عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
بل على طريق التبيين كما في هيت لك وسقيا لك ومثل ذلك يجوز تقديمه على المصدر وأنت تعلم أن هذا قول بالتعلق بمقدر في التحقيق وقيل: إنها متعلقة به لأنه بمعنى المعجب والمصدر إذا كان بمعنى مفعول أو فاعل يجوز تقديم معموله عليه وجوز أيضا تعلقه بكان وإن كانت ناقصة بناء على جوازه و عجبا خبر كان قدم على اسمها وهو قوله سبحانه: أن أوحينا لكونه مصب الإنكار والتعجيب وتشويقا إلى المؤخر ولأن في الاسم ضرب تفصيل ففي تقديمه رعاية للأصل نوع إخلال بتجاوب أطراف النظم الكريم وقرأ (عجب) بالرفع على أنه اسم كان وهو نكرة والخبر ابن مسعود أن أوحينا وهو معرفة لأن أن مع الفعل في تأويل المصدر المضاف إلى المعرفة فهو كقول حسان:
كأن سبيئة من بين رأس يكون مزاجها عسل وماء
وحمله بعضهم على القلب وفي قبوله مطلقا أو إذا تضمن لطيفة خلاف والمعول عليه اشتراط التضمن وهو غير ظاهر هنا، وحكي عن أنه قال: إنما جاز ذلك في البيت من حيث كان عسل وماء جنسين فكأنه قال: يكون مزاجها العسل والماء ونكرة الجنس تفيد مفاد معرفته ألا ترى أنك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب أي فإذا الأسد بالباب لا فرق بينهما لأنك في الموضعين لا تريد أسدا معينا ولهذا لم يجز هذا في قولك: كان قائم أخاك وكان جالس أباك لأنه ليس في جالس وقائم معنى الجنسية التي تتلاقى معنى نكرتها ومعرفتها ابن جنيومعنى الآية على هذا كان الوحي للناس هذا الجنس من الفعل وهو التعجب ولا يخفى أن المصدر المتحصل هو المصدر المضاف إلى المعرفة كما سمعت فاعتباره محلى بأل الجنسية خلاف الظاهر وأجاز بعضهم الإخبار عن المعرفة بالنكرة في باب النواسخ خاصة سواء كان هناك نفي أو ما في حكمه أم لا . وابن جني يجوز ذلك إذا كان نفي أو ما في حكمه ولا يجوز إذا لم يكن وفي الآية قد تقدم الاستفهام الإنكاري على الناسخ وهو في حكم النفي واختار غير واحد كون كان تامة و (عجب) فاعل لها و أن أوحينا بتقدير حرف جر متعلق بعجب أي لأن أوحينا أو من أن أوحينا أو هو بدل منه كل من كل أو بدل اشتمال والإنكار متوجه إلى كونه عجبا لا إلى حدوثه وكون الإبدال في حكم تنحية المبدل منه ليس معناه إهداره بالمرة كما تقرر في موضعه واقتصر في اللوامح على أن للناس خبر كان وتعقب بأنه ركيك معنى لأنه يفيد إنكار صدوره من الناس لا مطلقا وفيه ركاكة ظاهرة فافهم وإنما قيل: للناس لا عند الناس للدلالة على أنهم اتخذوه أعجوبة لهم وفيه من زيادة تقبيح حالهم ما لا يخفى إلى رجل منهم أي إلى بشر من جنسهم كقوله تعالى حكاية: أبعث الله بشرا رسولا وقوله سبحانه: لو شاء ربنا لأنزل ملائكة أو إلى رجل من أفناء رجالهم من حيث المال لا من حيث النسب لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان من مشاهيرهم فيه وكان منه بمكان لا يدفع فهو كقولهم: مبحث في تفسير قوله تعالى: أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم إلخ [ ص: 61 ] لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وفي بعض الآثار أنهم كانوا يقولون: العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب والعجب من فرط جهلهم أما في قولهم الأول فحيث لم يعلموا أن بعث الملك إنما يكون عند كون المبعوث إليهم ملائكة كما قال تعالى: قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا وأما عامة البشر فبمعزل عن استحقاق مفاوضة الملائكة لأنها منوطة بالتناسب فبعث الملك إليهم مزاحم للحكمة التي عليها يدور فلك التكوين والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمة بعث الملك من بينهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحاني والجسماني ليتأتى لهم الاستفاضة والإفاضة وهذا تابع للاستعداد الأزلي كما لا يخفى وأما في قولهم الثاني فلأن مناط الاصطفاء للإيحاء إلى شخص هو التقدم في الاتصاف بما علمت والسبق في إحراز الفضائل وحيازة الملكات السنية جبلة واكتسابا ولا ريب لأحد في أن للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم القدح المعلى من ذلك بل له عليه الصلاة والسلام فيه غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية يقول رائيه
وأحسن منك لم تر قط عيني ومثلك قط لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
لكن من رزق الحجا حرم الغنى
ضدان مفترقان أي تفرق
[ ص: 62 ] فلما كرر الله سبحانه عليهم الحجج قالوا: وإذا كان بشرا فغير محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كان أحق بالرسالة فلولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فأنزل الله تعالى ردا عليهم أهم يقسمون رحمت ربك الآية ومنه يعلم أن ما حكي في الوجه الثاني سبب لنزول آية أخرى أن أنذر الناس أي أخبرهم بما فيه تخويف لهم مما يترتب على فعل ما لا ينبغي والمراد به جميع الناس الذين يمكنه عليه الصلاة والسلام تبليغهم ذلك لا ما أريد بالناس أولا وهو النكتة في إيثار الإظهار على الإضمار وكون الثاني عين الأول عند إعادة المعرفة ليس على الإطلاق و (أن) هي المفسرة لمفعول الإيحاء المقدر وقد تقدم عليها ما فيه معنى القول دون حروفه وهو الإيحاء أو هي المخففة من المثقلة على أن اسمها ضمير الشأن والجملة الأمرية خبرها وفي وقوعها خبر ضمير الشأن دون تأويل وتقدير قول اختلاف فذهب صاحب الكشف إلى أنه لا يحتاج إلى ذلك لأن المقصود منها التفسير وخالفه غير واحد في ذلك وذهبوا إلى أنه لا فرق بين خبره وخبر غيره
وقال بعضهم: هي المصدرية الخفيفة في الوضع بناء على أنها توصل بالأمر والنهي والكثير على المنع وذكر هذا الاحتمال هنا مع أنه نقل عنه في المغني أن مذهبه المنع لما أنه يفوت معنى الأمر إذا سبك بالمصدر أبو حيان
واعترض بأنه يفوت معنى المضي والحالية والاستقبال المقصود أيضا مع الاتفاق على جواز وصلها بما يدل على ذلك وأجيب بأنه قد يقال: بأن بينهما فرقا فإن المصدر يدل على الزمان التزاما فقد تنصب عليه قرينة فلا يفوت معناه بالكلية بخلاف الأمر والنهي فإنه لا دلالة للمصدر وعليهما أصلا . وقال بعض المدققين: إن المصدر كما يجوز أخذه من جوهر الكلمة يجوز أخذه من الهيئة وما يتبعها فيقدر في هذا ونحوه أوحينا إليه الأمر بالإنذار كما قدر في - أن لا تزني خير - عدم الزنا خير ولا يخفى أن هذا البحث يجري في أن المخففة من الثقيلة لأنها مصدرية أيضا وإن أقل الاحتمالات مؤنة احتمال التفسير وبشر الذين آمنوا بما أوحيناه إليك وصدقوه أن لهم أي بأن لهم قدم صدق أي سابقة ومنزلة رفيعة عند ربهم وأصل القدم العضو المخصوص وأطلقت على السبق مجازا مرسلا لكونها سببه وآلته وأريد من السبق الفضل والشرف والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة مجازا أيضا فالمجاز هنا بمرتبتين وقيل: المراد تقدمهم على غيرهم في دخول الجنة لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة . وقيل: تقدمهم في البعث وأصل الصدق ما يكون في الأقوال ويستعمل كما قال إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى أدخلها أنا وعلى الأمم حتى تدخلها أمتي في الأفعال فيقال: صدق في القتال إذا وفاه حقه وكذا في ضده يقال: كذب فيه فيعبر به عن كل فعل فاضل ظاهرا وباطنا ويضاف إليه كمقعد صدق ومدخل صدق ومخرج صدق إلى غير ذلك وصرحوا هنا بأن الإضافة من إضافة الموصوف إلى صفته والأصل قدم صدق أي محققة مقررة وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق ثم جعل الصدق كأنه صاحبها ويحتمل أن تكون الإضافة من إضافة المسبب إلى السبب وفي ذلك تنبيه على أن ما نالوه من المنازل الرفيعة كان بسبب صدق القول والنية الراغب
وقال بعضهم: إن هذا التنبيه قد يحصل على الاعتبار الأول لأن الصدق قد تجوز به عن توفية الأمور الفاضلة حقها للزوم الصدق لها حتى كأنها توجد بدونه ويكفي مثله في ذلك التنبيه وهذا كما قالوا: إن أبا لهب [ ص: 63 ] يشير إلى أنه جهنمي وفيه خفاء كما لا يخفى ويجوز إلى يراد بالقدم المقام بإطلاق الحال وإرادة المحل وعن أن القدم الشيء الذي تقدمه قدامك ليكون عدة لك حين تقدم عليه ويشعر بأنه اسم مفعول وبه صرح بعضهم وقال إنه كالنقض وقيل: إنه اسم للحسنى من العبد كما أن اليد اسم للحسنى من السيد وفعلوا ذلك للفرق بين العبد والسيد وهو من الغرابة بمكان ولا يكاد يصح في قول الأزهري ذي الرمة:
لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العادي طمت على البحر
وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة لهم قدم معروفة في المفاخر
لنا القدم العليا إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
صل لذي العرش واتخذ قدما تنجيك يوم العثار والزلل
وقال صاحب الانتصاف لم يسموا سابقة السوء قدما إما لكون المجاز يطرد وإما لأنه غلب في العرف على سابقة الخير وفيه نظر وتفسير رضي الله تعالى عنهما له بالأجر ابن عباس بالعمل لا يخرج عما ذكرنا من معانيه وكذا تفسير وابن مسعود كرم الله تعالى وجهه علي وأبي سعيد الخدري والحسن له برأس الموجودات وزيد بن أسلم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يرجع إلى تفسيره بالخير والسعادة كما قاله جمع وكونه صلى الله تعالى عليه وسلم خيرا وسعادة للمؤمنين مما لا يمتري فيه مؤمن أو يقال: إن المراد شفاعته صلى الله تعالى عليه وسلم والأمر في ذلك حينئذ في غاية الظهور وخص التبشير بالمؤمنين لأنه لا يتعلق بالكفار وتبشيرهم إن آمنوا راجع إلى تبشير المؤمنين وهذا بخلاف الإنذار فإنه يتعلق بالمؤمن والكافر ولذلك ذكره سبحانه ولم يذكر جل وعلا المنذر به للتعميم والتهويل وذكر المبشر به على الوجه الذي ذكره لتقوى رغبة المؤمنين فيما يؤديهم إليه وقدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التحلية وإزالة ما لا ينبغي مقدمة في الرتبة على فعل ما ينبغي
قال الكافرون هم المتعجبون وإيرادهم بهذا العنوان على بابه وترك العاطف لجريانه مجرى البيان للجملة التي دخل عليها همزة الإنكار أو لكونه استئنافا مبنيا على السؤال كأنه قيل: ماذا صنعوا بعد التعجب هل بقوا على التردد والاستبعاد أو قطعوا فيه بشيء؟ فقيل: قال الكافرون على طريقة التأكيد إن هذا أي ما أوحي إليه صلى الله تعالى عليه وسلم من الكتاب المنطوي على الإنذار والتبشير وزعم الخازن أن في الكلام حذفا أي أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر وبشر فلما جاءهم بالوحي وأنذرهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين 2 أي ظاهر وقرأ والكوفيون (لساحر) على أن الإشارة إلى رجل وعنوا به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي قراءة ابن كثير : (ما هذا إلا سحر مبين) وأرادوا بالسحر الحاصل بالمصدر وفي هذا اعتراف بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر نازل من حضرة خلاق القوى والقدر ولكنهم [ ص: 64 ] يسمونه بما قالوا تماديا في العناد كما هو شنشنة المكابر اللجوح ونشنشة المفحم المحجوج أبي