أخرج ، ابن جرير وابن المندر ، عن وابن أبي حاتم قال : قتادة ذكر لنا أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، فظهر الغفاري على الجهيني فقال عبد الله بن أبي للأوس انصروا أخاكم، والله ما مثلنا ومثل محمد صلى الله عليه وسلم وحاشاه مما يقول هذا المنافق إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فجعل يحلف بالله تعالى ما قاله فنزلت .
وأخرج ابن إسحاق عن وابن أبي حاتم قال : كعب بن مالك الجلاس بن سويد : والله لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير، فسمعهما عمير بن سعد فقال : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنهم عندي أثرا، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن سكت عنها لتهلكني ولإحداهما أشد علي من الأخرى فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال الجلاس، فحلف بالله تعالى ما قال ولقد كذب علي عمير فنزلت . لما نزل القرآن فيه ذكر المنافقين قال
وأخرج عن عبد الرزاق ابن سيرين عمير قال : وفت أذنك يا غلام وصدقك ربك وكان يدعو حين حلف الجلاس: اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب ، وأخرج عن أنها لما نزلت أخذ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأذن أن عروة الجلاس تاب بعد نزولها وقبل منه ، وأخرج ، ابن جرير ، وأبو الشيخ ، والطبراني عن وابن مردويه رضي الله تعالى عنهما قال : ابن عباس ، وإسناد الحلف إلى ضمير الجمع على هذه الرواية ظاهر، وأما على الروايتين الأوليين فقيل : لأنهم رضوا بذلك واتفقوا عليه فهو من إسناد الفعل إلى سببه، أو لأنه جعل الكلام لرضاهم به كأنهم فعلوه ولا حاجة إلى عموم المجاز لأن الجمع بين الحقيق والمجاز جائز في المجاز العقلي وليس محلا لخلاف ، وإيثار صيغة الاستقبال في ( يحلفون ) على سائر الروايات لاستحضار الصورة أو للدلالة على تكرير الفعل وهو قائم مقام القسم ، و كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق العينين فدعاه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله تعالى ما قالوا حتى تجاوز عنهم، وأنزل الله تعالى الآية ما قالوا جوابه ولقد قالوا كلمة الكفر [ ص: 139 ] هي ما حكي من قولهم: والله ما مثلنا إلخ، أو والله لئن كان هذا الرجل صادقا إلخ، أو الشتم الذي وبخ عليه عليه الصلاة والسلام ، والجملة مع ما عطف عليها اعتراض وكفروا بعد إسلامهم أظهروا ما في قلوبهم من الكفر بعد إظهار الإسلام وإلا فكفرهم الباطن كان ثابتا قبل والإسلام الحقيقي لا وجود له وهموا بما لم ينالوا من الفتك برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين رجع من غزوة تبوك .
أخرج في الدلائل عن البيهقي حذيفة بن اليمان قال: " وعمار يسوق، أو أنا أسوق وعمار يقود، حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوا فيها فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرخ بهم فولوا مدبرين، فقال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : هل عرفتم القوم؟ قلنا : لا يا رسول الله كانوا متلثمين، ولكن قد عرفنا الركاب، قال : هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة ، هل تدرون ما أرادوا؟ قلنا : لا ، قال : أرادوا أن يزلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة فيلقوه منها، قلنا : يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث لك كل قوم برأس صاحبهم قال : أكره أن يتحدث العرب عنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله تعالى بهم أقبل عليهم يقتلهم ، ثم قال : اللهم ارمهم بالدبيلة ، قلنا : يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال : شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك " وكانوا كلهم كما أخرج كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقود به عن ابن سعد نافع بن جبير من الأنصار أو من حلفائهم ليس فيهم قرشي ، ونقل الطبرسي عن رضي الله تعالى عنه أن ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب لا يعول عليه . الباقر
وقد ذكر من رواية البيهقي أسماءهم وعد منهم ابن إسحاق الجلاس بن سويد ، ويشكل عليه رواية أنه تاب وحسنت توبته مع قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر " " إلا أن يقال : إن ذلك باعتبار الغالب ، وقيل : المراد بالموصول إخراج المؤمنين من هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة المدينة على ما تضمنه الخبر المار عن ، وأخرج قتادة عن ابن أبي حاتم ، السدي عنه وعن وأبو الشيخ أبي صالح أنهم أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي بتاج ويجعلوه حكما ورئيسا بينهم وإن لم يرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : أرادوا أن يقتلوا عميرا لرده على الجلاس كما مر .
وما نقموا أي : ما كرهوا وعابوا شيئا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فالاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي وما نقموا الإيمان لأجل شيء إلا لإغناء الله تعالى إياهم فيكون الاستثناء مفرغا من أعم العلل وهو على حد قولهم : ما لي عندك ذنب إلا أني أحسنت إليك ، وقوله :
ما نقم الناس من أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
وهو متصل على ادعاء دخوله بناء على القول بأن الاستثناء المفرغ لا يكون منقطعا ، وفيه تهكم وتأكيد الشيء بخلافه كقوله :ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
البيت ، وأصل النقمة كما قال الإنكار باللسان والعقوبة، والأمر على الأول ظاهر، وأما على الثاني فيحتاج إلى ارتكاب المجاز بأن يراد وجدان ما يورث النقمة ويقتضيه ، وضمير ( أغناهم ) للمنافقين على ما هو الظاهر ، وكان إغناؤهم بأخذ الدية ، فقد روي أنه كان الراغب للجلاس مولى قتل وقد غلب على ديته فأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بها اثني عشر ألفا فأخذها واستغنى ، وعن قتادة أن الدية كانت لعبد الله بن أبي وزيادة الألفين كانت على عادتهم في الزيادة على الدية تكرما، وكانوا يسمونها شنقا كما في الصحاح ، وأخرج ابن أبي حاتم عن قال : كان عروة جلاس تحمل حمالة أو كان عليه دين فأدى عنه [ ص: 140 ] رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك قوله سبحانه : وما نقموا الآية ، ولا يخفى أن الإغناء على الأول أظهر ، وقيل : كان إغناؤهم بما من الله تعالى به من الغنائم فقد كانوا كما قال قبل قدوم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الكلبي المدينة محاويج في ضنك من العيش، فلما قدم عليه الصلاة والسلام أثروا بها ، والضمير على هذا يجوز أن يكون للمؤمنين فيكون الكلام متضمنا ذم المنافقين بالحسد كما أنه على الأول متضمن لذمهم بالكفر وترك الشكر ، وتوحيد ضمير فضله لا يخفى وجهه فإن يتوبوا عما هم عليه من القبائح ( يك ) أي : التوب ، وقيل : أي التوبة، ويغتفر مثل ذلك في المصادر .
وقد يقال : التذكير باعتبار الخبر أعني قوله سبحانه : ( خيرا لهم ) أي في الدارين ، وهذه الآية على ما في بعض الروايات كانت سببا لتوبته وحسن إسلامه لطفا من الله تعالى به وكرما وإن يتولوا أي استمروا على ما كانوا عليه من التولي والإعراض عن إخلاص الإيمان أو أعرضوا عن التوبة .
يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا بمتاعب النفاق وسوء الذكر ونحو ذلك ، وقيل : المراد بعذاب الدنيا عذاب القبر أو ما يشاهدونه عند الموت ، وقيل : المراد به القتل ونحوه على معنى أنهم يقتلون إن أظهروا الكفر بناءا على أن التولي مظنة الإظهار فلا ينافي ما تقدم من أنهم لا يقتلون وأن الجهاد في حقهم غير ما هو المتبادر .
( والآخرة ) وعذابهم فيها بالنار وغيرها من أفانين العقاب وما لهم في الأرض أي في الدنيا ، والتعبير بذلك للتعميم أي ما لهم في جميع بقاعها وسائر أقطارها من ولي ولا نصير ينقذهم من العذاب بالشفاعة أو المدافعة ، وخص ذلك في الدنيا لأنه لا ولي ولا نصير لهم في الآخرة قطعا فلا حاجة لنفيه .