ولا تصل على أحد منهم مات أبدا إشارة إلى إهانتهم بعد الموت .
أخرج عن البخاري رضي الله تعالى عنهما قال : " ابن عمر عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه، [ ص: 154 ] فقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليصلي فقام فأخذ بثوب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إنما خيرني الله فقال : ( عمر استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة ) وسأزيده على السبعين. قال : إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأنزل الله سبحانه : ولا تصل على أحد منهم الآية " . وفي رواية أخرى له عن لما توفي عن ابن عباس عمر بن الخطاب عبد الله بن أبي ابن سلول دعي له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام وثبت إليه فقلت : يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال : " أخر عني يا " فلما أكثرت عليه قال : " أخر عني لو أعلم لو زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها " قال فصلى عليه عليه الصلاة والسلام ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة عمر ولا تصل على أحد منهم إلى قوله : وهم فاسقون فعجبت من جراءتي على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وظاهر هذين الخبرين أنه لم ينزل بين أنه لما مات استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، وقوله تعالى : ولا تصل على أحد منهم شيء ينفع رضي الله تعالى عنه وإلا لذكر ، والظاهر أن مراده بالنهي في الخبر الأول ما فهمه من الآية الأولى لا ما يفهم كما قيل من قوله تعالى : عمر ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين لعدم مطابقة الجواب حينئذ كما لا يخفى ، وأخرج ، وغيره عن أبو يعلى أنس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أراد أن يصلي على ابن أبي فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال : ولا تصل الآية ، وأكثر الروايات أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صلى عليه، وأن رضي الله تعالى عنه أحب عدم الصلاة عليه، وعد ذلك أحد موافقاته للوحي وإنما لم ينه صلى الله تعالى عليه وسلم عن التكفين بقميصه ونهى عن الصلاة عليه لأن الضنة بالقميص كانت مظنة الإخلال بالكرم على أنه كان مكافأة لقميصه الذي ألبسه عمر رضي الله تعالى عنه حين أسر ببدر، فإنه جيء به رضي الله تعالى عنه ولا ثوب عليه، وكان طويلا جسيما، فلم يكن ثوب بقدر قامته غير ثوب العباس ابن أبي فكساه إياه ، وأخرج عن أبو الشيخ قتادة أنهم ذكروا القميص بعد نزول الآية فقال عليه الصلاة والسلام : " وما يغنى عنه قميصي والله إني لأرجو أن يسلم به أكثر من ألف من بني الخزرج " وقد حقق الله تعالى رجاء نبيه كما في بعض الآثار والأخبار فيما كان منه عليه الصلاة والسلام مع ابن أبي من الصلاة عليه وغيرها لا تخلو عن التعارض ، وقد جمع بينهما حسبما أمكن علماء الحديث ، وفي لباب التأويل نبذة من ذلك فليراجع .
والمراد من الصلاة المنهي عنها صلاة الميت المعروفة وهي متضمنة للدعاء والاستغفار والاستشفاع له، قيل : والمنع عنها لمنعه عليه الصلاة والسلام من الدعاء للمنافقين المفهوم من الآية السابقة أو من قوله سبحانه : ( ما كان للنبي ) إلخ ، وقيل : هي هنا بمعنى الدعاء ، وليس بذاك ، و ( أبدا ) ظرف متعلق بالنهي ، وقيل : متعلق بمات ، والموت الأبدي كناية عن الموت على الكفر لأن المسلم يبعث ويحيا حياة طيبة ، والكافر وإن بعث لكنه للتعذيب فكأنه لم يحي ، وزعم بعضهم أنه لو تعلق بالنهي لزم أن لا تجوز الصلاة على من تاب منهم ومات على الإيمان مع أنه لا حاجة للنهي عن الصلاة عليهم إلى قيد التأبيد ، ولا يخفى أنه أخطأ ولم يشعر بأن ( منهم ) حال من الضمير في مات أي مات حال كونه منهم أي متصفا بصفتهم وهي النفاق كقولهم : أنت مني يعني على طريقتي وصفتي كما صرحوا به على أنه لو جعل الجار والمجرور صفة لأحد لا يكاد يتوهم ما ذكر وكيف يتوهم مع قوله تعالى الآتي: إنهم كفروا إلخ ، وقوله : مع أنه لا حاجة إلى النهي إلخ لظهور ما فيه لا حاجة إلى ذكره ، و ( مات ) ماض باعتبار [ ص: 155 ] سبب النزول وزمان النهي، ولا ينافي عمومه وشموله لمن سيموت ، وقيل : إنه بمعنى المستقبل وعبر به لتحققه; والجملة في موضع الصفة لأحد ولا تقم على قبره أي لا تقف عليه ولا تتول دفنه من قولهم : قام فلان بأمر فلان إذا كفاه إياه وناب عنه فيه ، ويفهم من كلام بعضهم أن ( على ) بمعنى عند ، والمراد لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة ، والقبر في المشهور مدفن الميت ويكون بمعنى الدفن وجوزوا إرادته هنا أيضا .
وفي فتاوى الجلال السيوطي هل يفسر القيام هنا بزيارة القبور وهل يستدل بذلك على أن الحكمة في زيارته صلى الله تعالى عليه وسلم قبر أمه أنه حيائها لتؤمن به بدليل أن تاريخ الزيارة كان بعد النهي؟
الجواب المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة ، ويحتمل أن يعم الزيارة أيضا أخذا من الإطلاق، وتاريخ الزيارة كان قبل النهي لا بعده، فإن الذي صح في الأحاديث أنه صلى الله تعالى عليه وسلم زارها عام الحديبية والآية نازلة بعد غزوة تبوك ، ثم الضمير في ( منهم ) خاص بالمنافقين وإن كان بقية المشركين يلحقون بهم قياسا ، وقد صح في حديث الزيارة أنه استأذن ربه في ذلك فأذن له، وهذا الإذن عندي يستدل به على أنها من الموحدين لا من المشركين كما هو اختياري ، ووجه الاستدلال به أنه نهاه عن القيام على قبور الكفار وأذن له في القيام على قبر أمه فدل على أنها ليست منهم، وإلا لما كان يأذن له فيه ، واحتمال التخصيص خلاف الظاهر ويحتاج إلى دليل صريح ، ولعله عليه الصلاة والسلام كان عنده وقفة في صحة توحيد من كان في الجاهلية حتى أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بصحة ذلك ، فلا يرد أن استئذانه يدل على خلاف ذلك وإلا لزارها من غير استئذان اهـ وفي كون المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة خفاء إذ المتبادر من القيام على القبر ما هو أعم من ذلك، نعم كان مندوبا ولعله لشيوع ذلك إذ ذاك أخذ في مفهوم القيام على القبر ما أخذ . الوقوف بعد الدفن قدر نحر جزور
وفي جواز خلاف، وكثير من القائلين بعدم الجواز حمل القيام على ما يعم الزيارة، ومن أجاز استدل بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : " زيارة قبور الكفار فزوروها فإنها تذكركم الآخرة زيارة القبور " فإنه عليه الصلاة والسلام علل الزيارة بتذكير الآخرة ولا فرق في ذلك بين زيارة قبور المسلمين وقبور غيرهم ، وتمام البحث في موضعه والاحتياط عندي عدم زيارة قبور الكفار كنت نهيتكم عن إنهم كفروا بالله ورسوله جملة مستأنفة سيقت لتعليل النهي على معنى أن الصلاة على الميت والاحتفال به إنما يكون لحرمته وهم بمعزل عن ذلك لأنهم استمروا على الكفر بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم مدة حياتهم وماتوا وهم فاسقون أي متمردون في الكفر خارجون عن حدوده .