فإلم يستجيبوا لكم الخطاب -على ما روي عن الضحاك- للمأمورين بدعاء من استطاعوا، وضمير الجمع الغائب عائد إلى من أي فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله تعالى إلى الإسعاد والمظاهرة على المعارضة لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه فاعلموا أنما أنزل بعلم الله أي ما أنزل إلا ملتبسا بعلمه تعالى لا بعلم غيره على ما تقتضيه كلمة (أنما) فإنها تفيد الحصر كالمكسورة على الصحيح، قيل: وهو معنى قول من قال: أي ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله تعالى ولا يقدر عليه سواه.
وادعى بعضهم أن الحصر إنما أفادته الإضافة كما في قوله تعالى: فلا يظهر على غيبه أحدا والمراد بما [ ص: 22 ] لا يعلمه غيره تعالى الكيفيات والمزايا التي بها الإعجاز والتحدي، وذكر عدم قدرة غيره سبحانه مما يقتضيه السياق، وإلا فالمذكور في النظم الكريم العلم دون القدرة، وقيل: ذاك لأن نفي العلم بالشيء يستلزم نفي القدرة لأنه لا يقدر أحد على ما لا يعلم، والجملة الشرطية داخلة في حيز القول، وإيراد كلمة الشك مع الجزم بعدم الاستجابة من جهة من يدعونه تهكم بهم وتسجيل عليهم بكمال سخافة العقل وترتيب الأمر بالعلم على مجرد عدم الاستجابة من حيث إنه مسبوق بالدعاء المسبوق بتعجيزهم واضطرارهم فكأنه قيل: فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائكم إليهم بعد ما اضطررتم إلى ذلك وضاعت عليكم الحيل وعيت بكم العلل ( فاعلموا ) إلخ.. أو من حيث إن من يدعونهم إلى المعارضة أقوى منهم في اعتقادهم، فإذا ظهر عجزهم بعدم استجابتهم، وإن كان ذلك قبل ظهور عجز أنفسكم يكون عجزهم أظهر وأوضح.
وبمجموع ما ذكرنا يظهر أن لا إشكال في الآية، ومما يقضي منه العجب قول العز بن عبد السلام في أماليه: إن ترتيب هذا المشروط يعني العلم على ذلك الشرط يعني عدم الاستجابة، مشكل، وكذا قوله سبحانه: أنزل بعلم الله مشكل أيضا إذ لا تصح الباء للسببية إذ ليس العلم سببا في إنزاله، ولا للمصاحبة إذ العلم لا يصحبه في إنزاله، وأن الجواب أنه ليس المراد بالعلم إلا علمنا نحن، وأضيف إليه عز وجل لأنه مخلوق له تعالى، ونظير ذلك ما في قوله جل وعلا: ولا نكتم شهادة الله حيث أضيفت الشهادة إلى الله سبحانه باعتبار أنه تعالى شرعها، والقرآن قد نزل بأدلة العلم بأحكام الله تبارك اسمه، فعبر بالمدلول عن الدليل، والتقدير فاعلموا أنما أنزل مصحوبا بانتشار علم الأحكام، وهي الأدلة، ولا شك أنه يناسب إذا عجزوا عن معارضته أن يعلموا أن هذه الآيات أدلة أحكام الله تعالى، انتهى. وليت شعري كيف غفل هذا العالم الماهر عن ذلك التفسير الظاهر، ولعله كما قيل: من شدة الظهور الخفاء وأن لا إله إلا هو أي: واعلموا أيضا أنه تعالى المختص بالألوهية وأحكامها وأن آلهتكم بمعزل عن رتبة الشركة له تعالى في ذلك.
فهل أنتم مسلمون . أي داخلون في الإسلام إذا لم يبق بعد شائبة شبهة في حقيته وفي بطلان ما أنتم فيه من الشرك، فيدخل فيه الإذعان بكون القرآن من عند الله تعالى دخولا أوليا، أو منقادون للحق الذي هو كون القرآن من عند الله تعالى وتاركون ما أنتم عليه من المكابرة والعناد، وفي الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال المانع؛ ولهذا جيء بالفاء، وفي التعبير –بمسلمون- دون تسلمون تأييد لما يقتضيه ترتيب ما ذكر على ما قبل بها من وجوبه بلا مهلة، قيل: وفي ذلك أيضا إقناط لهم من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله تعالى شأنه وعز سلطانه، وجوز أن يكون الضمير في (لكم) للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، ويؤيده أنه جاء في آية أخرى فإن لم يستجيبوا لك)، وروي ذلك عن ، وكان المناسب للأمر -بقل- الإفراد لكنه جمع للتعظيم، وهو لا يختص بضمير المتكلم كما قاله الرضي، ومن ذلك: وإن شئت حرمت النساء سواكم مجاهد
والجملة غير داخلة في حيز القول بل هي من قبله تعالى للحكم بعجزهم كقوله سبحانه: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ، وعبر بالاستجابة إيماء إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم على كمال الأمن من أمره كأن أمره عليه الصلاة والسلام لهم بالإتيان بمثله دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه، ويجوز أن يكون الضمير له صلى الله تعالى عليه وسلم وللمؤمنين لأنهم أتباع له صلى الله تعالى عليه وسلم في الأمر بالتحدي، وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم أن لا ينفكوا عنه [ ص: 23 ] عليه الصلاة والسلام ويناصبوا معه لمعارضة المعاندين كما كانوا يفعلونه في الجهاد، وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان، ولذلك رتب عليه ما ترتب.
والمراد بالعلم المأمور به ما هو في المرتبة العليا التي كأن ما عداها من مراتب العلم ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاط تلك المراتب بل بارتفاع هذه المرتبة، ويعلم من ذلك سر إيراد كلمة الشك مع القطع بعدم الاستجابة، فإن تنزيل سائر المراتب منزلة العدم مستتبع لتنزيل الجزم بعدم الاستجابة منزلة الشك. ويجوز أن يكون المأمور به الاستمرار على ما هم عليه من العلم، ومعنى ( مسلمون ) مخلصون في الإسلام أو ثابتون عليه، والكلام من باب التثبيت والترقية إلى معارج اليقين، واختار تفسير الآية بذلك الجبائي وغيره، وذكر شيخ الإسلام أنه أنسب بما سلف من قوله تعالى: وضائق به صدرك ولما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه: فلا تك في مرية منه وأشد بما يعقبه، وقد يؤيد أيضا بما أشرنا إليه لكن لا يخفى أن الكلام على التفسير الأول موافق لما قبله؛ لأن ضمير الجمع في الآية المتقدمة للكفار، والضمير في هذه ضمير الجمع فليكن لهم أيضا، ولأن الكفار أقرب المذكورين، فرجوع الضمير إليهم أولى، ولأن في التفسير الثاني تأويلات لا يحتاج إليها في الأول.
ومن هنا استظهره واستحسنه أبو حيان. ولعل مرجحاته أقوى من مرجحات الأخير عند من تأمل؛ فلذا قدمناه، وإن قيل: إذا جاءك التفسير عن الزمخشري، فحسبك، ويكتب –فالم- في المصحف -على ما قال الأجهوري- بغير نون، وقرأ مجاهد رضي الله تعالى عنهما –نزل- بفتح النون والزاي وتشديدها، وفي البحر أن –ما- يحتمل أن تكون مصدرية أي أن التنزيل، وأن تكون موصولة بمعنى الذي أي أن الذي نزله، وحذف العائد المنصوب في مثل ما ذكر شائع، وفاعل –نزل- ضميره تعالى، وجوز بعضهم كون –ما- موصولة على قراءة الجمهور أيضا، ويبعد ذلك بحسب المعروف في مثله أنها موصولة فافهم. زيد بن علي