صور جهاد المؤمنين وبذل أموالهم وأنفسهم فيه وإثابة الله تعالى لهم على ذلك الجنة بالبيع والشراء وأتى بقوله سبحانه: يقاتلون إلخ بيانا لمكان التسليم وهو المعركة وإليه الإشارة بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ثم أمضاه جل شأنه بقوله ذلك الفوز العظيم ومن هنا أعظم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أمر هذه الآية، فقد أخرج الجنة تحت ظلال السيوف ابن أبي حاتم عن وابن مردويه قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في المسجد جابر بن عبد الله إن الله اشترى إلخ فكثر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال: نعم فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل . ومن الناس من قرر وجه المبالغة بأنه سبحانه عبر عن قبوله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تعالى وإثابته إياهم بمقابلتها الجنة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية ثم جعل [ ص: 27 ] المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد أنفس المؤمنين وأموالهم والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة، ولم يعكس بأن يقال: إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصد بالعقد هو الجنة وما بذله المؤمنون في مقابلتها وسيلة إليها بكمال العناية بهم وبأموالهم، ثم إنه تعالى لم يقل بالجنة بل قال عز شأنه: بأن لهم الجنة مبالغة في تقرير وصول الثمن إليهم واختصاصه بهم كأنه قيل: بالجنة الثابتة لهم المختصة بهم ومن هنا يعلم أن هذه القراءة أبلغ من قراءة ونسبت أيضا إلى الأعمش عبد الله رضي الله تعالى عنه بالجنة على أنها أوفق بسبب النزول . فقد أخرج عن ابن جرير وغيره أنهم قالوا: محمد بن كعب القرظي لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت . قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم . قالوا: فما لنا؟ قال: الجنة . قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل . فنزلت: إن الله اشترى عبد الله بن رواحة الآية قال
وقيل: عبر بذلك مدحا للمؤمنين بأنهم بذلوا أنفسهم وأموالهم بمجرد الوعد لكمال ثقتهم بوعده تعالى مع أن تمام الاستعارة موقوف على ذلك إذ لو قيل بالجنة لاحتمل كون الشراء على حقيقته لأنها صالحة للعوضية بخلاف الوعد بها واعترض بأن مناط دلالة ما عليه النظم الجليل على الوعد ليس كونه جملة ظرفية مصدرة بأن فإن ذلك بمعزل من الدلالة على الاستقبال بل هو الجنة التي يستحيل وجودها في عالم الدنيا ولو سلم ذلك بكون العوض الجنة الموعود بها لا نفس الوعد بها على أن حديث احتمال كون الشراء حقيقة لو قيل بالجنة يخلو عن نظر كما قيل لأن حقيقة الشراء مما لا يصح منه تعالى لأنه جل شأنه مالك الكل والشراء إنما يكون ممن لا يملك، ولهذا قال الفقهاء: طلب الشراء يبطل دعوى الملكية نعم قد لا يبطل في بعض الصور كما إذا اشترى الأب دارا لطفله من نفسه فكبر الطفل ولم يعلم ثم باعها الأب وسلمها للمشتري ثم طلب الابن شراءها منه ثم علم بما صنع أبوه فادعى الدار فإنه تقبل دعواه ولا يبطلها ذلك الطلب كما يقتضيه كلام الأستروشني لكن هذا لا يضرنا فيما نحن فيه . ومن المحققين من وجه دلالة ما في النظم الكريم على الوعد بأنه يقتضي بصريحه عدم التسليم وهو عين الوعد لأنك إذا قلت: اشتريت منك كذا بكذا احتمل النقد بخلاف ما إذا قلت: بأن لك كذا فإنه في معنى لك علي كذا وفي ذمتي واللام هنا ليست للملك إذ لا يناسب شراء ملكه بملكه كالممهورة إحدى خدمتيها فهي للاستحقاق وفيه إشعار بعدم القبض، وأما كون تمام الاستعارة موقوفا على ذلك فله وجه أيضا حيث كان المراد بالاستعارة الاستعارة التمثيلية إذ لولاه لصح جعل الشراء مجازا عن الاستبدال مثلا وهو مما لا ينبغي الالتفات إليه مع تأتي التمثيل من البلاغة واللطائف على ما لا يخفى لكن أنت خبير بأن الكلام بعد لا يخلو عن بحث، ومما أشرنا إليه من فضيلة التمثيل يعلم انحطاط القول باعتبار الاستعارة أو المجاز المرسل في اشترى وحده كما ذهب إليه البعض، وقوله تعالى: يقاتلون في سبيل الله قيل: بيان لمكان التسليم كما أشير إليه فيما تقدم، وذلك لأن البيع سلم كما قال الطيبي وغيره وقيل: بيان لما لأجله الشراء كأنه لما قال سبحانه: إن الله اشترى إلخ قيل: لماذا فعل ذلك؟ فقيل: ليقاتلوا في سبيله تعالى وقيل: بيان للبيع الذي يستدعيه الاشتراء المذكور كأنه قيل: كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل: يقاتلون في سبيله عز شأنه وذلك بذل منهم لأنفسهم وأموالهم إلى جهته تعالى وتعريض لهما للهلاك . [ ص: 28 ] وقيل: بيان لنفس الاشتراء وقيل: ذكر لبعض ما شمله الكلام السابق اهتماما به على أن معنى ذلك أنه تعالى اشترى من المؤمنين أنفسهم بصرفها في العمل الصالح وأموالهم ببذلها فيما يرضيه وهو في جميع ذلك خبر لفظا ومعنى ولا محل له من الإعراب . وقيل: إنه في معنى الأمر كقوله سبحانه: (وتجاهدون بأموالكم وأنفسكم) ووجه ذلك بأنه أتى بالمضارع بعد الماضي لإفادة الاستمرار كأنه قيل: اشتريت منكم أنفسكم في الأزل وأعطيت ثمنها الجنة فسلموا المبيع واستمروا على القتال، ولا يخفى ما في بعض هذه الأقوال من النظر . وانظر هل ثم مانع من جعل الجملة في موضع الحال كأنه قيل: اشترى منهم ذلك حال كونهم مقاتلين في سبيله فإني لم أقف على من صرح بذلك مع أنه أوفق الأوجه بالاستعارة التمثيلية، تأمل .
وقوله سبحانه: فيقتلون ويقتلون بيان لكون القتال في سبيل الله تعالى بذلا للنفس وأن المقاتل في سبيله تعالى باذل لها وإن كانت سالمة غانمة، فإن الإسناد في الفعلين ليس بطريق اشتراط الجمع بينهما ولا اشتراط الاتصاف بأحدهما البتة بل بطريق وصف الكل بحال البعض، فإنه يتحقق القتال من الكل سواء وجد الفعلان أو أحدهما منهم أو من بعضهم بل يتحقق ذلك وإن لم يصدر منهم أحدهما أيضا، كما إذا وجد المضاربة ولم يوجد القتل من أحد الجانبين، ويفهم كلام بعضهم أنه يتحقق الجهاد بمجرد العزيمة والنفير وتكثير السواد وإن لم توجد مضاربة وليس بالبعيد لما أن في ذلك تعريض النفس للهلاك أيضا، والظاهر أن أجور المجاهدين مختلفة قلة وكثرة وإن كان هناك قدر مشترك بينهم . ففي صحيح قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مسلم . وفي رواية أخرى: ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم . وزعم بعضهم أنهم في الأجر سواء ولا ينقص أجرهم بالغنيمة، واستدلوا عليه بما في الصحيحين من أن المجاهد يرجع بما نال من أجر وغنيمة، وبأن أهل ما من غازية أو سرية تغزو وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم، وما من غازية أو سرية تحنق وتصاب إلا أتم أجورهم بدر غنموا وهم هم ويرد عليه أن خبر الصحيحين مطلق وخبر مقيد فيجب حمله عليه، وبأنه لم يجئ نص في أهل مسلم بدر أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم على قدر أجرهم وقد غنموا فقط، وكونهم هم هم لا يلزم منه أن لا يكون وراء مرتبتهم مرتبة أخرى أفضل منها، والقول بأن في السند أبا هانئ وهو مجهول فلا يعول على خبره غلط فاحش فإنه ثقة مشهور روى عنه الليث بن سعد وحيوة وابن وهب وخلائق من الأئمة ويكفي في توثيقه احتجاج به في صحيحه، ومثل هذا ما حكاه مسلم القاضي عن بعضهم من أن تعجل ثلثي الأجر إنما هو في غنيمة أخذت على غير وجهها إذ لو كانت كذلك لم يكن ثلث الأجر، وكذا ما قيل: من أن الحديث محمول على من خرج بنية الغزو والغنيمة معا فإن ذلك ينقص ثوابه لا محالة، فالصواب أن أجر من لم يغنم أكثر من أجر من غنم لصريح ما ذكرناه الموافق لصرائح الأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم . ويعلم من ذلك أن أجر من قتل أكثر من أجر من قتل لكون الأول من الشهداء دون الثاني، وظاهر ما أخرجه مسلم من رواية : أبي هريرة . أن من قتل في سبيل الله تعالى فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله تعالى فهو شهيد سواء في الأجر وهو الموافق لمعنى قوله تعالى: القتل في سبيل الله تعالى والموت فيها ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله واستدل له أيضا بعض [ ص: 29 ] العلماء بغير ذلك مما لا دلالة فيه عليه كما نص عليه النووي رحمه الله تعالى، وتقديم حالة القاتلية في الآية على حالة المقتولية للإيذان بعدم الفرق بينهما في كونهما مصداقا لكون القتال بذلا للنفس، وقرأ حمزة بتقديم المبني للمفعول رعاية لكون الشهادة عريقة في هذا الباب إيذانا بعدم مبالاتهم بالموت في سبيل الله تعالى بل بكونه أحب إليهم من السلامة كما قال والكسائي كعب بن زهير في حقهم:
لا يفرحون إذا نالت رماحهم قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا لا يقع الطعن إلا في نحورهم
وما لهم عن حياض الموت تهليل
أثامن بالنفس النفيسة ربها فليس لها في الخلق كلهم
ثمن بها أشتري الجنات إن أنا بعتها بشيء سواها إن ذلكم غبن
إذا ذهبت نفسي بدنيا أصبتها فقد ذهبت مني وقد ذهب الثم