ولا تركنوا إلى الذين ظلموا أي لا تميلوا أدنى ميل، والمراد بهم المشركون كما روى ذلك ، ابن جرير عن وابن أبي حاتم رضي الله تعالى عنهما، وفسر الميل بميل القلب إليهم بالمحبة، وقد يفسر بما هو أعم من ذلك كما يفسر ( الذين ظلموا ) بمن وجد منه ما يسمى ظلما مطلقا، قيل: ولإرادة ذلك لم يقل إلى الظالمين؛ ويشمل النهي حينئذ مداهنتهم وترك التغيير عليهم مع القدرة والتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم ومجالستهم من غير داع شرعي، وكذا القيام لهم ونحو ذلك، ومدار النهي على الظلم والجمع باعتبار جمعية المخاطبين، وقيل: إن ذلك للمبالغة في النهي من حيث إن كونهم جماعة مظنة الرخصة في مداهنتهم مثلا، وتعقب بأنه إنما يتم أن لو كان المراد النهي عن الركون إليهم من حيث إنهم جماعة وليس فليس ابن عباس فتمسكم أي فتصيبكم بسبب ذلك كما تؤذن به الفاء الواقعة في جواب النهي النار وهي نار جهنم، وإلى التفسير الثاني -وما أصعبه على الناس اليوم في غالب الأعاصير من تفسير- ذهب أكثر المفسرين، قالوا: وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مساس الناس النار فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم كل الميل، ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتهم، ويتعب قلبه وقالبه في إدخال السرور عليهم، ويستنهض الرجل والخيل في جلب المنافع إليهم، ويبتهج بالتزيي بزيهم والمشاركة لهم في غيهم، ويمد عينيه إلى ما متعوا به من زهرة الدنيا الفانية، ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية غافلا عن حقيقة ذلك ذاهلا على منتهى ما هنالك؟ وينبغي أن يعد مثل ذلك من الذين ظلموا لا من الراكنين إليهم بناء على ما روي أن رجلا قال لسفيان: إني أخيط للظلمة فهل أعد من أعوانهم؟ فقال له: لا أنت منهم والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم، وما أحسن ما كتبه بعض الناصحين للزهري حين خالط السلاطين، وهو -عافانا الله تعالى وإياك- من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله تعالى ويرحمك أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم الله تعالى بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيك صلى الله تعالى عليه وسلم وليس [ ص: 155 ] كذلك أخذ الله تعالى الميثاق على العلماء، قال سبحانه: أبا بكر لتبيننه للناس ولا تكتمونه واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت إنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم وسلما يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون الشك بك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله سقم وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، والسلام.
وعن ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملا، وعن الأوزاعي محمد بن سلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء، وفي الخبر من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله تعالى في أرضه، ولعمري إن الآية أبلغ شيء في التحذير عن الظلمة والظلم، ولذا قال جمع الدين في لاءين يعني -لا تطغوا ولا تركنوا- ويحكى أن الحسن: الموفق أبا أحمد طلحة العباسي صلى خلف الإمام فقرأ هذه الآية فغشي عليه فلما أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف الظالم.
هذا وخطاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بهذين النهيين بعد الأمر بالاستقامة للتثبيت عليها، وقد تجعل تأكيدا لذلك إذا كان المراد به الدوام والثبات، وعن أنه قرأ (تركنوا) بكسر التاء على لغة تميم. أبي عمرو
وقرأ قتادة وطلحة والأشهب، ورويت عن (تركنوا) بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وهي على ما في البحر لغة أبي عمرو قيس وتميم.
وقال إنها لغة أهل الكسائي: نجد وشذ –تركن- بالفتح مضارع ركن كذلك، وقرأ (ولا تركنوا) مبنيا للمفعول من أركنه إذا أماله، وقراءة الجمهور ابن أبي عبلة تركنوا بفتح الكاف، والماضي –ركن- بكسرها وهي لغة قريش، وهي الفصحى -على ما قال - وقرأ الأزهري ابن وثاب وعلقمة والأعمش، وابن مصرف، فيما يروى عنه (فتمسكم) بكسر التاء على لغة وحمزة تميم أيضا وما لكم من دون الله من أولياء من أنصار يمنعون العذاب عنكم، والمراد نفي أن يكون لكل نصير، والمقام قرينة على ذلك، والجملة في موضع الحال من ضمير (تمسكم ثم لا تنصرون من جهته تعالى إذ قد سبق في حكمه تعالى أن يعذبكم بركونكم إليهم ولا يبقي عليكم، و (ثم) قيل: لاستبعاد نصره سبحانه إياهم وقد أوعدهم العذاب على ذلك، وأوجبه لهم، وتعقب بأن أثر الحرف إنما هو مدخوله ومدخول (ثم) عدم النصرة وليس بمستبعد، وإنما المستبعد نصر الله تعالى لهم، فالظاهر أنها للتراخي في الرتبة لأن عدم نصر الله تعالى أشد وأفظع من عدم نصرة غيره، وأجيب بما لا يخلو عن تكلف، وأيا ما كان فالمقام مقام الواو إلا أنه عدل عنها لما ذكر.
وجوز القاضي أن تكون منزلة منزلة الفاء بمعنى الاستبعاد فإنه سبحانه لما بين أنه معذبهم وأن أحدا لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلا، ووجه ذلك بأنه كان الظاهر أن يؤتى بالفاء التفريعية المقارنة [ ص: 156 ] للنتائج إذ المعنى أن الله تعالى أوجب عليكم عقابه ولا مانع لكم منه، فإذن أنتم لا تنصرون فعدل عنه إلى العطف بثم الاستبعادية إلى الوجه الذي ذكره، واستبعاد الوقوع يقتضي النفي، والعدم الحاصل الآن فهو مناسب لمعنى تسبب النفي، ودفع بذلك ما قيل عليه: إن الداخل على النتائج هي الفاء السببية لا الاستبعادية ولا يخفى قوة الاعتراض، وفرق بين وجهي الاستبعاد السابق والتنزيل المذكور بأن المنفي على الأول نصرة الله تعالى لهم، وعلى الثاني مطلق النصرة