودليل جواز الاقتصار على شخص واحد منه أن الجمع المعرف بـ ( أل ) مجاز عن الجنس ، فلو حلف لا يتزوج النساء ولا يشتري العبيد يحنث بالواحد; فالمعنى في الآية أن جنس الصدقة لجنس الفقير ، فيجوز الصرف إلى واحد لأن الاستغراق ليس بمستقيم ، إذ يصير المعنى إن كل صدقة لكل فقير وهو ظاهر الفساد ، وليس هناك معهود ليرتكب العهد ، ولا يرد خالعني على ما في يدي من الدراهم ولا شيء في يدها فإنه يلزمها ثلاثة ، ولو حلف لا يكلمه الأيام أو الشهور فإنه يقع على العشرة عند الإمام وعلى الأسبوع والسنة عند الإمامين لأنه أمكن العهد فلا يحمل على الجنس ، فالحاصل أن حمل الجمع على الجنس مجاز وعلى العهد أو الاستغراق حقيقة ، ولا مساغ للخلف إلا عند تعذر الأصل ، وعلى هذا ينصف الموصى به لزيد والفقراء كالوصية لزيد وفقير .
وما ذهبنا إليه هو المروى عن ، عمر رضي الله تعالى عنهم ، وبه قال وابن عباس ، سعيد بن جبير ، وعطاء وسفيان الثوري ، وأحمد بن حنبل ، عليهم الرحمة ، وذكر ومالك ابن المنير أن جده أبا العباس أحمد بن فارس كان يستنبط من تغاير الحرفين المذكورين دليلا على أن الغرض بيان المصرف واللام لذلك فيقول : متعلق الجار الواقع خبرا عن الصدقات محذوفا، فإما أن يكون التقدير إنما الصدقات مصروفة للفقراء كما يقول مالك ومن معه أو مملوكة للفقراء كما يقول الشافعي لكن الأول متعين لأنه تقدير يكتفي به في الحرفين جميعا ويصح تعلق اللام ( وفي ) معا به فيصح أن يقال : هذا الشيء مصروف في كذا ولكذا بخلاف تقدير مملوكة فإنه إنما يلتئم مع اللام وعند الانتهاء إلى ( في ) يحتاج إلى تقدير مصروفة ليلتئم بها فتقديره من الأول عام التعلق شامل الصحة متعين ا هـ ، وبالجملة لا يخفى قوة منزع الأئمة الثلاثة في الأخذ .
ولذا اختار بعض الشافعية ما ذهبوا إليه ، وكان والد العلامة البيضاوي عمر بن محمد وهو مفتي الشافعية في عصره يفتي به ( فريضة من الله ) مصدر مؤكد لمقدر مأخوذ من معنى الكلام أي فرض لهم الصدقات فريضة ، ونقل عن أنه منصوب بفعله مقدرا أي فرض الله تعالى ذلك فريضة ، واختار سيبويه كونه حالا من الضمير المسكن في قوله تعالى : ( أبو البقاء للفقراء ) أي : إنما الصدقات كائنة لهم حال كونها فريضة أي مفروضة ، قيل : ودخلته التاء لإلحاقه بالأسماء كنطيحة ( والله عليم ) بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم ( حكيم ) لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي من جملتها سوق الحقوق إلى مستحقيها .